على مدار السنوات القليلة الماضية، تردّد، مرّاتٍ، خبر انسحاب القوات الأميركية من شرق سورية، ثم تؤكّد المجريات عكسه، لكن مقالا في “فورين بوليسي” قدّم الخبر، قبل أيام، على صيغة قرار أميركي مؤكّدٍ منتهٍ، وأن الأمور في خواتيمها بشأن واشنطن سحب واشنطن قواتها وترك الساحة السورية نهائياً، ونقل الخبر والمقال على وسائل الإعلام بصيغة “واشنطن ترى أن وجودها في سورية لم يعد ضرورياً، وتبحث بشكل مكثف توقيت الانسحاب وكيفيته”. وتتبادر مباشرة إلى الذهن عدة أسئلة: هل فقدت الجغرافيا والموقع السوريين أهميتهما للمصالح الأميركية؟ لصالح من سيكون الانسحاب؟ هل حققت واشنطن الأهداف المعلنة سبباً لوجودها في سورية؟
حاول مقال الصحافية الأميركية أمبرين زمان (زوجها يعمل في الخارجية الأميركية، ومقربة من حزب العمال الكردستاني) تقديم رواية الانسحاب مستعينة بمستشار لأحد مراكز الدراسات الأميركية، وذهب بعض الاهتمام الإعلامي إلى نقل الخبر وإغفال أكثر من نفي أميركي بهذا الخصوص، فالناطق باسم البيت الأبيض نفى هذا لإحدى مراسلات كبرى الفضائيات العربية قائلاً إن إدارة بايدن لا تفكر بالانسحاب من سورية. وكتبت صحيفة بوليتيكو الأميركية: إن أي خبر عن أي خطة لانسحاب القوات الأميركية من سورية والعراق عار من الصحة.
واشنطن تحتفظ بحوالي 900 جندي على الأراضي السورية، لكنها ترتبط بعشرات آلاف المقاتلين حلفاء لها على مواقع نفوذها في شرق سورية وقاعدة التنف
ويذكر أن نحو 835 قاعدة عسكرية للقوات الأميركية في أكثر من 80 دولة، تتنوّع مهامها بين تأدية الواجبات العسكرية المباشرة أو الدعم والمساندة. ويحتاج هذا الوجود المكثف والمكلف سنوياً عمليات إعادة تقييم ودراسة، وتحديد ضرورة البقاء أو تفضيل الانسحاب وفقاً للمصالح الأميركية والغاية التي أٌنشئت لأجلها تلك القواعد. وفي هذا الإطار، تجتمع لجان متنوعة ومتعدّدة بشكل روتيني نهاية كل عام، وتضم خبراء من وزارة الدفاع والاستخبارات (سي آي إيه) ووزارتي الخارجية والخزانة إضافة إلى البيت الأبيض، تنحصر مهمتها بتقديم الجدوى العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية للقواعد الأميركية في الخارج وبحسب بلدان انتشارها.
قد تكون تلك الاجتماعات هي ما استند إليها مقال “فورين بوليسي”، واعتبار اجتماع تقييم جدوى البقاء الأميركي في سورية ودراستها مفاجئا، رغم أنه أمر اعتيادي، ويتكرر كل عام، خصوصا أن أعضاء مجلس النواب الأميركي رفضوا مشروعاً لسحب القوات الأميركية من سورية في عملية تصويت في مجلس النواب في الربع الأول من العام الفائت، بناء على مشروع قرار قدّمه النائب الجمهوري مات غويتز، وحظي بتأييد 103 أعضاء، فيما رفضه 321 آخرون. ونهاية عام 2023، فشل السيناتور الجمهوري راند بول في الحصول على موافقة الكونغرس على مشروع قانون يقضي بسحب القوات الأميركية من سورية، حيث صوتت غالبية الأعضاء ضدّه.
أما عملية نسب الخبر على أنه طلب لوزارة الدفاع الأميركية والاستخبارات، فقد قدّم جنرالات الوزارة قبل أسابيع قليلة طلباً يقضي بزيادة الوجود الأميركي في سورية من حيث القوام والإمكانات والمقدّرات العسكرية. ومعروفٌ أن واشنطن تحتفظ بحوالي 900 جندي على الأراضي السورية، لكنها ترتبط بعشرات آلاف المقاتلين حلفاء لها على مواقع نفوذها في شرق سورية وقاعدة التنف، وتطبق المبدأ العسكري الأميركي عبر القيادة من الخلف والقتال بالأدوات، وتوجد معها على الأراضي السورية قوات رمزية من عدة دول غربية، منها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا.
صعود الموقع الاستراتيجي لتركيا، كأحد أهم أعمدة التحالف الغربي، ودورها الإقليمي والاعتماد المتزايد عليها، قد يشكّل بديلاً ورافعاً عن الوجود الأميركي المقلق والخطر في سورية
بعيداً عن المقال، يبقى السؤال: هل من المصلحة الأميركية اليوم الانسحاب من سورية؟ المنطقة مشتعلة بحروب ومناوشات وهجمات، ففي غزّة، فصول حرب جيش الاحتلال الإسرائيلي لم تتوقف على المدنيين، ومضيق باب المندب مشتعل بهجمات حوثية بحرية هدّدت خطوط التجارة الدولية، والقواعد الأميركية في سورية والعراق تتعّرض بشكل شبه يومي لهجمات وضربات ومسيّرات من مليشيات تتبع إيران، وفي جديد الإحصائيات أن القواعد الأميركية في سورية والعراق تعرّضت، منذ بدء الحرب على غزّة، إلى أكثر من 130 هجوماً بالصواريخ والطائرات المسيّرة من مليشيات موالية لإيران، فهل من مصلحة جيش الدولة العظمى التي تُمسك بزعامة دول العالم الانسحاب وترك الساحة السورية للروس أو لإيران؟
يرى مسؤولون أميركيون عاملون بالشأن السوري، ومنهم جويل ريبورن والسفير السابق جيمس جيفري، في لقاءاتهم ومناقشاتهم السياسية، أن هناك أخطاء ارتكبتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، وأن الانسحاب الأميركي من العراق والجنوب السوري من تلك الأخطاء. والكارثة، كما قال ريبورن، أنها أخطاء غير قابلة للتصحيح، لكن كليهما يعتبر الوجود الأميركي في شرق سورية، وفي قاعدة التنف، تعويضاً مؤكّدا وضرورياً عن تلك الأخطاء الاستراتيجية التي أضرّت بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط، لكن مصادر أميركية أخرى أكّدت أن موضوع الانسحاب الأميركي صحيح، وأنه قيد البحث الجدّي، وأن صعود الموقع الاستراتيجي لتركيا، كأحد أهم أعمدة التحالف الغربي، ودورها الإقليمي والاعتماد المتزايد عليها، قد يشكّل بديلاً ورافعاً عن الوجود الأميركي المقلق والخطر في سورية، لأن الاقليم مهيأ للاشتعال بشكل أوسع، ولذلك سيخرجون مثل ما فعلوا في أفغانستان.
مؤكّدٌ أن موسكو ستكون رابحة في أي انسحابٍ أميركي من المنطقة، لكن طهران ستعتبر نفسها الرابح الأكبر وستقدّمه لحاضنتها وأتباعها “انتصاراً إلهياً” على “الشيطان الأكبر” كما درجت العادة، لكن لعبة النفوذ وعمليات الصراع وتضارب المصالح الدولية تقول إن الانسحاب الأميركي سيكون بمثابة هدية مجّانية لموسكو وطهران، وأن واشنطن في الظروف الحالية غير مستعدّة للإقدام على تلك الخطوة.