أدت عملية “طوفان الأقصى” التى قامت بها حركة حماس فى 7 أكتوبر 2023 إلى مجموعة من الاحتمالات فى الأجلين القصير والمتوسط، ومن ثم إلى عديد من السيناريوهات فى ظل العمليات العسكرية الواسعة التى يقوم بها الجيش الاسرائيلى؛ من القصف الجوى المكثف، ونيران المدفعية، والعمليات البرية داخل قطاع غزة، وعمليات التدمير الواسعة للقطاع، والتهجير القسرى لسكان القطاع إلى الجنوب. وفى الوقت نفسه انهمار أنهار الدماء التى تُسال يوميا، وضحايا القصف والهدم، من الأطفال والنساء والشيوخ، وحالة الحصار والعقاب الجماعى للمدنيين، وتجاوز وانتهاك قانون الحرب، والقانون الدولى الإنسانى. هناك انتهاكات واسعة، تشكل جرائم حرب ضد المدنيين الأبرياء. هناك دعم أمريكى وأوروبى– بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا- وكندا لإسرائيل، اقتصاديا وعسكريا واستخباراتيا، وهو ما يثير مجموعة من الملاحظات حول أثر هذا العدوان الإسرائيلى على مستقبل قطاع غزة، والمسألة الفلسطينية.
من ناحية ثانية، هناك أسئلة عديدة حول انعكاس كل ذلك على الوضع الإقليمى، والعلاقات مع دول الجوار العربية لإسرائيل، وإيران وتركيا. وما أثر هذه العمليات العسكرية الواسعة والمدمرة، وضحاياها، الذين يتزايدون كل ساعة، على الوعى العربى شبه الجمعى، ومسألة العروبة، وأولويات اهتمام بعض من اتجاهات الرأى العام العربى بالقضية الفلسطينية ضمن ضغوط وأولويات اهتماماته الداخلية، لا سيما داخل الأوساط الجيلية الشابة. وما أثر هذا العدوان الإسرائيلى على احتمالات صحوة إسلامية جديدة، وعودة الظواهر الإرهابية على المستوى الدولى؟ كل هذه الأسئلة ستحاول هذه الدراسة الإجابة عليها.
أولًا: ملاحظات حول بعض المسارات المحتملة للعمليات العسكرية الإسرائيلية
ساهمت عملية “طوفان الأقصى” التى قامت بها حركة حماس ضد إسرائيل فى 7 أكتوبر 2023، وعلى نحو مفاجئ، فى إحداث عديد من التغيرات فى مسار الصراع الفلسطيني- الاسرائيلى، وإزاء بعض مصادر القوة الهائلة التى تمتلكها قوات الاحتلال الإسرائيلى وطابعها الاستيطانى فى الضفة الغربية، والمناطق القريبة والمحازية للقطاع، وعلى رأسها ما يلى:
1- صدمة المفاجأة، والتخطيط السياسى والعسكرى للعملية، والأداء الذى اتسم بالكفاءة والذكاء والخيال العسكرى، على الرغم من محدودية التقنيات العسكرية.
2- انكشاف تقصير أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية الداخلية (الشاباك، وأمان)، والخارجية (الموساد) وتحليلهم للمعلومات، وتوقعاتهم بشأن سلوك حركة حماس، وهو ما يشير إلى بعض من التنميط فى النظر إلى المؤشرات والمعلومات المتاحة لديهم، فى تقييمها، وتحليلها، ومآلاتها. مرجع ذلك بعض التصورات النمطية الناتجة عن مراكمة التقديرات السابقة حول سلوك حركة حماس، وأساليب عملها فى المواجهات السابقة معها.
3- صدمة قيادة الدولة، من رئيس الوزراء والائتلاف الحاكم والمعارضة، بسبب الطابع المفاجئ لعملية “طوفان الأقصى”، والتى كشفت عن بعض من الاستكانة إلى “غطرسة القوة”، وهو ما سيؤدى على نحو ما إلى إجراء تحقيقات داخلية عندما تسكت الطائرات والمدافع والصواريخ فى هذه العملية –أيا كانت نتائجها- على نحو ما جرى بعد صدمة مفاجأة حرب أكتوبر 1973، وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة مثل “لجنة أجرانات” بعد حرب أكتوبر، والتي أدت إلى نهاية بعض الأدوار السياسية، وأيضا بعض القادة العسكريين! المرجح أن التحقيقات التى ستُجرى قد تؤدى إلى نهاية بعض السياسيين وفي مقدمتهم بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع وآخرين، وبعض القادة العسكريين الكبار، ورجال الشاباك وأمان وآخرين، أيا كانت نتائج الحرب المروعة على قطاع غزة التى تقوم بها القوات الإسرائيلية، ونتائج التدخل العسكرى الميدانى للقطاع، سواء تم اغتيال وقتل بعض قادة الحركة، أو القضاء على الحركة كلها. يمكن القول إن ثمة احتمالا مرجحا نحو حدوث تغير فى الخريطة السياسية الداخلية فى إسرائيل، ناهيك عن بعض التغير فى الفكر العسكرى والاستخباراتى.
4- فى ظل سيناريو تحطيم حركة حماس كليا، أو جزئيا، سوف تتغير أيضا خريطة الأراضى الفلسطينية فى القطاع، فى ظل إفراغ منطقة شمال غزة وترحيل أقسام واسعة من السكان إلى الجنوب، من خلال خلق منطقة فراغ فلسطينى، وأمنى لإسرائيل.
5- فى ظل الضربات الجوية المكثفة للمبانى فى القطاع، وجنوبه ووسطه وصلت إلى تدمير أربعين بالمائة من مبانى القطاع حتى لحظة كتابة هذه الدراسة، وارتفاع أعداد القتلى من سكان غزة إلى 10022، منهم 4104 من الأطفال (حتى مساء الإثنين 6 نوفمبر 2023). ومع الهجوم البرى المتدرج بالدبابات والمدرعات والقصف المدفعى، تزايدت أعداد النازحين من الشمال إلى جنوب غزة لأكثر من 750 ألف نازح. هذا الوضع الإنساني القاسي من المتوقع أن يزداد تعقيدا في ظل عدم صدور قرار من مجلس الأمن -حتى كتابة هذه الدراسة- بوقف إطلاق النار بين الجانبين، أو عدم امتثال الحكومة الإسرائيلية لمثل هذا القرار حال صدوره!
6- فى ظل سيناريو القضاء على غالبية أو بعض تنظيم حماس وغيرهم من الفصائل ستُطرح مسألة مستقبل إدارة القطاع. ولا تزال الحكومة الإسرائيلية لديها بعض من عدم وضوح الرؤية والارتباك بشأن هذه المسألة؛ فهل ستتولى كسلطة احتلال إدارة القطاع، أم سيتم تسليم إدارة القطاع إلى السلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية؟ أى من هذه السيناريوهات لن تتم فى سلاسة ويسر، وإنما سيواجه بمجموعة من الصعوبات مرجعها تركيبة السكان فى القطاع، واستقرار فكرة المقاومة بين الفلسطينيين والتي تتجاوز السياق أو الإطار الفصائلي. أضف إلى ذلك صعوبة تطبيق الأهداف الإسرائيلية المتمثلة في القضاء على حركة حماس.
7- السيناريوهات السابقة تعتمد على عدم التدخل الدولى لفرض إطلاق النار من الجانبين، وهو ما يبدو حتى الآن صعبا فى ظل الدعم السياسى والدبلوماسى والاقتصادى والعسكرى الأمريكى والبريطانى والفرنسى والألمانى والإيطالى والكندى، لإسرائيل، تحت زعم حقها فى الدفاع الشرعى عن نفسها، واتهام حماس كمنظمة إرهابية ومن ثم العمل على تصفية الحركة، فى ظل مناورات لفظية من غالبهم بضرورة مراعاة إسرائيل لقانون الحرب فى عملياتها العسكرية ضد القطاع.
8- فى ظل الدعم الأمريكى العسكرى والاقتصادى لإسرائيل، وقول بايدن إن دعم بلاده لإسرائيل “ثابت كالصخر”، قامت الإدارة الأمريكية بإرسال حاملة الطائرات الأمريكية “جيرالد فورد” USS Gerald Ford، ثم حاملة الطائرات الهجومية “يو إس إس داويت أيزنهاور” USS Dwight D. Eisenhower، وذلك كرادع ضد أي عمليات ضد إسرائيل، وكرسالة إلى إيران وحزب الله، بعدم التدخل وعدم توسيع الحرب بين إسرائيل وحزب الله، وهو تدخل أمريكى مكثف ذو قدرات متطورة للإنذار المبكر والدفاع، والمعلومات الاستخباراتية.
لاشك أن هذا الدعم العسكرى يرمى إلى إبراز قوة الردع إزاء إيران وحزب الله، وردعهما عن عدم التدخل فى العمليات العسكرية والحرب، إلا أنه فى حال تصفية حركة حماس أو بعضها، وخاصة كتائب القسام، بعد التدخل البرى للجيش الإسرائيلى متى تم ذلك، وتفاقم الوضع الإنسانى فى القطاع، قد يتدخل حزب الله فى الصراع جزئيا، أو على نحو متسع المدى، بديلا عن بعض عمليات القصف الصاروخى المحددة جدًا. فى هذه الحالة يمكن توقع بعض العمليات ضد القوات الأمريكية فى المنطقة، كما يحدث فى العراق الآن، من بعض كتائب الحشد الشعبى فى العراق، وبعض الموالين لها، وقد يؤدى ذلك إلى بعض من الفوضى فى الإقليم، ومن ثم يصعب الوصول إلى وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، وفى جنوب لبنان، لأن إسرائيل ستقوم بضرب مواقع الحزب، وأيضا المراكز الحيوية فى لبنان، على نحو ربما أوسع مما تم فى حرب 2006.
9- تصفية حركة حماس إذا ما تم سيؤدى إلى فقدان إيران أحد أوراقها السياسية والعسكرية الهامة فى الإقليم العربى، ومن ثم نفوذها فى المنطقة، لصالح محاولات تركية ترمى إلى تمدد دورها، من خلال ممارسة بعض الضغوط المحدودة على حلف شمال الأطلسى، والعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفقا لمناوراتها فى هذا الصدد مع روسيا، من ثم التهديد بورقة اللاجئين السوريين فى تركيا، وتركهم للهجرة تجاه دول الاتحاد الأوروبى! أو التهديد بوقف عضويتها فى حلف شمال الأطلسى على أكثر تقدير! فى هذه الحالة قد تقوم إيران ببعض المناوشات فى المنطقة، وقد تدفع الحوثيين فى اليمن لإطلاق رشقات متعددة بالصواريخ تجاه بعض الأهداف، وهو ما قد يؤدى إلى بعض من الاضطراب في الإقليم.
10- قد لا تسعى إيران إلى توسيع نطاق العمليات حفاظا على وضع بعض حلفائها فى المنطقة، وعلى عدم تدخل الولايات المتحدة فى العمليات، أو ضد إيران، وأيضا لمناوراتها حول الملف النووى، وحرصا منها أيضا على الحفاظ على حزب الله، ولاعتبارات تتعلق بحماية لبنان من تدخل عسكرى إسرائيلى قد يؤدى إلى تدمير لبنان على نحو أكثر مما حدث فى حرب 2006.
11- فى حال توسع نطاق العمليات خارج قطاع غزة مع المجموعات القريبة من النفوذ الإيرانى فى المنطقة، فسوف يؤثر ذلك على الأوضاع الداخلية فى بعض الدول القريبة من إسرائيل. وقد يؤدى ذلك إلى قطع العلاقات الدبلوماسية لفترة لمواجهة الضغوط الداخلية، والتدخل الإسرائيلى، وفيضان الدماء والأشلاء والدمار للمبانى فى قطاع غزة، على نحو يؤدى إلى تنشيط الضغوط الداخلية على هذه الحكومات.
بعض الافتراضات والاحتمالات السابقة ترتكز على احتمالات توسع عدم الاستقرار والاضطراب السياسى الإقليمى النسبى، وثمة أبعاد أخرى خاصة بالأوضاع الداخلية فى أعقاب عمليات القصف الجوى المكثف، وتعاظم أعداد القتلى والجرحى بين صفوف المدنيين الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، وعدم التزام إسرائيل بقانون الحرب، والقانون الدولى الإنسانى! والسؤال الذى يُطرح هنا ما الذى أدت إليه هذه العمليات العدوانية غير المشروعة، وفق القانون الدولى الإنسانى وقانون الحرب، على حالة الوعي العربي للأجيال الشابة؟ هذا ما سنتناوله فى الجزء الثاني.
ثانيا: اليقظة النسبية للوعى العربى للأجيال الشابة ومآلاتها
أدت العمليات العسكرية المكثفة على القطاع إلى بعض الانعكاسات على الوعى شبه الجمعى لدى قطاعات شعبية، وعلى بعض قطاعات الطبقات الوسطى فى عديد من البلدان العربية مثل مصر وتونس والجزائر والمغرب والعراق والأردن، وذلك فى ظل أزمات اقتصادية واجتماعية. وسوف تتطور الأمور لاحقا إذا تم التدخل البرى الشامل للقوات الإسرائيلية فى القطاع، وهى عملية صعبة، وليست بسيطة، لأن القتال لا يتم بين جيوش، وإنما بين جيش وجماعة مسلحة، وستكون أقرب إلى حرب عصابات بين حماس والجهاد الإسلامي من ناحية، والجيش الإسرائيلي من ناحية أخرى، ومن ثم لن تكون محضُ عمليات تتسم بالسهولة داخل القطاع، خاصة فى ظل وجود شبكة من الأنفاق تحاول القوات الإسرائيلية ضربها بالطيران، إلا أن ذلك لم يحقق الأهداف المرجوة من ورائها حتى لحظة كتابة هذه الدراسة الوجيزة. وقد تكررت المحاولات الإسرائيلية للدخول البرى للقطاع لكنها ظلت عمليات محدودة، حيث تم تأجيل هذا التدخل وفق ما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، نقلا عن مصادر من المسئولين الإسرائيليين والأمريكيين، بهدف “منح الولايات المتحدة الوقت الكافى لتتمكن من إرسال الدفاعات الصاروخية للمنطقة” وفق موقع سكاى نيوز العربية (الخميس، 26/10/2023). وقامت القوات الإسرائيلية بالتدخل البرى عديد المرات فى هذا الصدد فى شمال، ثم بعض الأماكن وسط القطاع.
من ناحية أخرى، تعتزم وزارة الدفاع الإسرائيلية تمديد عمليات إخلاء التجمعات السكانية على طول الخطوط مع قطاع غزة ولبنان إلى نهاية العام، وهو ما سيكلف الدولة مليارات الدولارات، وفق هيئة البث العامة “كان”، وهو ما تعارضه بعد الوزارات وترى “إنها فكرة سابقة لأوانها”. وفى هذا الصدد نزح نحو200 ألف إسرائيلى داخليا بسبب الحرب مع حماس فى الجنوب، والمناوشات مع حزب الله (سكاى نيوز عربية 26/10/2023).
ما الذى أحدثته وقائع العدوان الإسرائيلى على القطاع؟
إن ارتفاع أعداد القتلى إلى أكثر من عشرة آلاف إنسان في غزة، وعمليات العقاب والقتل الجماعى والتهجير القسرى داخل القطاع، وبعض من التطهير العرقى، والحصار الجماعى، والسعى إلى تدمير القطاع بالكامل، وانهيار شامل للقطاع الصحى، والأهم فى ظل هذه الأوضاع المأساوية هي تدفقات الصور والفيديوهات على شاشات التلفازات الفضائية العربية والأجنبية، وانعكاساتها على غالبية الشرائح الاجتماعية داخل البلدان العربية، وهو ما أدى إلى ما يلى:
1- إعادة إحياء جزئية للفكرة العربية الجامعة على مستوى الشعور شبه الجمعى داخل البلدان العربية وخاصة الأجيال الشابة والمراهقين، سواء الدول التى لديها علاقات مع إسرائيل أو الدول التى لا تزال ترفض ذلك كالجزائر وتونس وليبيا، خاصة بعد أن تراجعت الفكرة القومية العربية التى كانت تُطرح فى المرحلة الكولونيالية وما بعدها فى ظل حركات التحرر الوطنى العربية، تحت تأثير بعض المفكرين العرب، والحركة الناصرية، وحزب البعث العربى الاشتراكى فى سوريا والعراق وبعض ممثلى هذين التيارين فى لبنان، وبعض الدول العربية الأخرى.
لقد توارت هذه الفكرة فى ظل عمليات بناء الدولة الوطنية فى غالب هذه البلدان، ومحاولات بناء هويات وطنية تتمايز عن الفكرة العربية الجامعة، ومنذ هزيمة يونيو 1967. وبرزت أزمات الهوية، وتفاقمت بعد حرب أكتوبر1973، وبدأت حركات الإسلام السياسى وغيرها من الحركات الراديكالية العنيفة –الإخوان المسلمين والجماعات السلفية، والجهاد، والتوقف والتبين فى مصر، ثم القاعدة، وتنظيم النصرة، وداعش.. الخ- وهو ما أدى إلى الصراع بين الفكرة الإسلامية الجامعة حول الخلافة الإسلامية، وبين الفكرة العربية الجامعة، وبين دعاة كلا الفكرتين، والفكرة الوطنية التى تحاول الأنظمة السياسية الحاكمة بناءها.
لقد أدت هذه الظروف إلى تزايد الأزمات الداخلية، والصراعات الهوياتية الناتجة عن الفشل فى سياسات الاندماج الوطنى، والإقصاء الهوياتى فى بعض المجتمعات الانقسامية، باستثناء الدولة القومية فى مصر ودولة المخزن فى المغرب.
كل هذه الأسباب، وغيرها أدت إلى تراجع الفكرة القومية العربية الجامعة لصالح الصراعات الهوياتية فى عدد من البلدان العربية بدرجات مختلفة.
أدى ذلك أيضا إلى إضعاف الشعور القومى العربى شبه الجمعى، وهو ما أثر على غالب عديد الأجيال فى العالم العربى. أدت أيضا الانتفاضات الجماهيرية واسعة النطاق فيما أطلق عليه مجازا الربيع العربى- استعارة من الربيع الأوروبى فى نهاية القرن التاسع عشر، وربيع براغ- إلى تبادل عفوى وشبه منظم أيضا للخبرات، والتأثيرات المتبادلة بين الشعوب العربية بعضها بعضا فى تونس ومصر والأردن والمغرب واليمن وسوريا والسودان، إلا أن تعثر عمليات الانتقال السياسى أدت إلى العودة إلى ظاهرة موت السياسة فى بعض هذه البلدان، خاصة بعد انفجار الأزمات الاقتصادية، وهو ما أنتج حالة من “الأنا مالية” الجماعية نحو المشاكل والاهتمامات بالقضايا الداخلية فى هذه البلدان، وبمشاكل التطور السياسى، وحصار المجال العام، والمشكلات الكبرى لاقتصاداتها! ودفعت الأجيال الشابة وصغار السن إلى التفكير والاهتمام المتمركز حول مصالحها واهتماماتها الذاتية فى ظل ندرة الفرص، وتزايد معدلات البطالة!
2- أدت هذه التغيرات السوسيو- اقتصادية، والسوسيو- سياسية إلى بعض التراجع فى الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وهو ما بدأ بعد اتفاق أوسلو -سبتمبر1993- والتفاهمات بين إسرائيل وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وملامح الحكم الذاتى الانتقالى، وتفاقم المشكلات فى إدارة السلطة فى الأراضى الفلسطينية، وشيوع أشكال من الفساد والصراعات البينية داخلها، وفشلها فى الحيلولة دون تمدد عمليات الاستيطان الإسرائيلى فى الضفة ومحيط قطاع غزة، وأيضا الفشل فى إمكانية الوصول إلى حل الدولتين أو حل مشكلة القدس، بسبب تعنت وصلف الحكومات الإسرائيلية. ولم تستطع السلطة الفلسطينية بعد وفاة عرفات أن تؤسس لوحدة وطنية بين قطاع غزة والضفة الغربية.
من ناحية أخرى، أدت الشيخوخة الجيلية والسياسية لقادة السلطة، وصراعاتهم، إلى عدم القدرة على بناء الحد الأدنى من التوافق الوطنى مع حركة حماس والجهاد الإسلامى فى قطاع غزة. لا شك أن الصراعات بين السلطة وحركة حماس أدت إلى فوز حماس بـ74 مقعدا من بين 132 مقعدا، فى حين أن فتح حصلت على 45 مقعدا، ومن ثم فازت حماس بالأغلبية العظمى من مقاعد الدوائر الانتخابية، وكانت الأكثر تقدما على القوائم الأخرى، أدى ذلك كله إلى تفاقم الانقسامات الفلسطينية الداخلية. من ناحية ثالثة، كانت حركة حماس هي الطرف الفاعل فى المواجهات مع إسرائيل خلال السنوات الأخيرة.
من هنا اكتسبت حماس –وقواعدها الاجتماعية والأيديولوجية الإسلامية الأصولية المتشددة – وصفها كحركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلى الاستيطانى، وتراجع الوزن السياسى للسلطة الفلسطينية، واستمرارية الخلافات الحادة فى سياسة كليهما، وهو ما أدى إلى تراجع الاهتمام بما يجرى بين كلا الطرفين، لدى بعض قطاعات الرأى العام العربى. وساهمت سياسة تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل فى تراجع أولوية القضية الفلسطينية، وحل الدولتين، خاصة بعد اتفاقات التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب بوساطة أمريكية.
3- لا شك أن الولايات المتحدة أرادت نسج شبكة من العلاقات بين دول الخليج وإسرائيل. وبعض هذه الدول، مثل السعودية وقطر لديها تفاعلات غير رسمية مع إسرائيل، ودخلت السعودية فى مشروع الممر الاقتصادى الجديد الذى يربط بين الهند ودول الخليج وإسرائيل وصولا إلى أوروبا، وذلك عبر بحر العرب من الهند إلى الإمارات العربية المتحدة، ثم المملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل قبل أن يصل إلى أوروبا، وذلك لمواجهة مشروع الحزام والطريق الصينى، وربما محاولة لتقليل الوزن الجيو-سياسى والاقتصادى لقناة السويس.
لقد ساهمت عمليات التطبيع السياسى والدبلوماسي بين إسرائيل وكل من المغرب والإمارات والبحرين، والتطبيع الفعلى –من خلال بعض الإجراءات كفتح المجال الجوى السعودى أمام الطيران الإسرائيلى وغيرها من الإجراءات- ومعها مباحثات بعضها معلن إعلاميا لما يجرى فى الكواليس للتطبيع مع المملكة العربية السعودية، ساهمت فى تراجع الاهتمام العربى بحل القضية الفلسطينية.
كل هذه الإجراءات التطبيقية استهدفت إحداث تغيرات جيو- سياسية، واقتصادية فى المنطقة، من خلال توسيع التعاون مع إسرائيل، ولعب دور قيادى من جانب بعض دول المنطقة، واعتبار التعاون الوثيق مع إسرائيل مدخلا من مداخل العلاقات مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى.
4- السؤال الذى نطرحه هنا ما الذى تحدثه المواقف السياسة المختلفة التى تعكس المصالح الوطنية، من منظور الطبقات السياسية الحاكمة عربيا، على اتجاهات الرأى العام العربى؟ بعد تراجع الاهتمامات بالقضية الفلسطينية، وتكريس ثقافة الاعتياد على هذا التراجع، والمنازعات بين السلطة الوطنية فى رام الله، وبين حماس والجهاد الإسلامى فى قطاع غزة!، واعتياد تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل –التطبيع الرسمى واللارسمى- وأيضا بعض الاتجاهات شبه العلمانية التى كانت تنظر إلى حماس كسلطة أصولية ذات أيديولوجيا دينية تتعارض مع مواقفها السياسية، بل واعتياد عمليات الرشق الصاروخى للحزام الاستيطانى الإسرائيلى حول قطاع غزة، أو لمناطق أخرى، ولا يؤدى إلى نتائج مؤثرة فى العلاقة بين إسرائيل وحماس سوى الضحايا من الشهداء وتحطيم المبانى فى مناطق متعددة من القطاع! لقد بدا بعد عملية طوفان الأقصى أن العملية وما انطوت عليه من مفاجأة، وبعض الذكاء، مما شكل صدمة لإسرائيل، بدا أن هذا الخطاب شبه العلمانى فى مأزق، سواء فى المزاوجة والاندماج بين حماس كإيديولوجية إسلامية إخوانيه، وبين حماس كحركة تحرير وطن فلسطينية، على نحو وضع هذه المواقف فى مأزق. والمرجح بعد انتهاء العمليات وارتفاع أعداد القتلى والمصابين سيُطرح مجددا السؤال حول جدوى هذه السياسة الحمساوية، وبعد صمت المدافع، وغارات الطائرات وقصفها المدمر والمميت من بعضهم داخل قطاع غزة أو خارجها مثل كل حرب بين إسرائيل وحماس والجهاد الإسلامى!.
ثمة عديد التغيرات فى هذا الصدد يمكن لنا رصد بعضها فيما يلى:
1- أدت عملية “طوفان الأقصى” إلى كسر حالة “الأنا مالية” شبه الجماعية لدى شرائح اجتماعية شعبية مختلفة، خاصة بين الأجيال الشابة، والأصغر سنا الذين لم يعايشوا الصراع العربى– الإسرائيلى، والحروب التى نشبت بين الدول العربية وإسرائيل فى الأعوام 1948، 1956، 1967، 1973، ومن ثم لم تحمل ذاكرتهم شبه الجماعية آثار هذه الحروب، ربما بعض المعلومات العامة من خلال السرديات السياسية والعسكرية الرسمية، ومن بعض السرديات السينمائية، ومعه غالب الأغانى الفردية والجماعية الحماسية وموسيقاها. المواجهات المتكررة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل من وقت إلى آخر قد يهتم بها بعض الأجيال الشابة، إلا أن ثقافة الاعتياد عليها لا تستنفر المشاعر والأحاسيس إزاءها إلا قليلًا، خاصة أن الأجيال الجديدة الشابة والأصغر سنا هى جزء من سياقات مأزومة، وسياسات وشعارات تركز على أن هذا البلد أو ذاك ومصالحه أولا لحل مشكلاته المختلفة! ثمة تراكم لهذه الشعارات الهادفة إلى تكوين الوطنيات العربية، وحدودها، وهشاشة مفهوم الوطنية –باستثناء مصر والمغرب إلى حد ما- ومن ثم إضافة أولًا: لاسم ورمزية كل بلد، هو جزء من سياسات بناء المفهوم الوطنى فى الوعى الجمعى للمكونات المختلفة، وهوياتها المتنافسة، والمتصارعة، والمتوترة داخل كل بلد عربى انقسامى فى تشكيلة العرقى والدينى والمذهبى واللغوى والطائفى والقبلى والعشائرى، واللغوى والمناطقى.
ساهم موت السياسة فى ظهور أولوية النزاعات الهوياتية، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية فى غالب الدول العربية، وتداخل الدين وأدواره الوظيفية فى السياسة والحياة اليومية من قبل السلطات الحاكمة، ومعارضاتها من الجماعات الإسلامية السياسية. ترتب على ذلك تراجع أولوية ومركزية المسألة الفلسطينية فى السياسات الخارجية لعدد من الدول العربية.
أدت عملية طوفان الأقصى لحماس إلى تنشيط الذاكرات الجماعية العربية، خاصة الأجيال الشابة وصغيرة السن، وخاصة بالنظر إلى تخطيط العملية، وخيالها العسكرى، وعنصر المفاجأة، وتطوير بعض الأسلحة المتاحة لكتائب القسام ومعهم الجهاد الإسلامى، أدت إلى حالة من إيقاظ الوعى شبه الجماعى فى غالب البلدان العربية، خاصة فى ظل العمليات العسكرية الإسرائيلية المفرطة فى كثافتها، وحجم النيران، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتحطيم مدن القطاع، وتحويل بعضها إلى حطام ورماد، وشلال من الدماء للأبرياء، دونما مراعاة لقانون الحرب، والقانون الدولى الإنسانى. وترافق مع هذه العلميات العسكرية الكبرى، والقصف الجوى والمدفعى والاغتيالات، الدعم المطلق من جانب الولايات المتحدة ورئيسها بايدن، ووزير خارجيته بلينكن، وحكومته، والقيادات الأوروبية الفرنسية والبريطانية والألمانية والإيطالية والأسبانية، ناهيك عن رئيس الحكومة الكندية… دعم سياسى واقتصادى وعسكرى لحق إسرائيل فى الدفاع الشرعى عن نفسها ضد حركة حماس. بل طالب الرئيس الفرنسي ماكرون بتحالف دولى ضد حماس بوصفها جماعة إرهابية، بقطع النظر عن تردد الدول العربية فى المشايعة العلنية لهذا المقترح بقطع النظر عن حقيقة مواقف بعضها الرافض للأصولية الدينية الحمساوية وممارساتها فى قطاع غزة!
كل هذه التغيرات أدت إلى انفجار التظاهرات فى تونس والمغرب والجزائر ومصر ضد السياسة الإسرائيلية وعملياتها العسكرية لتدمير حماس وقطاع غزة، ودفعها للسكان فى شمال القطاع للنزوح قسريا إلى جنوب القطاع المكتظ بالسكان.
إن نظرة على هذه المظاهرات تشير إلى هيكل الأعمار من سن الحادية عشر إلى الثانية وعشرين عاما، مع بعض الأكبر سنا عن هذه الفئة العمرية، وهو ما يعكس حيوية جيلية، وتنشيط لذاكرات وإعادة تشكيلها وبنائها لدى بعض المشاركين فى هذه التظاهرات، وبعضهم ينتمون لفئات اجتماعية شعبية، وطلاب جامعات، وأيضا لشرائح من الفئات الاجتماعية الوسطى.
2- تشكل التركيبة الجيلية الجديدة إفاقة للعناصر الشابة، وصغيرة السن، ومعها مظاهرات وهتافات الأطفال فى بعض المدارس الابتدائية، فى بعض الأحياء الشعبية، وارتفاع صوت الخطاب الشعارى الراديكالي المعادي لإسرائيل، على نحو يؤشر إلى أن خطاب التسوية السلمية، والسلام، والتطبيع مع إسرائيل لم يستطع أن يؤثر على الأجيال الشابة، ويرجع ذلك إلى السلوك السياسى والعسكرى الإسرائيلى “المتغطرس”، وانتهاكاته للشرعية الدولية والقانون الدولى الإنسانى.
إن نظرة على التظاهرات، ولغة التواصل الاجتماعى، وخاصة خطابات المنشورات –على الفيس بوك رغم تقييده- والتغريديات على منصة X، فى تونس والجزائر والمغرب ومصر، تشير إلى أن عملية طوفان الأقصى، وعملية السيوف الحديدية، كليهما ساهما فى عودة النزعة الراديكالية إلى الوعى شبه الجمعى للأجيال الشابة الجديدة، وصغار السن، وذلك على الرغم من كل الجهود التى بُذلت فى مجال الترويج لثقافة السلام والتطبيع فى المنطقة، ومن ثم شكلت ردا شعبيا عليها، وساهمت عملية طوفان الأقصى فى إعاقة جزئية لهذه العلاقات الدبلوماسية.
لا شك أن يقظة الوعى الجيلى الشبابى بالفكرة العربية، وبالقضية الفلسطينية، يحتاج إلى تبلور بعيدا عن النزعة الشعاراتية، من أجل تأصيل هذا التوجه فى إدراك ووعى وتكوين بعض من أبناء الفئات الوسطى –الوسطى والوسطى- الصغيرة داخل هذه الأجيال، حتى لا يكون محضُ مشاعر صاخبة، وذات طابع مرحلى مرتبط بعمليات السيوف الحديدية إزاء طوفان الأقصى، وهو أمر يحتاج إلى سياسات تعليمية وتربوية وثقافية وإعلامية.
***
لقد أثارت عملية طوفان الأقصى أسئلة وتغيرات مهمة فى الضمير الجمعى العربى، وأيضا انعكاسات القصف الإسرائيلى بالطائرات والصواريخ والتوغل البرى، وربما الغزو البرى الكامل للقوات الإسرائيلية بالدبابات والمدرعات.. الخ داخل شمال غزة، صوب وسطها ثم جنوبها، بعض من التغير النسبى والجزئى فى بعض اتجاهات الرأى العام الغربى والعالمى، وهو ما سوف يزداد فى ظل التراجيديا الإنسانية للفلسطينيين الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والعقاب والحصار الجماعى للقطاع.
من مجمل ما سبق يمكن القول إن عملية “طوفان الأقصى” ستشكل نقطة تغير فى مسارات السياسة فى إقليم الشرق الأوسط. الأهم هو عودة روح التضامن الجماهيرى للأجيال الشابة مع الفلسطينيين، وأيضا إحياء الفكرة العربية شعبيا، على أنقاض فكرة كل بلد أولا، من حيث مصالحه الوطنية بقطع النظر عن القضايا العربية الجامعة.