يقول ميشال فوكو “إن النزعة الإنسانية هي أثقل ميراث انحدر إلينا من القرن التاسع عشر (…)، وقد آن الأوان للتخلص منه. ومهمتنا الراهنة هي العمل على التحرر نهائيا من هذه النزعة”.
امتلأت الفضائيات منذ نشوب الانتفاضة السورية، وقبلها في ما يعني العراق، بمؤسسات وجمعيات وشخصيات عامة كان لها دور أساسي في إغاثة اللاجئين ودعمهم والذود عن احتياجاتهم، والكثير من هذه المؤسسات والجمعيات إما غربية أو لها دعم غربي، وقد دفع الكثير منهم حسهم الإنساني الرفيع للقيام بما يرونه واجبا تجاه إخوتهم في الإنسانية، لكن في استنطاق سريع لهذه الحركات التي تتعدد دوافعها نسأل، هل بات الفعل الإنساني يجدي؟ وهل أضحى له من دور فلسفي في حياتنا التي نعيش؟ وما جدواه؟
قد تبدو هذه الحركات محل تقدير الأوساط العالمية والمحلية المهتمة، لما يشكل من سبق في تسليط الضوء على مآس تجاوزت العقد في الكثير من الأماكن في بلداننا، لكن بين ثنايا الحدث، هل هناك ما يستحق التوقف عنده قليلا في تناول أوّلي لتصرفات سفراء النوايا الحسنة، وفي ما خص النزعة الإنسانية التي تمس الجمعيات الرسمية وغير الرسمية والحركات والأشخاص الغربيين تحديدا بإزاء اللاجئين السوريين والعراقيين وغيرهم، في محاولة بدئية لقراءة ما بين السطور؟ لسنا بالطبع بصدد محاكمة نوايا هنا، لكنها محاولة لاستجلاء طبيعة النظرة التي ينظرها إلينا الإنساني في الغرب في ظل الماكينة الإعلامية العالمية الضخمة التي نقع معا ضحية لها.
لا شك البتة أن هناك دوافع إنسانية طيبة وراء عمل عدد من الناشطين الغربيين بإزاء قضايا الشرق الأوسط، لكن من المعلوم أن الخطاب الفلسفي منذ نيتشة مرورا بهيدغر وليفي شتراوس وصولا إلى فوكو قد بشر بموت الإنسان، أو قل على الدقة موت النزعة الإنسانية، على اعتبار أن الإنسان «اختراع حديث العهد، صورة لا يتجاوز عمرها مئتي سنة، إنه مجرد انعطاف في معرفتنا، وسيختفي عندما تتخذ المعرفة شكلا آخرا جديدا» بحسب فوكو، وبالطبع فالمقصود بالإنسان هو الإنسان المدرك المسؤول، المالك لناصية أمره، والمحرك لتاريخه وماضيه وحاضره ومستقبله، إنسان الحقوق والواجبات، وقد صنعت هذا الإنسان ثقافة القرن التاسع عشر، وهذا الإنسان محكوم بالزوال مع تصدع الأوليات التي صنعته، والثقافة التي بنته، وهذا ما بدأنا نشهده في العقدين الأخيرين من عمر البشرية.
◙ مع تعدد أشكال الدعم والتي تنوعت بين أفلام ومعارض ومسلسلات وغير ذلك تحاكي وتحكي قضايا اللاجئين، فلا يمكن الإغماض عن الجانب الربحي المادي والمعنوي، الذي تناله هذه الهيئات والأشخاص من دول في الغالب تكون هي المسبب المباشر أو غير المباشر في وجود اللاجئين
في ظل عالم لم تعد فيه بدائل حضارية تذكر عن الرأسمالية -على ما يذكر سلافوي جيجك – التي باتت متوحشة وعن العولمة وثورة الاتصالات والتكنولوجيا التي غزتنا حتى غرف نومنا، وبات الإدراك الحديث عاجزا عن تجاوزها أو اللحاق بوتيرتها المتسارعة والتي تلعب فيها الرساميل العالمية واكتناز الثروات دور المفعل في هذا السباق والسياق، يطرح السؤال: أين هو إنسان الحقوق والواجبات لاسيما في الشرق الأوسط؟
بنظرة سريعة غير متخصصة يبدو أنه يذوي ويذوب، فعهد الوظيفة قد ولّى، والأغنياء كقلة يزدادون ثراء والفقراء على اتساع رقعتهم يزدادون فقرا ويموتون على أبواب المستشفيات ولا يوفرون لأبنائهم الغذاء أو التعليم المناسبين ولا يجدون أمامهم إلا الجمعيات الأهلية الخيرية كي تساهم مساهمة بسيطة في سد جزء من احتياجاتهم، وعدد كبير من هذه الجمعيات مدعومة من مؤسسات وهيئات سياسية دولية ومحلية لها أجنداتها وهلم جرا، أليس هذا دليلا واضحا – دون الدخول بالتفاصيل الكثيرة أو الشواهد لما يقتضيه حال الاختصار في هذا المقال – على موت الإنسان الذي بشر به هؤلاء الفلاسفة؟ من هنا أين يمكن وضع الأعمال الخيرية لتلك الجمعيات والحركات والأشخاص؟
لعل تلك الأعمال مع إحسان الظن تجديف بعكس التيار، فهي وأشباهها لم تخرج عن إطار المؤسسات الحاكمة في العالم، أو تتجاوز الخطوط الحمر في استنكارها لما يجري – كما حصل على سبيل المثال مع محمد علي كلاي وقضية مشاركته في حرب فيتنام، ولو أن هذه القضية لها ظروفها المختلفة بالزمان والمكان والمعطيات – بل غاية الأمر أنها تسير بوتيرة واحدة مما يمليه عليهم ضميرهم «الإنساني» وفق ما يساير الموجة العامة التي يحيطها فيه الإعلام المعولم.
ثم هناك إطار آخر للتناول، وهي نظرة الغربي لنا، وهي نظرة لا يختلف عليها اثنان إنها فوقية بنسب متفاوتة ولها أسبابها التي نحن في غنى عن الدخول في تفاصيلها. لكن من المعلوم أن المحرك الأساس لمجتمعاتنا على كافة الصعد يلعب فيه الغرب دورا أوليا مهما، ونحن كمتلقين غالبا ما نتأثر ونتفاعل دون أن تكون لنا بدائل فعلية نركن إليها.
من هنا عندما تتحرك هذه الهيئات باتجاه مجتمعاتنا الشرق أوسطية قد تلعب فيها عدة أحاسيس، منها الشفقة على أناس يعانون من عالم متوحش منمط وفق رؤيتها للأمور، وإن أدخلنا بعدا نفعيا قد يكون بعضهم يسعى لنيل جوائز دولية تظهرهم كحمامة سلام في ظل هذه الغابة المسماة «شرق أوسط»، لكن لا يمكننا التوسع في هذا الإطار لما فيه من محاكمة للنوايا. ثم في ظل تأفف بعض المواطنين في الدول المضيفة من الحمل الثقيل الذي يشكله النازحون تظهر تلك الشخصيات والهيئات وهي ترعى أطفال اللاجئين، في ثنائية قد تظهر للوهلة الأولى زيفنا، لكنها تحمل في طياتها أبعادا أعمق ليس أقلها المعاناة الصرفة ومطاردة سبل العيش الكريم التي يعيشها الفاعل والمنفعل في مجتمعاتنا، في حين أن الزائر «الإنساني» لا يقضي إلا أياما في ظل القسوة ليعود إلى جنته التي تركها في وطنه الأم.
ثم أخيرا، ومع تعدد أشكال الدعم والتي تنوعت بين أفلام ومعارض ومسلسلات وغير ذلك تحاكي وتحكي قضايا اللاجئين، فلا يمكن الإغماض عن الجانب الربحي المادي والمعنوي، الذي تناله هذه الهيئات والأشخاص من دول في الغالب تكون هي المسبب المباشر أو غير المباشر في وجود اللاجئين، وتحضرني في هذه العجالة لافتة رفعت في التظاهر ضد الرئيس الأميركي دونالد ترامب كتب علبها «لا تريد لاجئين توقف عن إنتاجهم».
بالنهاية، لم تكتب هذه السطور لتدين تلك الهيئات والجمعيات والمؤسسات والأشخاص، كما لا تهضم حقهم الإنساني بالعمل وفق ما يرونه مناسبا أو تنوه بأخلاقياتهم من وراء هذه الأعمال، غاية الأمر هو تسليط الضوء على حالة خاصة لها بعدٌ عام، تستقطع جزءا من آلامنا وطموحاتنا كسكان للشرق الأوسط
العرب