بدا واضحا من اليوم الأول للتدخل العسكري الروسي فيسوريا أن الهدف منه ليس محاربة تنظيم الدولة
ولم يمض أسبوع على التدخل العسكري الروسي حتى أطلق النظام في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي عملية عسكرية واسعة (قوات النظام، وقوات إيرانية، وعناصر من “حزب الله“، ومقاتلون من جنسيات أخرى) من أجل استعادة الأراضي التي تسيطر عليها فصائل المعارضة المسلحة في هذه المنطقة.
هدف العملية يتمثل في استعادة محافظة إدلب مهما كلف الأمر، كونها المعقل الرئيسي لفصائل المعارضة أولا، ولأنها تشكل صلة الوصل بين المنطقتين الساحلية والوسطى والمنطقتين الشمالية والشرقية ثانيا، ولأنها تطل على تركيا حيث الحدود مفتوحة ولا تخضع كما هي الحال في حلب لتداخلات القوى العسكرية الأخرى ثالثا.
“النظام أدرك صعوبة تحقيق إنجازات في ريف حماة الشمالي بسبب القاعدة الجغرافية الخلفية لها ممثلة بإدلب، فقام بتغيير خططه، بالتركيز على ريف اللاذقية الشمالي، وهذا التغيير ليس ناجما فقط عن صعوبة معارك حماة، بل يبدو أنه جاء بطلب من الروس “
والدخول إلى محافظة إدلب يتطلب أولا استعادة ريفي حماة الشمالي واللاذقية الشمالي، فمن هذين المحورين تحديدا يمكن دخول إدلب.
ريف حماة الشمالي
بدأت العملية العسكرية للنظام في ريفي حماة الشمالي واللاذقية الشمالي-الشرقي، لكن التركيز الأكبر كان على ريف حماة، وفعلا خلال أيام نجحت قوات النظام في إحراز بعض التقدم بالسيطرة على قرية عطشان وكفرنبودة.
هذا التطور دفع “جيش الفتح” إلى إعلان النفير وبدء “غزوة تحرير حماة” التي نجحت في 14 أكتوبر/تشرين الأول في استعادة السيطرة على قرية كفرنبودة وتل سكيك وقرية المنصورة بعد يوم واحد من سيطرة قوات النظام عليها.
وتمثل قرية كفرنبودة موقعا مهما لكلا الطرفين؛ بسبب وقوعها في جيب يخترق محافظة إدلب من الجنوب الغربي، كما تمثل خط الدفاع الغربي للفصائل المعارضة.
أدرك النظام صعوبة تحقيق إنجازات في ريف حماة الشمالي بسبب القاعدة الجغرافية الخلفية لها ممثلة بإدلب، فقام بتغيير خططه، بالتركيز على ريف اللاذقية الشمالي، وريف حلب الجنوبي التي فتحت المعارك فيه في 16 أكتوبر/تشرين الأول، وهذا التغيير في المخططات ليس ناجما فقط عن صعوبة معارك حماة فحسب، بل يبدو أنه جاء بطلب من الروس الذين يرغبون في تأمين محافظة اللاذقية بسبب تماسها مع تركيا، وتأمين محيط مطار حميميم العسكري.
استغل جيش الفتح ذلك بالتوسع في ريف حماة الشمالي، فنجح في السيطرة على مدينة مورك مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، بعد يومين من سيطرته على قاعدة تل عثمان (خط الدفاع الأول عن الريف الغربي)، أبرز القواعد العسكرية في المنطقة، وليدفع قوات النظام إلى التحصن في مدينة صوران.
تكمن أهمية مدينة مورك في كونها تقع على الطريق الدولي بين حماة ودمشق، حيث تعد بوابة لكل من ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي، والسيطرة عليها تعني بداية عودة طريق حماة-حلب الدولي إلى سيطرة المعارضة، وتشكل المدينة أيضا أهمية كبيرة للنظام، فهي أقرب المدن إلى مدينة خان شيخون (جنوبي إدلب)، وأفضل موقع لصد فصائل المعارضة من التقدم إلى عمق ريف حماة الشمالي.
بعد ذلك، خيّم هدوء عسكري واضح على المنطقة حتى عادت جبهة ريف حماة الشمالي للاحتدام قبل أيام، مع قيام جيشي “العزة” و”النصر” و”الفرقة الوسطى” وجماعة “جند الأقصى الإسلامية” بقصف مدفعي مكثف على محيط بلدة معان ومحردة وقرى المصاصنة لتحقيق هدفين: الأول تخفيف الضغط على فصائل المعارضة في ريف حلب الجنوبي وريف اللاذقية الشمالي، والثاني توسيع مساحة سيطرة الفصائل في ريف حماة، من أجل فتح الطريق أمامها باتجاه مطار حماة العسكري، الهدف الأكبر للمعارضة هناك.
ريف اللاذقية الشمالي
على عكس ريف حماة الشمالي، يشهد ريف اللاذقية الشمالي تقدما ملحوظا لصالح قوات النظام المدعومة بقوات إيرانية وعناصر من “حزب الله”، فضلا عن الغطاء الجوي الروسي الذي كان له الدور الرئيسي في هذا التقدم.
المخطط الأولي كان يقتصر على ريف اللاذقية الشمالي-الشرقي المتاخم لمحافظة إدلب، واستطاعت قوات النظام منتصف أكتوبر/تشرين الأول السيطرة على مناطق مهمة مثل جبل دورين جنوب سلمى، معقل فصائل المعارضة، وتلال الجب الأحمر الإستراتيجية غرب سلمى، لكن صعوبة التقدم نحو سلمى من جهة، والحسابات الروسية من جهة ثانية، دفعتا النظام إلى فتح جبهتين أخريين:
“في حين تعكس معارك ريف حماة الشمالي البعد المحلي السوري في الصراع، تعكس معارك اللاذقية البعد الروسي، بينما تعكس المعارك في ريف حلب الجنوبي البعد الإيراني؛ فالسيطرة على هذا الريف تسمح بالتمدد نحو الجنوب الغربي إلى مطار تفتناز العسكري وما بعده”
1- جبهة جبل الأكراد: تشكل هذه الجبهة أهمية كبيرة كونها تقع في عمق ريف اللاذقية الشمالي، وعلى مقربة من ريف إدلب الجنوبي الغربي، ويتكون الجبل من قسمين: الأول ناحية سلمى، وتضم مدينة سلمى ودورين وترتياح ومرج خوخة وكفردلبة والكوم والمارونيات والمريج وساقية الكرت وبسوفا، والقسم الثاني ناحية كنسبا، وتضم بلدة كنسبا وشلف وعين القنطرة ووادي باصور والعيدو وشلف وبللة ومجدل كيخيا وعرافيت وأبو ريشة ومزين وكفرتة ووادي الشيخان والحمرات وعين الحور والمشرفة والقساطل، وغيرها.
أهمية الجبل تكمن في موقعه المطل على أطراف الطريق الدولي بين حلب واللاذقية، وإحدى قممه تقع عند مدخل قرية عكو المطلة على سهل الغاب الذي يصل ريف حماة وحمص بالمنطقة الشمالية من ريف جسر الشغور وحتى مدينة إدلب، إضافة إلى قربه من الحدود التركية.
سيطرت قوات النظام على المواقع الغربية من الجبل (قرية غمام، والدغمشلية، والزويك، ودير حنا)، بينما سيطرت مؤخرا على جبل النوبة في منطقة جبل الأكراد، لكنها فشلت إلى الآن في السيطرة عليه لفصله عن جبل التركمان، في وقت يجهز النظام حملة عسكرية واسعة في محاور قمة النبي يونس وقريتي كفريا وقسطل معاف وبلدة صلنفة ومحيط جبل النوبة، لكن قدرة فصائل المعارضة على استرجاع جبل النوبة بعد يومين تشير إلى صعوبة المعارك في هذه المنطقة.
2- جبهة جبل التركمان: وهي جبهة تأخر فتحها لأسباب إجرائية مرتبطة بتأمين عمق ريف اللاذقية الشمالي، وتعد هذه الجبهة أكثر الجبهات حساسية بسبب ملاصقتها الحدود التركية، ووجود قومية تركية، وبدأ التركيز عليها بشكل كبير بُعيد إسقاط تركيا المقاتلة الروسية، حيث تشهد هذه المنطقة من ذاك التاريخ قصفا جويا عنيفا من قبل الطيران الروسي.
وتمكن النظام من السيطرة على أعلى قمة في جبل التركمان (برج الزاهية)، وجبال الكوز وجبل عطيرة وتلال عطيرة وبرج السيرياتل والبرج الفرنسي في ريف اللاذقية الشمالي الغربي، في وقت يتجه النظام إلى السيطرة على كامل منطقة باير بوجاق بعد سيطرته على منطقة الجبل الأحمر.
السيطرة على هذه الجبهة تسمح للنظام بتطويق الساحل من الناحيتين الشرقية والشمالية، وبالتالي إخراجه من ساحة الصراع، كما تسمح له بوأد إمكانية إقامة منطقة آمنة شمالي سوريا.
واستطاعت قوات النظام من خلال السيطرة على هذه المنطقة ليس تأمين طريق اللاذقية-كسب فحسب، بل أيضا القدرة على توجيه ضربات للمعابر الحدودية مع تركيا التي أصبحت تحت مرمى نيرانه، خاصة من جهة مناطق يلداغ والفلة واليمامة وطوروس.
هذا الواقع دفع أطرافا كثيرة من المعارضة إلى المطالبة بدعم جبهة اللاذقية، لكن على ما يبدو ثمة قرار دولي بعزل اللاذقية عن الصراع، كما أن فصائل المعارضة لا ترغب بعيد التدخل العسكري الروسي في البقاء في عمق اللاذقية، وتفضل تأمين حدود محافظة إدلب، عبر إبقاء السيطرة على بعض النقاط الإستراتيجية في الريف الشمالي-الشرقي للاذقية، ولذلك لم يتم دعم هذه الجبهة.
ريف حلب الجنوبي
يشكل ريف حلب الجنوبي حالة وسطا بين ريفي حماة واللاذقية الشماليين، حيث يشهد هذا الريف عمليات كر وفر بين الجانبين، وهي سمة عامة تنطبق على كل محافظة حلب التي تحولت منذ ثلاث سنوات إلى ساحة اشتباك مفتوحة بين مختلف الأطراف، من دون نجاح أي طرف في فرض سيطرته الكاملة على المحافظة لعجزه عن تحقيق ذلك، ففي حلب تنتشر معظم القوى العسكرية المقاتلة، وفي حلب تتزاحم الأبعاد الإثنية والطائفية للصراع بين المكون الكردي والتركماني والسني والشيعي واصطفافاتهم الإقليمية، وفي حلب يتوزع الثقل الديمغرافي.
“تحول الشمال الغربي لسوريا إلى منطقة الصراع الرئيسية بعد سيطرة “جيش الفتح” على محافظة إدلب وتحويلها إلى قلعة متينة يصعب اختراقها، ثم ضاعف التدخل العسكري الروسي الصراع على هذه المنطقة التي ستبقى لأشهر قادمة عنوان الصراع الإقليمي-الدولي”
انطلاق العمليات العسكرية لقوات النظام من الريف الجنوبي لحلب منتصف أكتوبر/تشرين الأول يحمل دلالة عسكرية، حيث لا يمكن فصل هذه العملية عن عمليات الجيش وداعميه في ريفي حماة الشمالي وريف اللاذقية الشرقي، مما يعني أنها استكمال للمخطط الرامي إلى عزل محافظة إدلب.
أنهت معارك ريف حلب الجنوبي شهرها الثاني في ظل تغيرات ميدانية ليست ذات أهمية كبيرة، فحالة الكر والفر هي السمة السائدة، وجاء التطور الأول مع سيطرة قوات النظام على طريق اثريا-خناصر-السلمية بعد أسبوعين على قطعه من جانب داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) في 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ثم جاء التطور الثاني في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني مع سيطرة قوات النظام على تلة ايكاردا الملاصقة للطريق الدولي بين حلب ودمشق، فضلا عن سطرتها على قرى وبلدات أخرى.
لكن فصائل المعارضة استطاعت -في المقابل- استعادة كثير من هذه القرى والبلدات، كان آخرها قبل أيام استعادة بلدتي بانص وبرنة اللتين تعدان الخط الدفاعي الأول عن الطريق الدولي حلب-دمشق، ومنيت قوات النظام وداعميها (حركة النجباء، ولواء القدس الفلسطيني، وأنصار الله، وحزب الله اللبناني، وحزب الله العراقي) بخسائر كبيرة في هاتين البلدتين.
وفيما تعكس معارك ريف حماة الشمالي البعد المحلي السوري في الصراع، تعكس معارك اللاذقية البعد الروسي، في حين تعكس المعارك في ريف حلب الجنوبي البعد الإيراني، فالسيطرة على هذا الريف تسمح بالتمدد نحو الجنوب الغربي إلى مطار تفتناز العسكري، ومن ثم إلى بلدتي كفريا والفوعة بريف إدلب، ولذلك تضع فصائل المعارضة ثقلها على الجبهات الجنوبية الغربية بمحاذاة الطريق الدولي لمنع قوات النظام والقوى الشيعية من عبور هذا الطريق نحو الغرب.
بكل الأحوال، تحول الشمال الغربي لسوريا إلى منطقة الصراع الرئيسية بعد سيطرة “جيش الفتح” على محافظة إدلب في مارس/آذار الماضي، وتحويلها إلى قلعة متينة يصعب اختراقها، ثم ضاعف التدخل العسكري الروسي الصراع على هذه المنطقة التي ستبقى لأشهر قادمة عنوان الصراع الإقليمي-الدولي.