ما أغرب ما نسمعه عن سيادة العراق. الكل يتحدث عن سيادة العراق وكيفية احترامها، بألفاظ تجمع ما بين اثارة الدهشة وتكريس مفهوم جديد للسيادة، يتماشى مع تفتيت دولة كانت ذات سيادة، ذات يوم. السيادة العراقية ، حاليا، هي تاكسي يركبه كل من هو قادر اما على دفع الأجرة او اجبار السائق على نقله مجانا. واذا كان هذا الربط بين السيادة والتاكسي ملتبسا بعض الشيء، فلأن واقع سيادة العراق نفسه ملتبس ومستعص على محاولات الفهم العقلانية. فرئيس الوزراء حيدر العبادي، مثلا، لايجد غضاضة في استجداء القصف من حوالي ستين دولة تطلق على نفسها اسم « التحالف الدولي» ، ويرحب باحتلال روسيا الاجواء العراقية وقصفها المدن ، ويدعو كل دول العالم للمشاركة في « مكافحة الارهاب» على ارض العراق ، بينما لا يتحرك قيد أنملة لتقليل ( لا اقول منع)، استشراء همجية ما يقارب ما وصلت أعدادها إلى 54 ، ميليشيا طائفية شيعية من فيلق بدر وعصائب الحق و كتائب حزب الله إلى فرق محلية ، مرتبطة تنظيميا ومدعومة عسكريا ، بايران، والتي تعلن ولاءها لولاية الفقيه الايرانية ، التي لا تعترف بالسيادة الوطنية وحدود الدول.
ويزداد مفهوم السيادة، في تصريحات العبادي، التواءً حين يحاول استخدامه لتغطية عقمه السياسي وعجزه عن اجراء أي اصلاح قد يمس منظومة الفساد، المنغرسة عميقا، في وجود الساسة والمسؤولين والحكومة ، على الرغم من التظاهرات المستمرة ، المطالبة بالاصلاح ووضع حد للفساد، خشية ان يستل احدهم ( قد يكون امريكيا أو ايرانيا أو عراقيا) ملفا، لتهديده بقائمة تهم ليس مهما مدى صحتها. لهذه الاسباب، اختار العبادي وحكومته، الانتفاض غضبا لسيادة العراق التي انتهكت ، حسب ادعاء النظام، من قبل قوات تركية. وتبدت حالة الغضب من اجل السيادة المنتهكة بأعلى درجاتها السوريالية حين تظاهرت ميليشيا بدر الارهابية ، تحت نصب الحرية ، في ساحة التحرير، ليخطب فيها رئيسها هادي العامري، الذي يفتخر بولائه للولي الفقيه، مدافعا ، بانبعاث حرباوي، عن سيادة العراق وضد أي تدخل أجنبي، باسم فصائل «المقاومة الإسلامية». مما يذكرني بخطاب مماثل لرامسفيلد، وزير الدفاع الامريكي السابق واحد المخططين البارزين لغزو العراق، قال فيه ، اثر غزو واحتلال قواته للبلد ، بأنه يرفض أي تدخل أجنبي في العراق! وما زاد من ابتذال التظاهرة انها تمت بحضور رئيس الوزراء السابق نوري المالكي القائل ان العراقيين فئتان هما:فئة الشهيد الحسين وفئة قاتله يزيد. ما تجدر الاشارة اليه ان العبادي والمالكي وقبلهما الجعفري ، قياديون بحزب الدعوة. فما الذي قادوا العراق اليه، وكيف حافظوا على سيادته؟
ان القاء نظرة سريعة على خارطة العراق، اليوم، ومناطقها المتنازع عليها، عرقيا وطائفيا ، بين حكومة بغداد وحكومة الأقليم وما تسمى بالدولة الاسلامية، بين قوات الحشد الشعبي والعشائر وقوات الأمن والجيش والشرطة والفرقة الخاصة ، بين الميليشيات والقوات (عفوا المدربين والمستشارين) الأمريكية والايرانية والروسية والاسرائيلية، سيجد ان حزب الدعوة عمل جاهدا على تفتيت العراق وتقديم معان للسيادة ما كانت ستخطر على بال أحد قبل غزو البلد، بدعوة من ذات المنتفضين لشرف وسيادة العراق المنتهكة ، اليوم.
ترى هل كانت الاستعانة بأمريكا وبريطانيا ، وتقديم المعلومات الكاذبة عن اسلحة الدمار الشامل ، والمشاركة بقوات الغزو وفتح الابواب للمحتل، والصمت، فيما بعد، على جرائمه، دفاعا عن العراق وسيادته؟ هل المراد ان يصاب الشعب بمرض خرف الشيخوخة – الزَهايْمَر، لينسى جرائم الاحتلال وحكوماته، وليصدق، في غياب الذاكرة، اعداد الوافدين المتزايدة، وحججهم عن الحرب ضد داعش او احترامهم للسيادة التي اصبحت مثل الجبن السويسري مليئة بالثقوب؟
إلى قائمة « الحريصين» على سيادة العراق، انضم ، أخيرا، رئيس الوزراء الإيطالي ، مصرحا، أن قوات عسكرية ايطالية ستتوجه إلى العراق للمشاركة في الخطوط الأمامية للحرب ضد داعش. وأكد وزير الدفاع الأمريكي خلال اجتماعه مع العبادي، « أن الولايات المتحدة تريد تعزيز قواتها لتسريع تحرير الرمادي ثم الموصل، لكنها في انتظار موافقة بغداد لأنها تحترم سيادتها». بينما أكدت وزارة الخارجية الروسية في بيان لها إن «الجانب الروسي عبر عن موقفه الحاسم بدعم سيادة العراق وسلامة أراضيه». ودخل رئيس الوزراء التركي على الخط ليقول بذات اللهجة: « إن التواجد التركي يأتي في إطار سيادة ووحدة الأراضي العراقية، ومكافحة الإرهاب». فهل بقيت دولة في العالم لم تركب تاكسي العراق لتصون سيادته؟
دعا ممثل المرجعية الدينية، في خطبة يوم 11 كانون الأول/ديسمبر، جميع الدول إلى احترام سيادة العراق وعدم إرسال جنود إلى أراضيه دون اتفاق واضح مع الحكومة. واضافت المرجعية، ان «هناك قوانين ومواثيق دولية تنظم العلاقة بين الدول، واحترام سيادة كل دولة هو من أوضح ما تنص عليه القوانين والمواثيق الدولية».
تضعنا هذه الخطبة ازاء تساؤلات عديدة، لعل أوضحها هو اذا كانت المرجعية تحمل مثل هذا الاحترام للقوانين والمواثيق التي تنظم العلاقة بين الدول واحترام سيادة كل دولة فلماذا لم تحرك ساكنا، ولم تنطق بكلمة واحدة ازاء أكبر حرب عدوانية، بلا أي مبرر قانوني، قادتها أمريكا، ضد دولة العراق عام 2003؟ أم ان المرجعية انتقائية في اطلاق دعواتها وفتاويها بالدفاع عن قوانين دون قوانين ، وعن دول دون دول ، وحسب … ماذا؟ الدين ؟ العرق؟ أم الطائفة؟
ماذا عن فسحة التظاهرات، المتنافس عليها جماهيريا مع الميليشيات؟ تقلصت مساحة ساحة التحرير بعد أن دنسه حضور الميليشيات الارهابية ، الا ان فضاء الحرية والأمل لم ينكمش. فالأمل ليس هاجساً صوفياً، بل عنصراً أخلاقياً موضوعياً فاعلاً في كل معادلات التغيير والإصلاح عبر التاريخ. حتى اليأس هو أمل مؤجل، كما يقول فارس كمال نظمي، عالم النفس الاجتماعي، مضيفا : أكاد أرى مستقبلنا المدني، تصنعه اليوم فكرةُ الأمل!
هيفاء زنكنه
صحيفة القدس العربي