حرب جواسيس بين أميركا والصين

حرب جواسيس بين أميركا والصين

لطالما شُبّهت قضية التجسس بين الولايات المتحدة وخصومها، بقضية إبريق الزيت التي لا نهاية لها. وبينما ظلّت لفترة طويلة مع الصين، تتمحور غالباً حول “سرقة” بكين لحقوق الملكية الفكرية والاختراعات العلمية، وذات ضرر اقتصادي بالدرجة الأولى، تحولت اليوم إلى قضية ذات بعد أمني قومي، تضعها واشنطن على سلّم أولوياتها، وهو ما ينسحب أيضاً على الصين، التي تدخل مكافحة التجسس في منهاجها العلمي، بعدما باتت ترى احتدام الصراع مع الولايات المتحدة، أمراً حتمياً.

التجسس الصيني من منظور أميركي: التهديد الأخطر
ولم تترك الولايات المتحدة توصيفاً إلا واستخدمته للتهويل من خطر التجسس الصيني، الذي قالت الاستخبارات الأميركية عنه أخيراً إنه أولويتها، لما يشكّله من خطر “طويل الأمد” على سلامة الاقتصاد الأميركي والقيم الديمقراطية للولايات المتحدة. كذلك، تفعل الصين، التي لا تسمي غالباً الدولة المستهدفة بقوانينها لمكافحة التجسس بالاسم، لكن توسيعها لقانون مكافحة التجسس ودخوله حيّز التنفيذ في يوليو/تموز الماضي، جاءا في وقت لم يتمكن فيه الحوار مع الولايات المتحدة، المتقطع عبر زيارات ولقاءات لمسؤولي البلدين، من رأب قلة الثقة بين الطرفين، فيما تزداد حدة التوتر في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، وتكثف كل من بكين وواشنطن نشاطهما لتوسيع النفوذ في منطقة المحيطين الهادئ والهندي.

وصف مسؤولون أميركيون أنواعاً من الجواسيس بـ”محطمي الأبواب”

ووصفت لجنة في مجلس الشيوخ الأميركي، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التجسس الصيني، سواء عبر أفراد أو السيبراني أو حتى عمليات تشويه المعلومات السرّية، بأنها مثل “غوريلا تزن 600 رطل من المخاطر التجسسية الموجودة في غرفة”، معتبرة أنه الأخطر مقارنة بما تفعله روسيا وإيران وكوريا الشمالية. وعلى موقعه الإلكتروني، يؤكد مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (أف بي آي)، أن أعمال التجسس التي تقوم بها الحكومة الصينية والحزب الشيوعي الصيني، تشكل “تهديداً خطيراً”، وأن “مواجهة هذا الخطر أولوية” للمكتب.

رصد
“وول ستريت جورنال”: منطاد التجسس الصيني استخدم تكنولوجيا أميركية
وكان مدير “أف بي آي” السابق، كريستوفر راي، اعتبر في مداخلة في واشنطن، عام 2020، أن ما وصفها بأعمال التجسس والسرقة التي اتهم الحكومة الصينية بممارستها، تشكل “أعظم تهديد على المدى الطويل” لمستقبل بلاده. وفي مايو/أيار الماضي، زار مدير وكالة الاستخبارات الأميركي المركزية “سي آي إيه”، وليام بيرنز، بكين، حيث تصدر النقاش حول التجسس محادثاته، وذلك بعدما كان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ألغى زيارة لبكين كانت مقرّرة في فبراير/شباط الماضي، بعد إسقاط الجيش الأميركي منطاداً صينياً فوق الأراضي الأميركية، قالت واشنطن إنه استخدم لأغراض التجسس، وهو ما نفته بكين. ووصف بيرنز المنطاد بأنه “منصة ذكية”. وبالتزامن مع تحضير بلينكن لإجراء زيارته، في يونيو/حزيران الماضي، تسرّبت معلومات استخبارية عن موافقة كوبا على منح الصين إذناً لبناء منشأة تجسس على أراضيها، وهو ما نفاه البلدان.

ووسط ذلك، لا تبدو الصين أكثر ثقة بخصمها الأميركي. إذ في الأول من يوليو/تموز الماضي، دخل قانون مكافحة التجسس الصيني الموسع حيّز التنفيذ، والذي قالت بكين إنه يهدف “إلى تعزيز العمل المناهض للتجسّس والمعاقبة عليه والحفاظ على الأمن القومي وحماية مصالح الشعب الصيني”، وهو ما أبدت واشنطن توجسّها منه.

قانون موسع ومنهاج تعليمي
ودخل القانون الصيني حيّز التنفيذ، في وقت تتكثف فيه حرب التجسس بين البلدين، وهو ما تبدّى خصوصاً مع توالي التوقيفات في كلا البلدين، المرتبطة بالتجسس ونقل معلومات لأحد الطرفين، من قبل مواطنين أو أجانب. وفي آخر ما تسّرب أو خرج إلى الإعلام حول ذلك، ما نقلته أمس الاثنين صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين أميركيين، أكدوا للصحيفة، أن “مواطنين صينيين أحياناً دخلوا البلاد كسيّاح، تمكنوا من الوصول إلى قواعد عسكرية ومواقع أخرى حسّاسة في الولايات المتحدة، لحوالي مائة مرة خلال السنوات الأخيرة”.

وبحسب مصادر الصحيفة، فإن وزارة الدفاع الأميركية و”أف بي آي” ووكالات أخرى، أجروا مراجعة العام الماضي، في محاولة لتقليص مثل هذه الحوادث، والتي ينخرط فيها أشخاص وصفهم المسؤولون بـ”محطمي الأبواب”، بسبب محاولاتهم، سواء عن قصد أو بالصدفة، للدخول إلى قواعد عسكرية أميركية، ومنشآت أخرى، من دون التصريحات اللازمة. وهذه الحوادث تتنوع، من محاولة مواطنين صينيين الدخول إلى منشأة للصواريخ في ولاية نيو مكسيكو، وصولاً إلى اكتشاف أشخاص يمارسون رياضة الغوص، في مياه عكرة، قرب موقع حكومي لإطلاق الصواريخ في فلوريدا.

وتبدو هذه المحاولات، التي وصفها المسؤولون للصحيفة بأنها نوع من التجسس، وكأنها صمّمت وفق قولهم لاختبار الإجراءات الأمنية في المنشآت العسكرية الأميركية، وفي وكالات فيدرالية أخرى. وقالت المصادر إن الأشخاص المتورطين في هذه الممارسات، هم بشكل عام صينيون مدفوعون للعمل، وعليهم أن يقدموا تقاريرهم سريعاً للحكومة الصينية.

وغالباً ما تعلن أيضاً الصين، عن اعتقال مواطنين أو أجانب بتهمة التجسس، وكثيراً من المرات، ما يحصل ذلك، رداً أو ضغطاً على الولايات المتحدة، بعد إعلان الأخيرة قيامها بالمثل أو عن ممارسات تجسّسية صينية. علماً أن ليو بينغيو، وهو متحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن، نفى على الفور معلومات “وول ستريت جورنال”، أمس، مؤكداً أنها “ادعاءات مفبركة”.

وكان بحّاران في البحرية الأميركية (جينشا ووي ووينهينغ زاو)، يقيمان في كاليفورنيا، قد أدينا، بقضيتين منفصلتين، في 4 أغسطس/آب الماضي، بتقديم معلومات عسكرية حسّاسة للصين، بما فيها تفاصيل حول التدريبات العسكرية المتعلقة بالحرب، والعمليات البحرية، ومواد تقنية أساسية، وذلك من قبل محكمتين في سان دييغو ولوس أنجليس.

وبعد أيام قليلة من ذلك، اعتقلت الصين عاملاً في مجموعة صناعية عسكرية، بتهمة التجسس لوكالة “سي آي إيه”، وقالت وزارة أمن الدولة الصينية حينها، إن “زينغ قدّم معلومات عسكرية سرّية لسي آي إيه مقابل مبالغ مالية”، مضيفة أن المتهم “ذهب إلى إيطاليا للدراسة على حساب الشركة التي كان يعمل بها، وهناك التقى مسؤولاً في السفارة الأميركية اتضح أنه عميل في سي آي إيه”. ولفتت الوزارة إلى أنه “لاحقاً، طوّر زينغ حالة من الاعتماد النفسي على العميل، الذي استغل الوضع لضخّه (المتهم) بالقيم الغربية”. وأضافت أن العميل “وعد المتهم بمبالغ مالية طائلة ومساعدة عائلته على الهجرة للولايات المتحدة في مقابل معلومات عسكرية حسّاسة للصين، والتي كان بإمكان المتهم الوصول إليها من خلال وظيفته”.

الجامعات الصينية بدأت تطلب من كلياتها المختلفة فرض حصص حول حماية أسرار الدولة

وتتضمن القوانين الصينية في الأساس عقوبات قاسية في حق المتهمين بالتجسس، تتراوح بين السجن مدى الحياة والإعدام في حالات قصوى. ففي مايو الماضي، حكم القضاء الصيني على مواطن أميركي (78 عاماً) بالسجن مدى الحياة بتهم تجسس.

وبالإضافة إلى قانون مكافحة التجسس الموسع، الذي يضرّ أيضاً بالشركات الأجنبية العاملة في الصين، فإن المسألة تبدو وكأنها تبلغ بالنسبة للحزب الشيوعي الحاكم، حدّ الهوس، وهو أمر ينطبق إلى حد ما على الولايات المتحدة، التي تجد في التجسس الصيني “خطراً طويل الأمد”، و”تهديداً خطيراً”.

وبينما أكدت “وول ستريت جورنال” أمس، أن المسألة خطيرة بشكل أن الكونغرس الأميركي سيبحث تشريعاً حول ذلك، لأن الحوادث التي تتكرر تبدو خاضعة اليوم بشكل كبير لأحكام وقوانين الولايات المختلفة (كمثل الاشتباه بسبّاحين قرب منشأة حسّاسة)، فإن الصين ليست أقلّ حدة بالتعاطي مع المسألة.

وكتبت صحيفة “نيويورك تايمز” يوم السبت الماضي، أن الصين “ترى القوى التي تعمل على إضعافها في كل مكان: في الشركات متعددة الجنسيات، ومتغلغلة في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحاصر الطلاب الساذجين، وهي تريد من شعبها أن يرى هذه القوى أيضاً”. وذكرت الصحيفة أن الجامعات الصينية بدأت تطلب من كلياتها المختلفة فرض حصص حول حماية أسرار الدولة، حتى في اختصاصات مثل الطب البيطري. ولفتت إلى أنه حتى في حضانة في مدينة تيانجين، شرق البلاد، تمّ تنظيم لقاء لفريق العاملين فيها حول “كيفية فهم واستخدام” قانون مكافحة التجسس الصيني.

وذكرت وكالة “رويترز”، يوم الجمعة الماضي، أن مدينة شونغكينغ الصينية، التي تضم أكثر من 32 مليون نسمة، أصبحت تطبق نسختها الخاصة من قانون مكافحة التجسس الموسع، مطالبة المؤسسات فيها بإجراء اختبارات أمنية لدى تنظيمها رحلات لما وراء البحار، كما تطلب من المؤسسات الصينية التابعة للمدينة في الخارج اقتراح خطط لمكافحة التجسس.

(العربي الجديد)