منذ هجوم حركة المقاومة الفلسطينية “حماس” على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/ اكتوبر الماضي والعدوان العسكري الإسرائيلي الذي أعقب ذلك، نزح عدد كبير من سكان قطاع غزة بسبب العمليات العسكرية.
وتقول شيلي كولبرتسون، وهي خبيرة في شؤون النزوح القسري ومديرة برنامج البنية التحتية والهجرة والعمليات الأمنية في قسم أبحاث الأمن الداخلي في مؤسسة راند، إنه بينما يحاصر جيش الاحتلال الإسرائيلي مدينة غزة، فقد ضغط على مصر لاستقبال الفلسطينيين الذين شردهم.
وتضيف كولبرتسون في تقرير نشرته مؤسسة راند الأمريكية أن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية ذهبت إلى حد صياغة اقتراح لنقل سكان غزة البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة إلى شبه جزيرة سيناء، على الرغم من أن مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وصفه بأنه افتراضي وورقة مفاهيمية. لكن القاهرة رفضت ذلك، ورفض الفلسطينيون ذلك أيضا، ورفضه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن. ودعا آخرون الدول الأخرى في الشرق الأوسط إلى قبول سكان غزة.
ونزح بالفعل 85% من سكان غزة، أي 1.9 مليون شخص، من منازلهم منذ أن بدأت سلطات الاحتلال عملياتها الانتقامية ضد حماس. والآن حتى أولئك الذين تم دفعهم جنوبا يطلب منهم التحرك مرة أخرى. ولكن إذا تم طرد سكان غزة بشكل جماعي إلى مصر أو أي مكان آخر، فإن أزمة اللاجئين الفلسطينيين، على الرغم من سوء حالتها الآن، يمكن أن تنتشر وتتفاقم، مما يخلق تداعيات عالمية دائمة يمكن التنبؤ بها.
ومن المرجح أن يعود عدد قليل إلى غزة. ووجدت دراسة أجرتها مؤسسة راند مؤخرا حول اللاجئين أنه حتى بعد 10 سنوات من انتهاء الصراع، عاد 30% فقط من اللاجئين إلى بلادهم في المتوسط. بل إن المعدلات تكون أقل عندما يكون الصراع مستمرا أو غير محسوم.
ويضيف تاريخ الفلسطينيين كلاجئين على مدى السنوات الـ75 الماضية إلى قصة الحذر هذه. وتم تهجير حوالي 750 ألف فلسطيني خلال إقامة إسرائيل في عام 1948، مع موجة إضافية من 300 ألف في عام 1967. ويبلغ عدد أحفادهم اليوم 5.9 مليون. ولا يزال الثلث يعيش في 58 مخيما في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية والأردن ولبنان وسوريا. وما بدأ كمخيمات للاجئين في هاتين الحربين تطور إلى أحياء فقيرة حضرية مكتظة اليوم.
وحتى لو وصفت الخطوة الفلسطينية في البداية بأنها إجراء إنساني مؤقت أثناء القتال، فإن تاريخ إسرائيل في عدم قبول عودة اللاجئين، فضلا عن هذه الأنماط العالمية، يجعل العودة في نهاية المطاف غير مرجحة.
ومن ثم فإن المزيد من التهجير الفلسطيني سوف يغذي الروايات القائمة حول ضم الإسرائيليين للأراضي الفلسطينية على المدى الطويل. وتقول كولبرتسون إن هذا قد يؤدي إلى مزيد من ردود الفعل السلبية في الشرق الأوسط ضد إسرائيل وبالتالي ضد الولايات المتحدة. وكل هذا سيزيد من توتر الوضع الراهن الحساس في المنطقة، مما يجعل التصعيد إلى حرب إقليمية أكثر احتمالا.
وبالنسبة لمصر، الدولة الوحيدة المتاخمة لقطاع غزة، فإن قبول هؤلاء الأشخاص الإضافيين سيكون له أيضا آثار مزعزعة للاستقرار. وفي بعض الحالات، يصطبغ اللاجئون بالتطرف أو يساهمون في حروب أهلية، لا سيما عندما يكونون فقراء، وتلفظهم المجتمعات المضيفة، ويحرمون من التعليم وفرص العمل. وساهم اللاجئون الفلسطينيون في الحرب الأهلية في الأردن والتمرد في جنوب لبنان في سبعينيات القرن العشرين.
وقد حشد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي يدرك بوضوح هذا التاريخ، دبابات على الحدود مع غزة لمنع تدفق اللاجئين. ويقول أيضا إن مصر لن تقبل أعدادا كبيرة من الفلسطينيين لأن ذلك سيكون نهاية آمال قيام دولة فلسطينية. وتستضيف مصر بالفعل 9 ملايين مهاجر، 80% منهم قادمون من مناطق نزاع أخرى في الشرق الأوسط (السودان وسوريا واليمن وليبيا). واستيعاب 2 مليون شخص إضافي ليس أمرا تافها. ومن المرجح أن ينتهي بهم المطاف في مخيمات في سيناء، حيث كافحت مصر بالفعل لكبح جماح دعم تنظيم الدولة “داعش” وأنشطة تلك الجماعة الإرهابية، وفقا لما تقوله كولبرتسون.
كما أن تدفقا آخر للاجئين الفلسطينيين من شأنه أن يزيد من تآكل آفاق إسرائيل على المدى الطويل للسلام مع جيرانها، بما في ذلك احتمالات التوصل إلى اتفاق تطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.
ويحتاج المدنيون في مناطق النزاع إلى المساعدة، لكن التاريخ أظهر أن تحويلهم إلى لاجئين، خاصة في المخيمات، هو حل ضعيف. وتتزايد الأعداد العالمية للنازحين بسرعة، أسرع بكثير من قدرة الدبلوماسيين وغيرهم من القادة على حل النزاعات أو إيجاد حلول للظروف المعيشية السيئة للنازحين.
وفي الواقع، زادت هذه الأرقام أكثر من ستة أضعاف في السنوات الـ20 الماضية.
ومن المؤكد أن الظروف الحالية لـ1.5 مليون مدني نزحوا داخليا إلى جنوب غزة مزرية للغاية. ويقيم ما يقرب من ثلثيهم في مرافق الأمم المتحدة والمستشفيات والكنائس والمدارس والمباني العامة الأخرى، بينما يعيش الباقون مع عائلات مضيفة. وفرضت إسرائيل قيودا على جلب المياه والغذاء والإمدادات الطبية. إنهم ليسوا بعيدين عن الأذى من الحرب أيضا، وشنت إسرائيل غارات جوية في بعض أجزاء جنوب غزة.
وتشمل الخيارات الأخرى المتاحة لحماية المدنيين في غزة نقلهم إلى مدن الخيام في أماكن أخرى في إسرائيل أو في الضفة الغربية. ولكن مرة أخرى، بمجرد فرار الأشخاص، لا يعود معظمهم أبدا. ومن المرجح أن تصبح هذه المواقع مدنا دائمة جديدة للنازحين.
وفي شمال غزة، الحياة محفوفة بالمخاطر، فالغارات الجوية والغزو البري سيحصدان أعدادا كبيرة من الضحايا المدنيين. ولكن حتى بعد انتهاء القصف والحرب البرية، سيظل شمال غزة غير صالح للسكن في الغالب. وقد تضررت بالفعل 45% من المباني في غزة بسبب الغارات الجوية.
وتؤكد كولبرتسون أنه لا يوجد أي من الخيارات لحماية المدنيين في غزة جيد أو بدون مقايضات قاتمة. لكن الأقل سوءا من بين جميع الخيارات السيئة هو إبقاء المدنيين في جنوب غزة، وتوفير الحماية والمساعدة الإنسانية أينما كانوا. والخطر الحقيقي هو أن ما قد يبدو وكأنه حلول جيدة قصيرة الأجل يمكن أن يؤدي إلى دمار طويل الأمد للأجيال.