تتزايد الصراعات العنيفة في أجزاء متعددة من العالم. بالإضافة إلى الهجوم الذي شنته “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) على إسرائيل، والهجوم الإسرائيلي على غزة، اللذين أثارا شبح اندلاع حرب أوسع في الشرق الأوسط، تصاعد العنف في أنحاء سورية كلها، بما في ذلك موجة من الهجمات بالمسيرات المسلحة التي هددت القوات الأميركية المتمركزة هناك.
وفي القوقاز، استولت أذربيجان في أواخر أيلول (سبتمبر) على جيب ناغورنو قره باغ المتنازع عليه- مما أجبر ما يقدر بنحو 150.000 أرمني على الفرار من موطنهم التاريخي في الإقليم، ومهد الطريق لتجدد القتال مع أرمينيا.
وفي الوقت نفسه في أفريقيا، احتدمت الحرب الأهلية في السودان، وعاد النزاع إلى إثيوبيا، وكان استيلاء جيش النيجر على السلطة هناك في تموز (يوليو) هو الانقلاب السادس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا منذ العام 2020.
خلص تحليلٌ لبيانات جمعها “برنامج أوبسالا لبيانات النزاعات” Uppsala Conflict Data Program، وأجراه “معهد أوسلو لبحوث السلام” Peace Research Institute Oslo، إلى أن عدد النزاعات في أنحاء العالم كله، وشدتها وطولها، بلغت أعلى مستوى لها منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة.
وسجلت الدراسة 55 نزاعاً نشطاً في العام 2022، والتي استمرت في المتوسط نحو ثماني سنوات إلى 11 سنة، بزيادة كبيرة عن 33 نزاعاً نشطاً استمرت في المتوسط سبع سنوات قبل عقد.
ولكن، على الرغم من كل هذه الزيادة في عدد النزاعات، مر أكثر من عقد منذ التوصل إلى آخر اتفاق سلام شامل بوساطة دولية لإنهاء حرب.
وقد توقفت العمليات السياسية التي تقودها أو تساعد فيها الأمم المتحدة في كل من ليبيا والسودان واليمن أو انهارت. كما أن النزاعات التي تبدو مجمدة- في بلدان مثل إثيوبيا وإسرائيل وميانمار- تزداد سخونة بوتيرة تنذر بالخطر.
وقد أعاد الغزو الروسي لأوكرانيا النزاع إلى أوروبا بعد أن تمتعت بعدة عقود من السلام والاستقرار النسبيين. وإلى جانب انتشار الحروب، شهد العالم مستويات قياسية من الاضطرابات التي عاشتها البشرية.
في العام 2022، كان ربع سكان العالم- مليارا شخص تقريبًا- يعيشون في مناطق متأثرة بنزاعات. وبلغ عدد النازحين قسراً في أنحاء العالم رقماً قياسياً بلغ 108 ملايين شخص بحلول بداية العام 2023.
في المقابل، كانت الاستجابة الدولية الممثلة في ردود أفعال الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، التي استثمرت كلها بكثافة في بناء السلام في أعقاب الحرب الباردة، تتلخص في تحويل أهداف تحقيق “السلام” من حل النزاعات إلى إدارتها.
لكن الأحداث الجارية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى تذكرنا بأنه لا يمكن إدارة النزاعات لفترات طويلة. ومع اندلاع القتال في الكثير من أنحاء العالم وبقاء الأسباب الجذرية للنزاعات من دون حل، تصبح الأدوات التقليدية لبناء السلام والتنمية غير فاعلة باطراد.
والنتيجة هي ارتفاع فواتير المساعدات، وتهجير اللاجئين، واستمرار معاناة المجتمعات التي تمزقها الصراعات. وهناك حاجة ملحة إلى نهج جديد لحل النزاعات وآثارها وإدارتها.
آليات معطلة
بعد انخفاض عدد النزاعات بين العامين 1990 و2007، بدأ عددها الإجمالي بالتزايد في مختلف أنحاء العالم بحلول العام 2010، وفق بيانات “برنامج أوبسالا لبيانات النزاعات”.
وأصبح عدد الحروب الأهلية وبين الدول، والوفيات الناجمة عنها، في أعلى مستويات لها منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
وأعلنت الأمم المتحدة في كانون الثاني (يناير) أن عدد النزاعات الدامية في العالم بلغ أعلى مستوى له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتتزايد احتمالات تجدد الحروب التي تتوقف في غضون سنة من توقفها، وهو ما يحدث نحو خمس مرات في العام في المتوسط.
بالإضافة إلى ذلك، تصبح الحروب أكثر انتشارًا وصعوبة على الإنهاء لمجموعة من الأسباب. ومنها الطبيعة المتغيرة للنزاعات، حيث تميل حروب القرن الحادي والعشرين إلى أن تكون بين دول من جهة، وجماعات مسلحة ملتزمة قضايا مختلفة من جهة أخرى، تتمتع بإمكانية الوصول إلى الأسلحة المتقدمة نسبياً وغيرها من أشكال التقنية، فضلاً عن الأموال التي يتم جمعها من استغلال الموارد الطبيعية والنشاط الإجرامي.
وقد أصبح الصراع المتشابك ومتعدد الأطراف هو القاعدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وزوال المبدأ التنظيمي الثنائي للمنافسة الغربية – السوفياتية الذي شكل الإطار للعديد من الحروب السابقة.
كما أصبحت الصراعات في الآونة الأخيرة طابعا دوليا بشكل متزايد. ويشهد العالم انجرار بلدان مثل روسيا، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، ودولة الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة بانتظام، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى حروب خارجية، كما يحدث مراراً وتكراراً في نزاعات الشرق الأوسط وأفريقيا.
وكلما زاد عدد الأطراف المحلية والدولية المشاركة في صراع، زادت صعوبة إنهائه.
في الوقت نفسه، تم تهميش الأمم المتحدة التي كانت ذات يوم الوسيط المفضل لحل النزاعات. وقد ساهمت المنافسة الجيوسياسية بين الدول القوية في فقدان الأمم المتحدة نفوذها. وبشكل خاص، يتأثر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بنفوذ هذه القوى.
وقد أصبح هذا المجلس عاطلًا بسبب تصاعد المنافسات الدولية بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وبالنهج الأكثر تفاعلية في المجال السياسي الدولي.
ويعني الركود في أداء مجلس الأمن أن الأمم المتحدة لا تستطيع عرض حلول، أو إسناد المسؤولية على صعيد جرائم الحرب أو العدوان.
كما تصبح مهمات فرق حفظ السلام أو مراقبة العمليات الانتقالية المفوضة من مجلس الأمن أكثر ندرة، وكثيراً ما تكون قصيرة الأجل، ويفتقر المبعوثون الأمميون وقوات حفظ السلام الأممية وغير ذلك من المسؤولين الأمميين باطراد إلى النفوذ والصدقية لدى الأطراف المتنازعة.
في حزيران (يونيو) الماضي، على سبيل المثال، طالبت مالي بسحب قوات السلام التابعة للأمم المتحدة المنتشرة هناك منذ عقد، نتيجة للتوترات بين الحكومة والبعثة، بما في ذلك الخلاف حول دور القوات وتفويضها.
وذكرت بعض التقارير أن أمراء الحرب المتنافسين في السودان رفضوا حتى التحدث إلى المبعوث الخاص للأمم المتحدة، فولكر بيرتيس، قبل تقديم استقالته في أيلول (سبتمبر).
ويقول رئيس عمليات حفظ السلام في الأمم المتحدة، جان-بيار لاكروا، إن الانقسامات داخل مجلس الأمن تعني عدم قدرة بعثات الأمم المتحدة على تحقيق “الهدف النهائي المتمثل في حفظ السلام” -أي ابتكار حلول سياسية دائمة- بحيث تكتفي بدلاً من ذلك بوضع “أهداف وسيطة”، مثل “الحفاظ على اتفاقات وقف إطلاق النار”.
بعد الانتشار المطرد لسلسلة من الأزمات العالمية وظهور الأولويات السياسية الجديدة، بما في ذلك العدوان الروسي في أوروبا واتخاذ الصين سياسات أكثر حزمًا، أصبح العديد من واضعي السياسات الكبار في الولايات المتحدة وأوروبا يرون قيمة محدودة في التدخل العسكري، أو استثمار رأس مال سياسي كبير في النزاعات البعيدة التي يعتبرونها ذات عواقب إستراتيجية ضئيلة.
وقد تحول الاهتمام إلى التعامل مع التداعيات التي تُرتبها الصراعات، مثل موجات اللاجئين، وتهريب المخدرات والأسلحة عبر الحدود بشكل خاص، بدلاً من معالجة أسبابها.
انخفاض المعايير
في مواجهة هذه المجموعة الكبيرة من التحديات، يتغير ما يمكن توقعه من مسؤولي الأمم المتحدة والبلدان الغربية الذين كانوا يلقون بثقلهم ذات مرة وراء صنع السلام -خاصة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا وألمانيا، بالإضافة إلى المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وكما أشار مسؤول سابق في الأمم المتحدة كان قد عمل لعقود في عمليات السلام الدولية، فإن العقبات العديدة أمام الوساطة تجعل من “المستحيل تقريباً” إنهاء النزاعات الحالية. ومن الناحية العملية، كثيراً ما يعمل تدخل الأمم المتحدة اليوم على تهدئة النزاعات -أو في أفضل الحالات بدء عملية سياسية هشة لا يتوقع الكثيرون نجاحها.
ويتحدث العديد من الوسطاء المخضرمين ومسؤولي السياسات في الأحاديث الخاصة أن طموحات العديد من جهود الوساطة الدولية تقتصر ضمنياً على عقد اتفاقات ثنائية، مصممة لتحقيق انفراج قصير الأمد أو تحقيق أهداف محدودة، مثل اتفاق العام 2022 الذي أتاح مرور الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود.
ومع تهميش وسطاء الأمم المتحدة في المفاوضات، والعدد المتناقص من اتفاقات السلام الرئيسة وعمليات الانتقال السياسية التي يمكن أن يلعبوا فيها دوراً مهماً، فقد هؤلاء الوسطاء الكثير من مبرر وجودهم.
وفي الوقت نفسه، لا تستطيع معظم أدوات بناء السلام الأخرى- مثل الحوار السياسي الشامل، والمساءلة، والعدالة الانتقالية، وإصلاح قطاع الأمن، أن تنجح من دون عمليات سياسية تعمل على إدامتها.
في بعض الأماكن، تحولت تطلعات العديد من الدبلوماسيين الغربيين بهدوء إلى محاولة دعم احتواء أو خفض التصعيد، وعدم البحث عن حل سلمي مستدام للنزاعات.
وأحد الأمثلة البارزة على هذا التحول هو الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لوصف “اتفاقات إبراهيم” لتطبيع علاقات بعض الدول العربية مع إسرائيل بأنها “عملية سلام”.
ولا تعالج هذه الاتفاقات عملياً جذور الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما أصبح واضحاً بطريقة كارثية في الحرب الدائرة الآن بين إسرائيل و”حماس”.
في الشرق الأوسط، يشهد ما يوصف بأنه صراع جامد في سورية تصاعداً مقلقاً وغير متوقع في العنف والاضطراب بسبب عدم إحراز تقدم في المفاوضات. وقد توقفت على أحد المسارات المفاوضات بين لجنة الاتصال العربية، التي تضم كلًا من الأردن والمملكة العربية السعودية والعراق ومصر وجامعة الدول العربية، وبين الحكومة السورية.
وفي الوقت نفسه، تبدو عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة في سورية منفصلة عن عوامل الصراع، وتسعى إلى تحقيق أهداف محدودة، مثل وضع دستور جديد ينبغي أن تقوم بصياغته لجنة لم تجتمع منذ 18 شهراً. وثمة عملية لم تبدأ بعد بقيادة الأمم المتحدة إلى بناء الثقة المتبادلة بين سورية ولجنة الاتصال العربية، وفرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وتبقى هذه العملية منفصلة إلى حد كبير عن التطورات السياسية والعسكرية الجارية الآن في سورية، بما في ذلك الارتفاع الأخير في العنف في مختلف أنحاء البلد.
عنف عصيّ على الاحتواء
حتى وقت قريب، كان بعض المسؤولين الدوليين يعتقدون أن إنهاء القتال هو هدف جيد بما يكفي. في أواخر أيلول (سبتمبر)، زعم مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، الذي يتولى الترويج لحسن نوايا سياسة إدارة بايدن الخارجية، أن الشرق الأوسط هو “أكثر هدوءاً اليوم مما كان عليه قبل عقدين”، لكن الهجمات الشرسة التي شنتها في إسرائيل بعد أسبوع من تعليقاته، والرد العسكري الإسرائيلي المتواصل في قطاع غزة، بالإضافة إلى العنف المتصاعد في مختلف أنحاء سورية، تكشف عن قصور هذه السياسة.
لا يؤدى احتواء الصراعات إلى حلها، وإنما يحاول إدارتها بطريقة فاعلة. ويعني ذلك بذل جهود استباقية لمعالجة الشكاوى، وقمع العنف، ودفع المفاوضات، واتخاذ إجراءات للتعامل مع تصاعد الاضطرابات أو الأحداث غير المتوقعة.
وفي حين يشكل الحد من العنف هدفًا معقولاً كبداية، فإنه كثيرًا ما يتحول الاهتمام إلى مكان آخر بمجرد تهدئة الصراعات.
وبذلك، يمكن تفويت علامات التحذير التي تشير إلى أن القتال على وشك الاستئناف، وهو ما يطرح مشكلة، خاصة عندما تحتفظ جماعات أو أنظمة مسلحة بالسيطرة بعد فشل عمليات سلام أو أثناء الانتقالات السياسية.
ومن دون تعرض هذه الجماعات للمساءلة عن أعمالها السابقة، فإنها تكون حرة في تكرار ممارسة العنف.
لهذا يبدو أن جنرالات السودان اعتقدوا أنهم لن يخضعوا للمساءلة من الأمم المتحدة أو من داعميهم الدوليين، أو الدول الداعمة للعملية الانتقالية، بما فيها النرويج، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، عندما شرعوا في الاقتتال في نيسان (أبريل).
وقد أشار نشطاء سودانيون ودبلوماسيون مقيمون في الخرطوم، محقّين، إلى أنهم حذروا مراراً وتكرارًا من أن القادة الذين يحكمون البلد منذ الانقلاب العسكري في العام 2019 كانوا يستعدون لمحاربة بعضهم البعض، لكن هذه التحذيرات إما تم استبعادها أو أنها خففت في العواصم الغربية، بما فيها واشنطن.
ويرجع ذلك في جزء منها إلى أن الصراع لم يكن قد اندلع بعد، وإلى عدم نظر المسؤولين إلى السودان كأولوية.
لطالما جادلت الأطراف الفاعلة الإقليمية، والدبلوماسيون، والمحللون الغربيون بأن الوضع الراهن في غزة والضفة الغربية غير قابل للاستدامة.
لكن الاهتمام الدولي كان مركزًا على أماكن أخرى. وقد أدت جهود التطبيع الإقليمية التي قادتها إدارة ترامب إلى إقامة علاقات بين إسرائيل وخصوم سابقين في العالم العربي، بمن فيهم مملكة البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة.
وحافظت إدارة بايدن على “اتفاقات إبراهيم”، وسعت بنشاط إلى إبرام اتفاق بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.
لكن هذه الجهود فشلت تماماً في معالجة عوامل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ومع ذلك، حتى مع اندلاع الحرب بين إسرائيل و”حماس”، أعلن مسؤولون أميركيون، بمن فيهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أن واشنطن ما تزال تأمل في مواصلة مفاوضات التطبيع الإسرائيلية السعودية.
الوقوع في فخ المساعدات
في كثير من الحالات، تم التعامل مع المساعدات الإنسانية على أنها العلاج الشافي في إدارة النزاعات التي لم تحل. في حالة سورية، على سبيل المثال، تضمنت طلبات الأمم المتحدة لتمويل المساعدات في العام 2023، بعد 12 سنة من بدء الصراع السوري، تخصيص 4.81 مليار دولار للبرامج داخل البلد، و5.7 مليار دولار لدعم اللاجئين.
ويجري إنفاق مبالغ مماثلة في السودان وميانمار، وكلاهما يشهد صراعات وليس لديهما مبعوثون سياسيون من الأمم المتحدة ولا عملية سلام واضحة.
وفي كلا البلدين يتواصل العنف بلا هوادة، ويعيش المدنيون على مساعدات هزيلة في المناطق التي يمكن الوصول إليهم فيها. وبينما تتزايد أعداد الصراعات، تواصل كلف المساعدات ارتفاعها أيضًا.
لن يستطيع المانحون مواكبة الكلفة المتزايدة للحروب. فقد ارتفع تمويل الاستجابة للمناشدات التي تطالب بالمساعدات بمعدل 10 في المائة سنويًا بين العامي 2012 و2018، وتراجع بعد ذلك.
لكن مناشدات الأمم المتحدة للحصول على الأموال كانت في ازدياد، وتضاعف عددها أربع مرات من العام 2013 حتى اليوم.
ومن بين 406 ملايين شخص كانوا في حاجة إلى المساعدات الإنسانية في العام 2022، كان 87 في المائة يعيشون في بلدان تشهد صراعات عنيفة، و83 في المائة في أماكن تشهد أزمات مطوّلة.
لا يمكن أن تكون المساعدات هي الحل الوحيد في مثل هذه الظروف.
سوف تتطلب عودة اللاجئين تحولاً جوهرياً في الديناميات المحلية، بحيث يُتاح للهاربين من العنف والاضطهاد العودة بأمان إلى ديارهم، والوصول إلى ممتلكاتهم، ومعاودة الاندماج في المجتمع من دون تمييز.
كما يتطلب تحقيق العدالة والتنمية في مرحلة ما بعد الصراع إدارة تتولاها حكومات مناسبة، تكون مستعدة للتصدي للانتهاكات التي ارتُكبت أثناء الصراع وتوفير حوكمة رشيدة خالية من التمييز، وخلق بيئة اقتصادية منتجة خالية من الفساد والنشاط غير المشروع.
وتتطلب عملية بناء سلام بقيادة محلية، والذي يعالج التصدعات الاجتماعية الناجمة عن الصراع، إتاحة مساحة مدنية لإجراء الحوار، ومعالجة المظالم وتأمين مشاركة شاملة في اتخاذ القرار والحكم.
المجد لصانعي السلام
اليوم، يقف العالم في نقطة تقاطع، وهناك إمكانية لحشد الدعم لنهج جديد لحل النزاعات. ويتطلب ذلك وجود قيادة خلاقة وشجاعة تضم تحالفًا واسعًا من السياسيين وقادة الأعمال والأمم المتحدة وبناة السلام والمجتمعات المحلية، تتماهى مع طموح متجدد لصنع السلام.
ومن دون التطلع إلى السلام المستدام ومنحه القيمة المستحقة، سيكون من السهل القبول بفكرة أقل النتائج سوءاً ونسيان الخسائر البشرية والموارد الهائلة التي تترتب على ذلك.
في المقام الأول، سوف يحتاج أي جهد لتجديد صنع السلام في القرن الحادي والعشرين إلى وجود إرادة سياسية لدى الدول القوية، وخاصة الولايات المتحدة وغيرها من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وقد أشار الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، إلى هذه النقطة صراحة في إحاطة السياسات التي نشرت مؤخرًا بعنوان “أجندة جديدة للسلام”.
وهي تتضمن رؤية تضع مسؤولية تأمين السلام ودعم المعايير الدولية في أيدي بلدان مفردة بدلاً من النظام متعدد الأطراف.
وإذا كانت الحكومات التي تتحدث عن إيمانها بالنظام القائم على القواعد -بما فيها تلك في بروكسل ولندن وواشنطن- مستعدة لدعم القوانين والمعايير الدولية، فقد يكون هناك بعض الأمل في المستقبل. أما إذا لم تكن كذلك، فمن المؤكد أن الاتجاه الانحداري الحالي سوف يستمر.
قد يساعد استخدام لغة أكثر دقة لمفهوم “السلام” هذه الحكومات على إعادة الانخراط في النضال لتحقيقه. أما وصف مفاوضات حول وقف لإطلاق النار بأنها “عملية سلام” بحيث يبدو كما لو أن السلام أصبح قاب قوسين أو أدنى وليس على بعد سنوات أو عقود، فكثيراً ما يفضي إلى مزاعم مبكرة بتحقيق السلام لمجرد صمت المدافع مؤقتاً.
ويؤدي هذا الانطباع الخاطئ في العادة إلى فك الارتباط مع العملية. وسيكون من شأن تأطير جديد أكثر دقة، بحيث يميز مراحل إدارة النزاعات عن حل الصراعات وبناء السلام، بالإضافة إلى سرد أكثر صدقاً لآفاق التقدم في المرحلة التالية، أن يؤدي إلى رواية أكثر صدقاً عن الممكن والعملي- أو المقبول أخلاقياً.
وسيكون من شأن هذا النهج الجديد في التعامل مع اللغة على وجه الخصوص أن يساعد في وجود توقعات واقعية لما يمكن تحقيقه في الأجل القريب، والمتوسط، والبعيد. كما سيحول أيضاً دون الاندفاع المألوف إلى إعلان النجاح، الذي يحبط استمرار العديد من عمليات السلام.
أما الأهم من كل ذلك، فهو الحاجة إلى نهج جديد للوساطة. كانت عمليات بناء السلام وممارساته الرسمية قد توسعت وكسبت طابعًا مهنيًا خلال فترة ما بعد الحرب الباردة.
وهي تفترض أو تتطلب ديناميات- مثل التعاون الجيوسياسي والتسويات السلمية والانتقالات السياسية الناجحة- والتي لم تعد موجودة.
وأصبح عالمُ اليوم متسمًا بالمنافسة الجيوسياسية ويتطلب شيئاً مختلفاً تماماً. وللرد على هذه التحديات، يجب أن يصبح الوسطاء أكثر إبداعاً وتعاوناً.
ويجب أن يدافعوا عن قضيتهم الخاصة بالدفاع علناً عن السلام. ويجب أن يتمتعوا بالدعم الدبلوماسي وأن ينخرطوا مع مجموعة واسعة من الجماعات، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني.
وعلى وجه الخصوص، يجب على الوسطاء أن يعملوا بشكل وثيق مع بناة السلام المحليين وأن يمكِّنوهم، وأن يفهموا البيئة المحلية ويشركوا الأطراف الفاعلة الرئيسة في عمليات السلام، التي لا ينبغي أن تسعى إلى إدامة ديناميات السلطة الحالية.
كما يجب أن يعمل الوسطاء أيضاً بشكل وثيق مع التكتلات الإقليمية -وفي بعض الأحيان تقديم الدعم لها- وأداء دور أكبر في دعم المفاوضات الثنائية، وتمكين الأطراف المتنازعة من الوصول إلى سلام مستدام بمجرد سكوت البنادق.
في الوقت نفسه، ينبغي أن يسعى صُناع السلام إلى إشراك الأطراف الفاعلة غير التقليدية- القوى العالمية المتوسطة، والمنظمات الإنسانية، والأطراف الفاعلة من القطاع الخاص.
ويجب أن تسخر هذه الشراكات إمكانات الحوكمة البيئية والاجتماعية، وحوكمة الشركات من أجل تخصيص دور للقطاع الخاص في دعم السلام، وصياغة نماذج جديدة للتعاون الجيوسياسي، واستخدام المساعدات لدعم السلام بدلاً من أن تكون بديلاً عنه.
وهذه متطلبات كبيرة، لكنها الشروط الأساسية لبناء سلام قابل للاستدامة، ووقف انتشار النزاعات، وتهدف إلى أكثر من مجرد إيقاف العنف مؤقتاً.