المشرق العربي يواجه تهديد التفكك

المشرق العربي يواجه تهديد التفكك

349

عشية الحديث عن التسويات الشاملة في منطقة الشرق الأوسط، وفي أعقاب إقفال ملف من أصعب الملفات، أي الملف النووي الإيراني، وفي وقت انحسار “الربيع العربي”، كأن الشرق الأوسط الذي شهد النور، عشية الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية في عام 1919، يتشكل مجدداً في مطلع الألفية الثالثة بكيانات جديدة لدول عربية.
أدلى مديرا الاستخبارات الفرنسية والأميركية بتصريحات في مؤتمر بشأن الاستخبارات، نظمته جامعة جورج واشنطن في واشنطن، في 27 أكتوبر/تشرين أول 2015. قال مدير الاستخبارات الفرنسية، برنار باجوليه، إن “الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة”، وقال إن دولاً، مثل العراق وسورية، لن تستعيدا أبداً حدودهما السابقة. وأضاف: “نرى أن سورية مقسمة على الأرض. النظام لا يسيطر إلا على جزء صغير من البلد، وهو ثلث مساحة سورية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية. يسيطر الأكراد على الشمال، ولدينا هذه المنطقة في الوسط التي يسيطر عليها تنظيم داعش”. واعتبر أن الأمر نفسه ينطبق على العراق، وأفاد بأنه لا يعتقد أن هناك إمكانية للعودة إلى الوضع السابق”. وأعرب باجوليه عن “ثقته” بأن “المنطقة ستستقر مجدداً في المستقبل. ولكن، وفق أية خطوط؟ يجيب “في الوقت الراهن، لست أعلم. ولكن، في مطلق الأحوال، ستكون مختلفة عن تلك التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية”. وأبدى مدير الاستخبارات المركزية الأميركية، جون برينان، وجهة نظر قريبة من وجهة نظر نظيره الفرنسي. وقال: “عندما أنظر إلى الدمار في سورية وليبيا والعراق واليمن، يصعب علي أن أتخيل وجود حكومات مركزية في هذه الدول، قادرة على ممارسة سيطرة أو سلطة على هذه الحدود التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية”.
إذاً، فإن دولاً عربية ذكرها المسؤولان، الفرنسي والأميركي، في طريقها إلى ترسيم حدود جديدة، وزوال الدولة المركزية، والتي كانت اتفاقية سايكس – بيكو قد رسمت حدوداً للنفوذ فرنسا وبريطانيا اللتين كانتا تشكلان حجر الرحى في ميزان القوى العالمية آنذاك.
قرأ الكل وسمع عن خطط وضعت، وخرائط رسمت للشرق الأوسط، لعل أبرزها خطط الاستراتيجي البريطاني- الأميركي، برنار لويس. كما أن مصادر عديدة تتحدث أن تقسيم بعض البلدان العربية لم يستند إلى خرائط معدة مسبقاً، بل على وقائع ديمغرافية، قامت مراكز تفكير وتخطيط بدراستها وتحليلها، والتعرف على خصائصها وحاجاتها ومطالبها.

اختار المخططون استخدام عبارة “الفيدرالية”، كونها أكثر جاذبية وأقل إثارة من كلمة “التقسيم”، وخصوصاً أن الفيدرالية طبقت في دول عديدة، مثل سويسرا والولايات المتحدة، حيث إن هاتين الدولتين تعتبران من أنجح الدول في التطبيق، ما يفيد في تأكيد صوابية دعاة الفيدرالية.
والفيدرالية هي الاتحادية ، وهي نظام سياسي من شأنه قيام اتحاد مركزي بين دولتين، أو مجموعة من الدول أو الدويلات، وقد تنشأ الدولة الفيدرالية بتفكك دولة موحدة إلى ولايات ذات استقلال داخلي، تربطها حكومة مركزية، والوحدات المتكونة بفعل الفيدرالية تعتبر وحدات دستورية، لا وحدات إدارية كالمحافظات في الدولة الموحدة، ويكون لكل وحدة دستورية نظامها الأساسي (دستور) الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكن الدستور الفيدرالي يفرض وجوده مباشرة على جميع رعايا هذه الولايات، بغير حاجة إلى موافقة سلطاتها المحلية.

الحالة العراقية
شهدنا انهيار حزب البعث في العراق، بعد قيام الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، بمغامرات عسكرية، بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية إلى غزو الكويت، وصولاً إلى سقوط بغداد تحت الاحتلال العسكري الأميركي، وانكشف المستور عن خراب العراق دولة، فظهرت هشاشة شعبه المضروب بالطائفية والعنصرية (سنّة وشيعة، عرباً وكرداً إلى ما هنالك من أقليات ومجموعات أخرى).
ومع سقوط الدولة المركزية، كان طبيعياً أن يتخذ الصراع على السلطة منحى مذهبياً مدمراً، فقد حاول العراقيون الشيعة تعويض ظلمهم الطويل، واستبعادهم عن مركز القرار، بالهيمنة والاستقواء في الحكم في ظل الاحتلال الأميركي. كانت تجربتهم رديئة على المستويات كافة، سياسياً واجتماعياً، ما أدى إلى توفر عوامل الفتنة التي فتحت الباب للتدخل الخارجي، في غياب قيادة مرجعية سياسية عربية مؤهلة وقادرة على رأب الصدع، فساد مناخ الفتنة، وخصوصاً أن الحكم الفئوي العراقي غرق في الفساد المتمادي.
وكان الاحتلال الأميركي للعراق، قد كرّس في الدستور الفيدرالية التي سادت على الأرض، واخترقت النفوس، ومزّقت النسيج الاجتماعي العراقي. وها هي، في هذه المرحلة، تشهد أخطر تجلياتها بإسقاط الحدود الفاصلة بين العراق وسورية بُعيد إعلان أبو بكر البغدادي دولة الخلافة الإسلامية.
وما نراه من أزمات حكم في العراق لا بد من أن يؤدي إلى تطبيق الفيدرالية بمتطلباتها وحاجاتها ومؤسساتها كافة، في نهاية المطاف، من خلال مبرر ومنطق تنفيذ بنود الدستور. في ظل نجاح كبير لإقليم كردستان الذي يشهد وضعاً آمناً وحركة استثمارية متزايدة، ويشكل نموذجاً عن أهمية الفيدرالية وعوائدها المجزية.

سورية ولبنان
من البديهي، أن يتمدد مناخ الفتنة إلى سورية، مع انكشاف نظام بشار الأسد الذي واجه معارضوه مواجهة عنيفة وشرسة، وسرعان ما أصبحت المعارضة فصائل مسلحة، يناضل بعضها لإسقاط ما تسميه “احتكار العلويين” السلطة خمسة عقود. وكان من الطبيعي، في ظل التمدد الداعشي، وتعاظم التنظيمات الأصولية، والظهور المدوي لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” الذي اخترقت قواته أرض العراق المتفكك، ودخوله سورية التي أنهك جيشها الحرب، أي حرب سورية التي عرفت تدخلات خارجية إقليمية ودولية، من جديدها تدخل روسي مباشر لمواجهة “داعش”، في ظل حديث متزايد عن تسوية سياسية، تفضي إلى هيئة حكم انتقالي، وتحضيراً لانتخاباتٍ تقرر مصير الرئيس بشار الأسد وأركان نظامه. أضف إلى تعديلات دستورية، منها تعديل يعترف بحقوق الأقليات الدينية والأثنية، (بحسب مبادرة إيرانية)، في وقت تجري فيه معارك تثبيت حدود الدويلات الطائفية بالحديد والنار.

ولطالما تأثر لبنان بتقلبات الإقليم، ومن المؤكد أن ما يحصل، وحصل وسيحصل، في سورية، أدى، ويؤدي إلى اختلالات عميقة في لبنان الذي يشكل امتداداً طبيعياً لسورية، فها هو يشهد انقساماً عميقاً في بنية نظامه السياسي، إلى جانب تمزقات نسيجه الاجتماعي، حيث يعاني لبنان من علة مستوطنة فيه، وهي الطائفية. والأدهى أنه دخل في نفق الفتنة المذهبية، أضف إلى يقظة الإرهاب في مناطقه، بزعم أن سببه تدخل حزب الله في سورية. وقد خَبَرَ لبنان العيش في ظل الحروب الطائفية والمذهبية وحروب الآخرين على أرضه، والتي توقفت مدافعها بفعل اتفاق الطائف في عام 1989، والذي يمكن اعتباره السند القانوني لما يمكن تسميتها “فيدرالية الطوائف في لبنان”، التي كانت تديرها الإرادة السورية إلى غاية ما عُرفت بثورة الأرز عام 2005، بُعيد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، رفيق الحريري، ما أغرق البلاد في حالة انقسام قوي بين مكونات المجتمع اللبناني، حيث عاش اللبنانيون هبّات ساخنة وباردة على مدار السنوات الماضية. وفي الوقت الحالي، أوصلت البلاد إلى حالة فراغ في سدة الرئاسة الأولى، وشلل كامل للمؤسسات الدستورية، في وقت تعيش الدولة اللبنانية حالة فساد مستفحلة، وتقاسم زعماء الطوائف إرث الدولة المركزية من خلال توزيع الموارد والمكاسب والمغانم، في سبيل تعزيز دويلاتهم الطائفية الافتراضية التي تنتظر اللحظة المناسبة للتكريس الواقعي، تحت تسميات متنوعة، من اللامركزية الإدارية إلى اللامركزية الموسعة، وصولاً إلى طرح الفيدرالية بشكل صريح. وذلك كله في ظل حالة عقم سياسي ومؤسساتي، يسمح بتجاوز الأزمات الداخلية التي تنتظر التسويات الإقليمية، لتعرف شيئاً من الحلحلة والخروج من عنق الزجاجة.

في ليبيا واليمن
في الطرف البعيد من العالم العربي في شمال أفريقيا، في ليبيا التي تتخبط في صراعات قبلية أنهكت البلاد والعباد، يمكن توقع تكريس الانقسام القبلي، وعودة الأقاليم الثلاثة، كما أوحى بذلك إعلان برقة في عام 2012 الذي اعتبر الشرق إقليماً اتحادياً فيدرالياً، وكان قد سبقه تفرد مصراتة في الغرب بانتخاب مجلس محلي. وكانت تجربة الفيدرالية في ليبيا قد سقطت في عام 1963 بعد تعديل الدستور. وعلى الرغم من انقسام ليبيا حول الفيدرالية، في ظل عدم إبداء الرعاة الدوليين لإسقاط معمر القذافي آراءهم، إذ تصب مصالحهم النفطية مع الوحدة، كون ليبيا بديلاً مناسباً عن دول أخرى. علماً أن إقليم برقة نجح في تصدير أول ناقلة نفط، بعيداً عن إشراف الحكومة المركزية في طرابلس.
وفي الخليج العربي، هناك اليمن الذي اتهم بالسعادة وهو بريء منها، ولم يعرف سوى التعاسة والفقر في تاريخه الحديث والمعاصر، وهو البلد الذي عُرف بسلطنات، إلى أن أصبحت سلطنة المهرة محمية بريطانية في عام 1886، ثم ألحقت في ما بعد بمحمية عدن، ورفضت سلطنة المهرة الانضمام إلى اتحاد الجنوب العربي، ثم ألغيت مع جلاء القوات البريطانية عام 1967. هذا اليمن الذي عاش مساراً طويلاً بين انقسام إلى دولتين ودولة وحدة وحروب وصراعات طويلة إلى حين لحظة الربيع العربي وانطلاق ثورة، أفضت إلى لجنة حوار، أقرّت مخرجاته فكرة الدولة الاتحادية التي تشكلت من ستة أقاليم، أضف إلى نزعة انفصالية في الجنوب. ولكن، ها هو اليمن يعيش حرباً أهلية كبيرة، وتدخلات عربية وإقليمية ودولية، تريد العبث في الخليج العربي، وجعلها تتخبط في صراعات مميتة، في سبيل رسم خرائط جديدة لها. ويمكن القول، حيال كل ما يجري في اليمن، بمختلف تجلياته وتمظهراته وأوجهه، أن المكتوب يُقرأ من عنوانه، وهذا بحد ذاته مخيف.

يحدث في السودان
يحتاج السودان إلى منظار آخر، تبعاً لمساره السياسي، وما حصل فيه من محاولات لإقامة نظام فيدرالي، وفي النهاية، حصل انفصال بين السودان وجنوبه، بعدما ظل السودان معروفاً للعالم، بغالب حدوده الجغرافية والسياسية، من حيث كونه أكبر دولة أفريقية، واعتبر تنوعه صورة مصغرة عن القارة الأفريقية، وعلى الرغم من ثورة 1924 ودور ثوار جمعية اللواء الأبيض التي شكلت وحدة متراصة ضد الاستعمار البريطاني. ولكن، نجح المستعمر ببذر بذور التفرقة بين الجنوب والشمال، بحيث أسفر عن حربين أهليتين طويلتين، حتى أعطي الجنوب في يوليو/تموز 2005 حكماً ذاتيا لفترة انتقالية مدتها ست سنوات، ووقعت، في 9 يناير/كانون ثاني 2009، اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل، ونصت على حق تقرير المصير، حيث تم الاستفتاء على تقرير المصير في مطلع عام 2011، وصوّت الجنوبيون بقوة لصالح الانفصال. لنشهد أول فصول التفكيك والتقسيم في الشرق الأوسط، والذي أعقبه تساقط أنظمة عربية، كحجارة الدومينو، ولتدخل دول عربية أخرى فيما تم ذكره أعلاه.
وفي حال أردنا إلقاء المزيد من الضوء على دول عربية أخرى، فليس صعباً أن نلحظ أن الشرق الأوسط يواجه تهديد التفتيت والتقسيم، تحت شعارات الفيدرالية واللامركزية، بسبب انقساماته الطائفية والمذهبية والقبلية والإثنية، مع الهجوم الحادث على العروبة، من خصومها بالشعارات الدينية والمشاريع الكيانية التي تتذرّع بحقوق الأقليات الدينية أو المذهبية أو العرقية في أن تكون لها كيانات خاصة.

نسيب شمس

صحيفة العربي الجديد