في الأسابيع الأخيرة، اعترفت بعض دول الكاريبي (ترينيداد وتوباغو وجزر البهاما وجامايكا وبربادوس) بالدولة الفلسطينية على حدود 1967. وفي السياق ذاته، تبنى قادة العديد من دول أمريكا اللاتينية والكاريبي خطابًا ناقدًا بشدة لإسرائيل بسبب حربها في غزة. ولكن من اللافت للنظر أن هذا الخطاب المتشدد جاء من داخل دول كانت حليفة تاريخيًا لواشنطن وتل أبيب، كما هو الحال مع كولومبيا التي كانت من بين أوائل الدول التي انخرطت في صفقات أسلحة مع إسرائيل، وتبادلت معها المعلومات الاستخباراتية والتكنولوجيا العسكرية. إضافة إلى التغير في موقف دول الكاريبي نحو دعم القضية الفلسطينية، على الرغم من تلقيها – على مدار عدة سنوات- الدعم الفني والإنمائي من إسرائيل.
حتى الدول التي تعتبر نفسها محايدة بشأن الصراع – مثل البرازيل والمكسيك – أصدرت إدانات شديدة للهجمات الإسرائيلية على المدنيين في غزة، بالرغم من إدانتها لهجمات حماس في 7 أكتوبر 2023. فقد وصف الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة بقوله: “هذه إبادة جماعية”.. هذه ليست حربًا”، وهو الأمر الذي دفع تل أبيب إلى اعتبار دا سيلفا “شخصًا غير مرغوب فيه” في إسرائيل. وتُثير هذه التحركات اللاتينية الداعمة للفلسطينيين التساؤل حول العوامل الدافعة لدول أمريكا اللاتينية والكاريبي لمساندة القضية الفلسطينية وإدانة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة.
إجراءات ملموسة
اتخذت بعض دول أمريكا اللاتينية مواقف غير مسبوقة في دعم القضية الفلسطينية، والتي لم تقتصر على بيانات الشجب والإدانة، بل تبنت أيضًا إجراءات دبلوماسية محددة، وكان من بينها:
1- اتخاذ خطوات دبلوماسية تصعيدية: عقب اندلاع الحرب في غزة، كانت بوليفيا أول دولة في أمريكا اللاتينية تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل متهمة إياها بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” في غزة في أكتوبر 2023. وحذت دول أخرى في أمريكا اللاتينية، مثل كولومبيا وهندوراس وتشيلي، وجميعها حكومات يسارية، حذو بوليفيا، وقامت باستدعاء دبلوماسييها من إسرائيل. وسبق أن قطعت بوليفيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل في عام 2009 بسبب أفعالها في غزة. ولم تتم عودة العلاقات إلا في عام 2020. والآن، بوليفيا هي واحدة من خمس دول في أمريكا اللاتينية لا تعترف بإسرائيل، وهذه الدول هي: فنزويلا التي أنهت علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب في عام 2009، وكوبا التي قطعت العلاقات في عام 1973، وكولومبيا التي اتخذت القرار نفسه في 1 مايو 2024، وبليز التي تبنت الخطوة نفسها في 11 نوفمبر 2023[1].
2- السعي لمعاقبة إسرائيل في المحاكم الدولية: ترفض دول أمريكا اللاتينية الرئيسية دعم إسرائيل بسبب عملياتها العسكرية في غزة بينما تدين حماس أيضًا بسبب هجومها على إسرائيل. وفي أوائل يناير 2024، أيدت البرازيل وكولومبيا وتشيلي وبوليفيا ادعاء جنوب أفريقيا بالإبادة الجماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، فضلاً عن التماس بريتوريا لاتخاذ تدابير مؤقتة لوقف الحرب وتخفيف الأزمة الإنسانية في غزة. وتقدمت كل من كولومبيا ونيكاراجوا بطلب لمحكمة العدل الدولية للتدخل في قضية جنوب أفريقيا. وفي 18 يناير من العام نفسه، قدمت تشيلي والمكسيك وبوليفيا إحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية لتعزيز تحقيقها في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية محتملة في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وإسرائيل. وقد وضعت هذه الإجراءات أمريكا اللاتينية على خلاف حاد مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية[2].
3- الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة: نقلت جواتيمالا وهندوراس سفاراتيهما من تل أبيب إلى القدس لكسب دعم الولايات المتحدة وإسرائيل، على خطى إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وبعضها يدرس الفكرة حاليًا كما هو الحال في باراجواي والأرجنتين. ومع ذلك، واعتبارًا من مايو 2024، اعترفت 31 دولة في أمريكا اللاتينية والكاريبي بالدولة الفلسطينية. واتخذ عدد كبير من تلك البلدان هذه الخطوة بين عامي 2009 و2011. وخلال تلك السنوات، بذل الرئيس الفلسطيني محمود عباس جهدًا للتواصل مع رؤساء أمريكا اللاتينية بعد انهيار المفاوضات مع إسرائيل[3]. وكانت آخر الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية هي: باربادوس، جامايكا، جمهورية ترينيداد وتوباغو، جزر البهاما، وذلك في شهري أبريل ومايو 2024. ومن اللافت للنظر أن الدول الأربع لديها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل يعود تاريخها إلى ستينيات القرن العشرين، كما إنها استفادت بشكل كبير من التعاون الفني مع تل أبيب في عدد من المجالات، كالأمن الغذائي والزراعة والصحة، ومواجهة تحديات الجفاف المتزايدة ونقص المياه. وفي الوقت نفسه، حافظت إسرائيل على وجود دبلوماسي قوي في منطقة البحر الكاريبي، في سعيها لإبقاء دوله محايدة على الأقل في الأمم المتحدة.
ويمثل اعتراف بلدان الجماعة الكاريبية مؤخرًا بفلسطين تحولاً ملحوظًا في موقفها من الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. ومما لا شك فيه أن الاعتبارات الإنسانية أثرت على قرار بلدان الجماعة الكاريبية الأربعة بالانضمام إلى أقرانها في الاعتراف بفلسطين. ورأى قادة بلدان الكاريبي أن موقفها الداعم لمبدأ حل الدولتين به قدر من التناقض وعدم الاتساق بسبب عدم اعتراف هذه الدول قط بدولة فلسطين، مما دفعها لاتخاذ خطوة الاعتراف التي طال انتظارها. وقلل بعض مسئولي هذه الدول من أهمية رد الفعل الأمريكي على هذه الخطوة، حيث اتهموا واشنطن بتشديد سياسة الهجرة تجاه مواطني دول الكاريبي، بينما لم تقدم مساعدات كبيرة لها[4].
4- تأييد القرارات الأممية الداعمة للقضية: مثل معظم دول العالم، صوتت دول أمريكا اللاتينية بأغلبية ساحقة في أكتوبر وديسمبر 2023 لصالح قرارين للجمعية العامة للأمم المتحدة يسعيان إلى وقف إطلاق نار إنساني في غزة ووقف الحرب الإسرائيلية (رفضت الولايات المتحدة كلا القرارين)[5].
وبينما تتطلع السلطة الفلسطينية إلى كسب الاعتراف الدولي بـ”الدولة الفلسطينية المستقلة” على حدود 1967، بعد تعثر المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، فإن الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، ترى أن مثل هذا الاعتراف يجب أن يأتي فقط بعد التوصل إلى اتفاق الوضع النهائي لحل الدولتين للصراع، ومن خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين. وقد جادلت إسرائيل بأن مثل هذه الخطوة في أعقاب الهجوم الذي قادته حماس في 7 أكتوبر الماضي على جنوب إسرائيل من شأنه أن “يكافئ الإرهاب”، في حين ترى بعض الدول أنها خطوة ضرورية لإحياء حل دبلوماسي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
في هذا السياق، صوتت الغالبية الساحقة من دول أمريكا اللاتينية والكاريبي في 10 مايو الجاري، لصالح قرار بالجمعية العامة للأمم المتحدة، يدعو إلى توفير “حقوق وامتيازات” جديدة لدولة فلسطينية ودفع مجلس الأمن إلى إعادة النظر في قبولها كعضو رقم 194 في الأمم المتحدة. من بين دول المنطقة، عارضت الأرجنتين فقط هذا القرار، بينما امتنعت باراجواي وحدها عن التصويت على القرار[6].
وتعكس هذه المواقف تأييدًا دبلوماسيًا واسعًا للقضية الفلسطينية، ويكسبها داعمين دوليين آخرين، خارج البلدان العربية والإسلامية. وقد نظرت دول أمريكا اللاتينية والكاريبي على نطاق واسع إلى استخدام الولايات المتحدة، في 18 أبريل 2014، حق النقض ضد قرار مجلس الأمن الدولي الذي كان من شأنه أن يوصي الجمعية العامة بالتصويت على السماح بحصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، باعتباره “غير منصف”.
5- تمويل الأونروا ومقاطعة إسرائيل اقتصاديًا: تقدم ثلاثة بلدان في منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي مساعدات مالية للفلسطينيين من خلال وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). وفي عام 2022، قدمت المكسيك 750,000 ألف دولار، بينما قدمت البرازيل 75,000 ألف دولار، وقدمت تشيلي 12,500 دولار[7].
وفي أوائل يناير 2024، وافقت لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشيوخ التشيلي على مشروع قانون يحظر على الشركات استيراد السلع المنتجة في المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. وقد كانت المقاطعة رمزية إلى حد كبير بالنسبة لتشيلي. لكن الولايات المتحدة، وهي شريك تجاري كبير للبلاد، أعربت عن استياءها من مشروع القانون و”حركة المقاطعة العالمية وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات لاستهداف إسرائيل بشكل غير عادل”، كما قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، مضيفًا: “لقد أوضحنا ذلك في تشيلي”[8].
عوامل متعددة
يمكن تفسير المواقف اللاتينية الداعمة للقضية الفلسطينية انطلاقًا من عدة عوامل ومتغيرات، من أبرزها:
1- فداحة الخسائر البشرية في غزة: على الرغم من إدانة عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية هجمات حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، فإن خطاب وسياسات دول المنطقة أصبحت أكثر تشددًا تجاه إسرائيل، ووصلت الأزمة بين تل أبيب وغالبية بلدان أمريكا اللاتينية إلى منعطف جديد، يعكس التوترات الجيوسياسية الأكبر الناجمة عن الارتفاع الكبير في عدد القتلى المدنيين والدمار الشديد للبنى التحتية في قطاع غزة بسبب القصف الإسرائيلي لغزة، ناهيك عن منع تل أبيب لوصول المساعدات الإنسانية وإحكام حصارها للقطاع.
وقد مكنت شدة الرد الإسرائيلي والقصف المتواصل لغزة العديد من الحكومات من تبرير مواقفها التقليدية المعادية لإسرائيل. فعلى سبيل المثال، أدانت بوليفيا ما وصفته بـ “الجرائم ضد الإنسانية” بسبب الأعمال العسكرية الإسرائيلية. وانتقد نائب وزير الخارجية البوليفي فريدي ماماني، الهجوم العسكري الإسرائيلي “العدواني وغير المتناسب”. وأعرب الرئيس البوليفي لويس آرسي عن رفضه لـ”جرائم الحرب” في غزة، ودعمه للمبادرات الدولية لضمان امتثال المساعدات الإنسانية للقانون الدولي. أما الرئيس الكولومبي غوستافو بترو فقد اتهم إسرائيل مؤخرًا بتنفيذ “إبادة جماعية” في غزة. وكتب بترو على منصة X: “رئيس الدولة الذي ينفذ هذه الإبادة الجماعية هو مجرم ضد الإنسانية”.
2- التضامن التاريخي بين اليسار اللاتيني والفلسطينيين: لأمريكا اللاتينية تاريخ طويل من التعاطف مع فلسطين. فخلال الحرب الباردة، كانت الحركات اليسارية التي تقاتل الديكتاتوريات القمعية في أمريكا اللاتينية والمدعومة من الولايات المتحدة حلفاء طبيعيين لجماعات التحرير الفلسطينية. وقامت منظمة التحرير الفلسطينية بتدريب جبهة التحرير الوطني الساندينية في نيكاراجوا بالإضافة إلى الجماعات المتمردة الأخرى. واكتسب التعاون بين الحركات اليسارية اللاتينية ومنظمة التحرير الفلسطينية زخمًا إضافيًا خلال تلك الفترة في ظل قيام إسرائيل بتسليح العديد من النظم العسكرية الأكثر قمعًا في أمريكا اللاتينية.
ومع انتهاء الحرب الباردة، سعت إسرائيل إلى الحصول على قبول أكبر في أمريكا اللاتينية. وتوددت إلى الإنجيليين المسيحيين في المنطقة والحكومات التي تواجه تحديات أمنية خطيرة من خلال تقديم المعدات العسكرية. ولكن مع تحول معظم دول أمريكا اللاتينية مؤخرًا إلى اليسار، بدأت تتوتر العلاقات بين الجانبين. وفي الوقت الراهن، يتولى السياسيون من يسار الوسط السلطة في ثلثي دول أمريكا اللاتينية، التي تمثل أكثر من 90 في المائة من سكان المنطقة وناتجها المحلي الإجمالي. وبالنسبة للعديد من الناشطين في المنطقة، فقد أدت خيبة الأمل من عملية أوسلو للسلام في تسعينيات القرن العشرين إلى النظر إلى الوضع في إسرائيل والأراضي الفلسطينية على أنه شكل جديد من أشكال الاستعمار، وهذا يساعد في تفسير سبب توحد اليسار في أمريكا اللاتينية بشأن هذه القضية، على عكس الحرب في أوكرانيا، الذي شهدت انقسامًا في الرؤى والمواقف بين قادة اليسار اللاتيني[9].
وفي كولومبيا، البلد الذي صنفته إدارة بايدن حليفًا رئيسيًا من خارج الناتو، انتقد غوستافو بترو، أول رئيس يساري لكولومبيا، الذي تولى منصبه في عام 2022، بانتظام، إسرائيل على الرغم من عقود من التعاون العسكري بين البلدين. وفي أكتوبر 2023، عندما تعهد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بحرمان غزة من الغذاء والماء والوقود والكهرباء، قارن بترو ذلك بمعاملة ألمانيا النازية لليهود، مما دفع تل أبيب إلى وقف صادراتها الأمنية إلى كولومبيا.
في المقابل، دشن خافيير ميليس، الرئيس التحرري الجديد في الأرجنتين – الذي لديه روابط قوية مع اليهود وإسرائيل – تحولاً بعيدًا عن موقف سلفه اليساري، الذي دعمت حكومته أول قرار مقترح لوقف إطلاق النار من قبل الأمم المتحدة قبل ترك منصبه، وقام بزيارة إسرائيل في فبراير 2024. وكانت الأرجنتين الدولة الوحيدة في أمريكا اللاتينية والكاريبي التي صوتت ضد القرار الأخير الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، الداعم لأحقية الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة.
3- الدور الفاعل للشتات العربي والفلسطيني: الشتات العربي في أمريكا اللاتينية هو أيضًا قوة رئيسية وراء النشاط الحكومي المؤيد للقضية الفلسطينية، مما يجسد كيف يمكن للجاليات في الخارج التأثير على السياسة الخارجية. إذ يوجد في البرازيل وحدها حوالي 16 مليون مواطن من أصل عربي، وتشيلي لديها أكبر عدد من السكان الفلسطينيين في أي بلد خارج الشرق الأوسط، يصل إلى حوالي نصف مليون شخص. ويتمتع هذا الشتات الكبير بنفوذ سياسي كبير في جميع أنحاء المنطقة، حيث يشغل السياسيون العرب مناصب عليا في العديد من الحكومات. إذ أن 10 في المئة من البرلمان البرازيلي من أصول عربية اعتبارًا من عام 2016، وفقًا لصحيفة واشنطن بوست.
فضلاً عن ذلك، فإن أمريكا اللاتينية هي موطن أيضًا لبعض السكان من أصل يهودي. وتشير التقديرات إلى أن هناك 750,000 يهودي في المنطقة مع عدد كبير منهم في الأرجنتين (181,000) والبرازيل (100,000). وقد نشطت الجاليات اليهودية في هذه البلدان في دفع حكوماتها لدعم إسرائيل. وفي الأرجنتين، على سبيل المثال، جرت عدة مسيرات مؤيدة لإسرائيل وتضمنت مطالب لإطلاق سراح 21 أرجنتينيًا تحتجزهم حماس.
مع ذلك، فإن يهود أمريكا اللاتينية الذين يدعمون إسرائيل ليس لديهم ما يعادل الجماعات الصهيونية الأمريكية القوية مثل لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، التي تغدق ملايين الدولارات على دعم المرشحين الأمريكيين المؤيدين لتل أبيب. وبالطبع، هناك استثناءات ملحوظة في الشتات العربي. فعلى سبيل المثال، الرئيس السلفادوري نجيب بوكيلي لديه أصول فلسطينية لكنه دعم حملة إسرائيل العسكرية في غزة[10].
4- تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة: كانت مساعي دول أمريكا اللاتينية الرامية إلى تعزيز استقلالية سياستها الخارجية عن الولايات المتحدة متغيرًا مهمًا مارس دورًا في تبنيها مواقف مغايرة لواشنطن، والتي تأتي في الوقت نفسه، متسقة مع المبادئ التقليدية لبلدان المنطقة، والتي تدعم الحلول السلمية للصراعات وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها وكذلك المساواة بين الدول في السيادة.
فعلى سبيل المثال، أمضى الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، قسمًا كبيرًا من عامه الأول في منصبه في رسم مسار مستقل للسياسة الخارجية للبلاد. وقاد الزعيم اليساري الجهود لإجراء محادثات لإنهاء الحرب في أوكرانيا مع المساعدة في تعزيز نفوذ تجمع بريكس، الذي شارك في تأسيسه في أواخر عام 2000. لذلك عندما اندلعت جولة جديدة من القتال بين حماس وإسرائيل، لم يكن هناك شك في أن لولا سيبادر إلى محاولة تهدئة حدة الصراع. ومن الناحية العملية، كان هذا يعني قيادة البرازيل، خلال رئاستها الدورية لمجلس الأمن الدولي في أكتوبر 2023، الجهود العالمية لتمرير قرار بالمجلس يدعو إلى هدنة إنسانية للسماح بدخول المساعدات التي تشتد الحاجة إليها إلى غزة. لكن المبادرة البرازيلية باءت بالفشل عندما استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد القرار، وهو الأمر الذي دفع وزير خارجيتها ماورو فييرا إلى انتقاد “الشلل غير المقبول” لمجلس الأمن في مواجهة الحربين في غزة وأوكرانيا. وتسلط المواقف اللاتينية المغايرة لواشنطن، الضوء على مدى تضاؤل النفوذ الأمريكي في أمريكا اللاتينية منذ ذروة حقبة الأحادية القطبية بعد حرب الخليج الأولى، وذلك في مقابل تنامي تأثير الصين وروسيا على سبيل المثال، وهو ما وفر لدول المنطقة قدرة متزايدة على التحرك النشط والمستقل وهامشًا أكبر للمناورة.
من جملة ما سبق يمكن القول إن دول أمريكا اللاتينية والكاريبي كانت- تاريخيًا- سبّاقة في تبني مواقف داعمة للقضية الفلسطينية، وقد تزايد هذا الدعم بشكل ملحوظ مع تفاقم الأوضاع الإنسانية في ظل الحرب الإسرائيلية الدائرة في غزة. وتشكل السياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية الفريدة لكل بلد استجابات كل منهما للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، مما يوضح التفاعل المعقد للعوامل المحلية والدولية في ظل الحرب الحالية في غزة.
وتعكس تصرفات بوليفيا معارضة أيديولوجية قوية للتدخلات العسكرية الإسرائيلية في غزة، بما يتماشى مع تقليد يساري أوسع في أمريكا اللاتينية للتضامن مع فلسطين. في حين يؤثر الشتات الفلسطيني الكبير في تشيلي بشكل كبير على موقفها الدبلوماسي. وفي المقابل، يكشف الخلاف الدبلوماسي بين كولومبيا وإسرائيل عن التوتر بين التعاون العسكري طويل الأمد والأيديولوجيات السياسية المتباينة وسط الصراع المتصاعد.
مع ذلك، فإن الدعم اللاتيني للقضية الفلسطينية يمكن أن يتراجع خلال السنوات المقبلة، في حال شهدت دول المنطقة موجة جديدة من صعود الحكومات ذات التوجهات اليمينية التي ترتبط تاريخيًا بعلاقات قوية بإسرائيل والولايات المتحدة. يضاف إلى ذلك أن أمريكا اللاتينية لديها حركة مسيحية إنجيلية كبيرة بشكل متزايد، والتي لديها بالفعل توجهات داعمة بقوة لإسرائيل. ففي البرازيل على سبيل المثال، جعل الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو النشاط المؤيد لإسرائيل جزءًا أساسيًا من جهوده لتعزيز دعمه بين المسيحيين الإنجيليين وارتدت زوجة بولسونارو المسيحية الإنجيلية قميصًا مزينًا بالعلم الإسرائيلي خلال إدلائها بصوتها في انتخابات عام 2022. ومؤخرًا، أثار بولسونارو الجدل عندما التقى بالسفير الإسرائيلي في البرازيل، وهي خطوة أدانها مسئول في حزب العمال اليساري الحاكم ووصفها بأنها “تحالف زائف” بين الزعيم السابق والدبلوماسي الأجنبي.