أدت الأوضاع الميدانية والاشتباكات العسكرية التي يشهدها قطاع غزة والتضحيات التي طالت أرواح المواطنين الأبرياء والقصف الوحشي والمجازر الدموية وتهديم البنية التحتية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية إلى تحديد مسار جديد للحرب المعلنة ومعالجة الأوضاع المأساوية والإنسانية والنقص الحاد في المواد الغذائية والوقود والمستلزمات الطبية، جعل القوى الدولية والإقليمية تعمل للتدخل والشروع باتفاق بين حركة حماس وإسرائيل على هدنة بينهما لأربعة ايام ابتدأت في 24 تشرين ثاني 2023 ثم تمديدها أيام أخرى، تم خلالها إطلاق سراح العديد من المعتقلين في السجون الإسرائيلية يقابلها عدد من الأسرى المحجوزين لدى مقاتلي حركة حماس بإشراف اللجنة الدولية الصليب الأحمر.
صاحبت الهدنة وما قبلها العديد من المواقف الدولية ومنها ما صدر عن القيادة الإيرانية من إجراءات وتوجهات حاولت فيها الاستفادة من الفرص والتحديات التي تواجهها وتصعيد الأوضاع في قطاع غزة للحصول على مكاسب سياسية تساهم في توفير المناخ الملائم لبقاء إيران ذات تأثير إقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما قام به المرشد الأعلى علي خامنئي يوم 19 تشرين ثاني 2023 باستعراضه لصاروخ فرط صوت جديد باسم ( فتاح 2) والطائرة المسيرة المتطورة نوع (شاهد 147) وتوجيه قيادات الحرس الثوري الإيراني باستعراض قوات التعبئة في كافة مراكز المدن الإيرانية ورفع شعارات ( استمرار الحرب حتى تحرير الأقصى)، يرافقها قيام وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بلقاء مسؤول حركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة في بيروت وبنائب حركة حماس خليل الحية في الدوحة طالباًمنهما الإلتزام بالهدنة ومساعدة الأطراف الدولية للخروج بهدنة طويلة، ثم تعرض سفينة تجارية مملوكة لرجل أعمال إسرائيلي ثاني أيام الهدنة لهجوم في المحيط الهندي بطائرة مسيرة نوع شاهد 136 إيرانية الصنع، تلاها تصريح الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني الذي اعتبر الهدنة ( خطوة أولى على طريق الوقف الكامل لجرائم الحرب).
إن السياسية الإيرانية تتصف بمعايير وأسس ثابتة قائمة على الموازنة بين الايدبولوجية الدينية التي تدعيها والاسلوب البراغماتي الذي تستخدمه في معالجة الكثير من الأزمات التي تحيط بالنظام، ولهذا فهي سعت إلى موقف مهادن في أحداث غزة وتدفع باتجاه إقناع قيادة حماس باستخدام المرونة السياسية في القبول بحل الدولتين تدريجيا وعبر وسائل وإجراءات محسوبة تساعد في حصول مسار سياسي يدعم عملية إيقاف القتال في قطاع غزة ويساعد إيران الاقتراب أكثر من الدول العربية التي لديها علاقات تطبيع مع إسرائيل أو اتصالات قد تفضي لعلاقات دبلوماسية، وهي إحدى المكاسب التي يحاول النظام الإيراني توظيفها في اطالت أمد الهدنة.
إيران ليس لها الاستعداد والتضحية بما جنته وحققته من أهداف وغايات في عدد من عواصم الاقطار العربية من أجل معركة تراها غير مضمونة العواقب في مواجهة إسرائيل، فهي لا زالت مهيمنة على الأوضاع العامة في العراق ولديها التأثير السياسي في لبنان وتمتلك سلطة القرار الميداني في اليمن مع أرجحية واضحة في الميدان السوري، وهذا ما يجعلها تبتعد عن خوض المواجهات المباشرة بل تساوم الولايات المتحدة الأمريكية على تحريك أدواتها وفصائلها المسلحة التي تديرها وهي وسيلة فعالة للتنصل من أي مسؤولية قد تحدث لها مستقبلاً بعد أن تمكنت ان تجعلها واجهة لحكوماتها وتنأى بنفسها عن أي مواجهات عسكرية بالإعتماد على مليشياتها، وهي بذلك تحقق هدف استراتيجي يحافظ على استمرار نظامها السياسي وتمسكه بعقيدته التي تعبر عن المفاهيم الدينية السياسية البراغماتية التي نادى بها الخميني.
يعمل النظام الإيراني بالحلول الوسطية وعدم الاندفاع نحو المواجهات الحقيقية ويتبنى سياسة واقعية خاصة به تتمثل في التلاعب بالمفاهيم الفكرية التي ينادي بها بمعارضته للولايات المتحدة الأمريكية ولكن الموقف الحقيقي لقياداته العسكرية والسياسية انها ليست لديها الاستعداد لخوض الحروب بل لديهم الرغبة بالبقاء والتمسك بالسلطة وأدوات الحكم وتوسيع مدارات مشروعه في الهيمنة والنفوذ السياسي، وعليه فإن أهم أدواتهم الإقليمية حزب الله اللبناني ويمثل القوة العسكرية التي تدعم توجهاتهم ويعملون الان على أن تشمل الهدنة الفعاليات العسكرية في الجبهة الشمالية لكي يحافظوا على بقاء الحزب ومنع اي مواجهة فاعلة مع إسرائيل وهذا ما يتوافق مع الرؤية الأمريكية التي تسعى إلى أن يكون حزب الله جزء من الهدنة ولضمان حصر القتال في غزة وعدم توسيع رقعة الميدان الحربي، ويشكل هدفاً مشتركاً للطرفين في تهدئة الأوضاع بما يحفظ مصالحهما وتواجدهما ومنع اي مواجهة إقليمية.
ومهما حاول وزير الخارجية الإيراني إقناع القوى الدولية بقوله ( ان حزب الله حركة مقاومة في المنطقة وهويته مستقلة ولبنانية ولا يتلقى الأوامر من إيران) فإنه يتعارض وما صرح به نائب قائد الحرس الثوري الإيراني في 27 تشرين ثاني 2023 بأن ( كل تطورات جبهة المقاومة بفضل إيران ودعم حركات المقاومة يأتي من طهران).
بدأت الحوافز والمنح تأتي تباعاً للنظام الإيراني من واشنطن لموقفه من الأحداث في غزة وتخليه عن المشاركة الفعلية مع حماس والاكتفاء بالتصريحات السياسية وسعيه لتحقيق انفراج في العلاقات مع الإدارة الأمريكية التي وافقت على إعفاء جديد من الرئيس جو بايدن بخصوص امداد العراق بالغاز الإيراني مدة أربعة أشهر وحصول إيران على (4) مليار دولار وإطلاق مبلغ (10) مليار دولار من بنوك كوريا الجنوبية مكأفاة عن صفقة السجناء، مع عدم قيام إسرائيل بأي عملية عسكرية مباغتة داخل العمق الإيراني.
تستمر إيران في سياسة الاستفادة من الفرص التي توفرت لها من تطور الأحداث في غزة ومساومة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على حساب تضحيات الشعب الفلسطيني والحصول على مزيد من المكاسب عبر التلويح بقدرته عبر المليشيات المسلحة التي يدعمها ومنها قيام الحوثيين باختطاف سفينة شحن إسرائيلية في البحر الأحمر وكشف إيران عن صاروخ تفوق سرعته سرعة الصوت قادر على ضرب أهداف بمسافة 1400 كم.
يبقى الموقف الإيراني واضح في دعم الجهود الدولية والإقليمية لإعادة التهدئة للمنطقة تحقيقاً لأهدافه ووجوده والعمل على إطالة الهدنة ومنع أي مواجهة على الجبهة الشمالية ومنع حزب الله اللبناني من خوض غمار أي معركة عسكرية إلا بموافقة إيرانية تستحق المغامرة عندما تستهدف بوجودها ونظامها السياسي، ولتحقيق هذه الغايات بدأت تعطي أشارات بقبولها على ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل بعد أن دعمت سابقاً إجراءات الترسيم البحري.
تخطئ إيران إذا ما حاولت أن تجعل الهدنة نصراً لها فهي بذلك تدفع إسرائيل لإطالة الحرب وتوسيع دائرة الاستهداف العسكري والسياسي لحركة حماس وقياداتها الميدانية، وهذا ما يخالف الرؤية الإيرانية الإستراتيجية بإنهاء الحرب عبر الهدنة الطويلة والمحافظة على حماس كجزء مهم ورئيسي لها في تأثيراتها الإقليمية والدولية.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية