ليس جديداً القول إن توازنات القوة العالمية، بدأت بالتغير التدريجي، بما يشي بأن نظاماً دولياً جديداً، في طريقه إلى التشكل، بما يتسق مع ماهية هذا التغير. وسيكون من الصعب تقديم قراءة استشرافية لشكل هذا النظام، إن لم توضع في سياق التحولات العلمية الهائلة، التي حدثت في الكون خلال الأربعة عقود الأخيرة. فهناك انتقال جديد لمفهوم العولمة، من اعتبارها حالة اندماج أو تبعية اقتصادية، من قبل الأطراف بالمركز، سادت مع هجمة الاستعمار التقليدي، حتى يومنا هذا، إلى مستوى آخر، مختلف تماماً عن كل ما شهدته البشرية، منذ بدأ الاجتماع الإنساني.
هناك ثورات علمية في البيولوجيا والاتصالات، وثورة رقمية، وتطور مواقع التواصل الاجتماعي، قد لا يكون تأثيرها كبيراً، حتى هذه اللحظة في المجتمعات الفقيرة، لكن تأثيرها العالمي، في عالم المال وصناعة الأسلحة، مهول وغير مسبوق. فلم يعد التأثير مرتبطاً بحجم الكتلة وثقلها، بل بقياسات مختلفة، في الكم والنوع. وسيكون لهذه التغيرات الجوهرية تأثيرها المباشر، في مفاتيح كثيرة، بما يفرض إعادة النظر في المفاهيم المعهودة للقوة.
وعلى واقع هذه التحولات ستتشكل تكتلات جديدة، لن تكون محكومة بالصراعات العقائدية، التي سادت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واستعرت أثناء الحرب الباردة.
لقد بدأت مؤشرات نهاية العهد الذي دشنته نتائج الحرب العالمية الثانية، والذي توج بميثاق الأمم المتحدة. فالصين الشعبية، التي حظيت بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، لم تبرز في هذا المسرح كلاعب اقتصادي رئيسي إلا بالعقود الأخيرة. والحال هذه تنسحب على الهند، التي بقيت معزولة عن لعب أدوار سياسية مهمة في المسرح الدولي، وعانت كثيراً التهميش والفقر، تتقدم الآن بقوة، في تعزيز برامجها التنموية، وتتنافس مع الكبار في الصناعات الإلكترونية. وتتقدم كوريا الجنوبية، في التصنيع على كل الصعد، وتلحق بها أندونيسيا.
كلمة السر كانت وستظل دائماً في الاقتصاد، فمن يملك القوة فيه، سيطلب مقابل ذلك استحقاقات سياسية. وستسهم هذه القوة، في تحفيز شهوة الدخول إلى صناعة السلاح. فمن يستطيع تصنيع السيارة، سيسهل عليه صناعة الدبابة، ومن يسهل عليه صناعة الطائرة المدنية، يسهل عليه صناعة قاذفات الطائرات.
العالم الجديد، الذي نستشرف معالمه، لن يطول انتظارنا له. ستتغير فيه موازين القوى الاقتصادية. وسيحدث فيه تغير هائل في مجال الثقافة والفكر والفنون، بما يتسق مع التحولات العلمية الهائلة التي يشهدها الكون. ولأن السياسة، كما الكون لا تقبل الفراغ، فإن نظاماً سياسياً جديداً سيقوم على أشلاء النظام القديم. وستظل القوتان الاقتصادية والعسكرية، تقرران المواقع الجديدة للدول في عالم القوة.
فأمام تراجع القوة الاقتصادية الأمريكية، الملحوظ في العقدين المنصرمين، يتوقع أن تنتهج أوروبا بالتدريج سياسة مستقلة عن واشنطن تراعي المصالح الخاصة للقارة الأوروبية. وسيكون لفرنسا وألمانيا الدور الأساسي في قيادة النزعة الاستقلالية الأوروبية عن العم سام.
فثقل التاريخ، بالنسبة لعلاقة البلدين بالولايات المتحدة، سيكون له تأثير كبير في صناعة المحور الأوروبي. فألمانيا دخلت حربين مدمرتين، انتهت بإذلالها وخضوعها للهيمنة الأمريكية. وسوف تجد في التطورات الأخيرة، فرصتها للفكاك من أسرها، الذي استمر أكثر من سبعة عقود، منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة لفرنسا، فإن نزعتها الاستقلالية، بدأت مع الرئيس شارل ديغول، بعد نهاية الحرب مباشرة. وبقي إرث الديغولية السياسي، في فرنسا، قائماً حتى يومنا هذا، رغم فشل الجبهة الوطنية بالانتخابات النيابية الأخيرة.
هناك محوران سياسيان بدآ في التشكل في مجموعة البريكس وشنغهاي، وسوف تتطور هاتان المجموعتان، لكن ذلك لا يعني أنهما ستشكلان مستقبلاً تكتلاً أو تحالفاً عسكرياً.
ما يلوح في الأفق حتى الآن، أن العالم الجديد، سوف يكون بثلاثة أضلاع. الضلع الأمريكي، وسوف يضم الولايات المتحدة وكندا، والضلع الأوروبي، وستكون فرنسا وألمانيا كلاهما ركنه الأساس، وستلتحق به معظم الدول الأوروبية. وضلع آسيوي، ربما تكون روسيا الاتحادية والصين الشعبية والهند، ركنه الأساس، وتلتحق به بعض الدول الآسيوية وربما الإفريقية.
هناك سعي روسي محموم، لتشكيل كتلة أوراسية، تشكل محوراً آسيوياً أوروبياً، قد تفلح مرحلياً، في تشكيل شراكة اقتصادية، إلا أنه من الصعب الآن التنبؤ بمآلات هذه الكتلة، حين يتعلق الأمر بالتحالف السياسي والعسكري.
أسئلة ملحة تبقى من غير جواب. أولها هل ستكون ولادة النظام العالمي الجديد عسيرة، بحيث تستدعي اندلاع حروب إقليمية، أم أنها ستأخذ الشكل الذي حدث في ربيع أوروبا الشرقية، في مطالع التسعينات من القرن الماضي؟
المؤشرات تؤكد أن هذه الولادة ستكون عسيرة، لكونها مرتبطة بصراع الإرادات، الذي لا يحسم ودياً، لكن من الصعوبة الجزم بذلك الآن.
السؤال الآخر، هو عن مدى مواءمة تشكيل هيئة الأمم المتحدة الحالي، لهذه المتغيرات، وبشكل خاص نظام مجلس الأمن الدولي وحق النقض فيه. هناك دول صاعدة كاليابان وألمانيا والهند، بدأت تطالب بعضوية دائمة في مجلس الأمن. كما أن دول أمريكا اللاتينية تطالب بمقعد دائم لها في مجلس الأمن. وقد تعطل ذلك بفعل سطوة اليانكي الأمريكي، على صناعة القرار الأممي منذ بداية التسعينات من القرن الماضي. فماذا سوف يحدث، بعد تراجع نفوذه، هل سيعاد النظر في هذه المؤسسة، فيجري تطويرها على ضوء الحقائق السياسية الجديدة، أم تطوى صفحتها نهائياً، كما طويت من قبل صفحة عصبة الأمم، ويقام على أنقاضها تشكيل جديد، بمسميات مختلفة؟ ذلك أمر لا يمكننا أيضاً الآن الجزم به، وسيكون علينا أن ننتظر قرابة عقد من الزمن لنشهد هذا التحول، حيث سيكون النظام الدولي الجديد قد اكتملت في حينه ملامحه.
د.يوسف مكي
صحيفة الخليج