تنوعت ردود الأفعال ومآلات الأمور بين تركيا وروسيا الاتحادية، عقب إسقاط مقاتلة تركية الطائرة الحربية الروسية التي تجاوزت الحدود التركية، وكانت أولى ردود الفعل غضبة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والذي كان في زيارة استراتيجية مهمة لحليفهم الجديد (إيران)، ثم إشارته في تعبيره “طعنتنا تركيا من الظهر، وهي متآمرة مع الإرهابيين”، بما يوحي للعالم أجمع أن تركيا تعمدت إسقاط الطائرة، وهي التي يفترض أن تكون حليفة ومؤيدة للقوى التي تحارب الإرهاب (تنظيم الدولة) في سورية، لكن التخوف الروسي الحقيقي كان استغلال هذا الحادث ذريعة لدفع فرض منطقة حظر جوي على سورية.
كان العامل الاقتصادي الأداة المنتقاة من الإدارة الروسية لبيان غضبتها، وهي تمثل قوة عالمية عظمى، فقررت العمل بنظام التأشيرات لدخول الأتراك إلى روسيا، ووقف تسويق الرحلات السياحية إلى تركيا، ابتداء من مطلع العام المقبل، وتشديد الرقابة الجمركية على البضائع التركية، وحظر استيراد بعض البضائع التركية، ثم أوقفت مشاريع كبرى، كانت تعمل على إنشائها مثل بناء مفاعلات نووية روسية لإنتاج الطاقة الكهربائية، ومشروع “السيل التركي” لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، وقرارات أخرى كثيرة.
رد فعل آخر، ربما لم يغضب تركيا قدر تحريكه الموقف ثم المخاوف الأميركية من تنامي النفوذ الروسي في المنطقة، وهو إعلان الكرملين عن إرسال نظام إس 400 للدفاع الجوي، “وهو نظام متطور يمكنه إسقاط الطائرات من مسافة بعيدة” إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية في محافظة اللاذقية السورية، مع تكثيف الضربات الجوية على جبل التركمان الذي يحوي مقاتلي المعارضة التركمانية السورية، وزيادة عدد القطع البحرية الروسية في بحر إيجه، وفي البحر الأبيض المتوسط.
ومع إعراب حلف شمال الأطلسي عن دعمه تركيا عبر أمينه العام، الجنرال جينز ستولتينبيرج، الذي أكد وقوف الحلف مع أنقرة، وأن “معظم الغارات التي تنفذها روسيا في سورية تستهدف مناطق، لا يوجد فيها داعش، إن المعلومات التي تلقيناها من حلفائنا تتماشى مع المعلومات التي وصلت إلينا من تركيا؛ عبرت، في السابق، عن قلقي من العمليات العسكرية الروسية قرب حدود حلف الناتو”، فإن تركيا رفضت الاعتذار والتعويض لموسكو عن حادث إسقاط الطائرة ، مع إبقاءها الباب مفتوحاً على “التفاوض على جميع المستويات” على لسان رئيس وزرائها أحمد داود أوغلو.
كل ما قامت به روسيا من تصعيد تجاه تركيا لم يفت في عضد إدارة الرئيس التركي، رجب
طيب أردوغان، بل دفعت، في حقيقة الأمر، هذه الإدارة للتحرك بقوة تجاه البدائل القوية والسريعة، كالولايات المتحدة وقطر والسعودية، كما انبرى أردوغان شخصياً للرد على اتهامات موسكو المتعددة تجاه تعامل دولته مع تنظيم الدولة وعلاقاتها الخاصة به، وبشراء النفط منه، ونجح، بشكل واضح، في إسقاط هذه التهمة من يد الإدارة الروسية، فكان لابد، فيما يبدو، من تحرك، من نوع آخر، يحرج الإدارة التركية، ويدخلها في حزمة من المشكلات الإقليمية والدولية، وربما المحلية لاحقاً.
بحثت روسيا عن مشكلات جديدة مستفزة للحكومة التركية، ومثيرة لموجات من التوتر النفسي لها، وصولاً إلى بلوغ هذا التوتر ردة فعل تفضي إلى تورط عسكري محدود أم موسع، وقد وجدت في قوة عسكرية تركية متمركزة في منطقة بعشيقة، القريبة من مدينة الموصل العراقية، قوامها 150 جندياً برفقة عدد من الدبابات، لحماية معسكر تدريبي، يشرف عليه مدربون أتراك أقيم لدعم قوات المتطوعين من أبناء الموصل وما حولها، والتي تُهيأ للمشاركة في تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة.
وبشكل مفاجىء، ومن دون مقدمات، خرج رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، للإعلام ليقول “إن وجود قوات تركية مدرعة خرق خطير للسيادة العراقية”، مهدداً باستخدام كل الخيارات في حال عدم انسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية ممهلاً تركيا 48 ساعة لسحب قواتها من بلاده، أو اللجوء إلى مجلس الأمن.
وبينما قال كل من أردوغان ورئيس إقليم كردستان العراق، مسعود بارازني؛ إن القوات التركية الموجودة بالقرب من مدينة الموصل كانت بطلب من رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، إلا أن العبادي نفسه تحدّى الحكومة التركية بإبراز أي دليل حول علم الحكومة العراقية أو موافقتها على دخول القوات التركية إلى العراق.
كانت روسيا أولى دول العام استنكاراً للوجود التركي في شمال العراق، حتى إنها بادرت لتقديم شكوى بذلك إلى مجلس الأمن، من دون طلب أو علم البعثة العراقية هناك بذلك، فيما رأى مراقبون أن موسكو حرضت بغداد عبر طهران على زيادة التصعيد الإعلامي والشعبي ضد أنقرة لإحراج الرئيس أردوغان شخصياً، وإيصاله إلى ردة فعل، تفضي إما إلى مواجهة عسكرية محدودة يكون من حق بغداد طلب الحماية الدولية بعدها على هذه المناطق، أو إلى إظهار تركيا دولة معتدية ومحتلة أراضي دولة جارة “مستقلة وذات سيادة”.
لن تتوقف الأزمة الروسية التركية قريباً، وهي بحسب دراسات كثيرة، مفتاح لحرب باردة جديدة، تقف وراءها جهات عديدة، منها خصوصاً روسيا وإيران، بمساعدة سورية والعراق. ومن جهة أخرى، الولايات المتحدة، ومعها دول غربية بعينها. يسعى حلف روسيا إلى الاستحواذ على مناطق نفوذ جديدة في عالم متغير بسرعة، وفي إقليم بالغ الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للقرن الحالي، فيما تسعى واشنطن وحلفاؤها الرئيسيون إلى تعزيز نفوذها في المنطقة نفسها.
واحدة من مآلات الأزمة الروسية التركية أيضاً، وخصوصاً بعد قضية الوجود، ثم الانسحاب العسكري التركي المحدود من شمال العراق، هو سعي أنقرة للمشاركة الفعلية في قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، ليس من الجو فقط، وإنما من الأرض، وقد تتبنى فكرة إرسال قواتها البرية للمشاركة الرئيسية الأبرز في استعادة مدينة الموصل، وتحريرها من سيطرة التنظيم، وهي بذلك تحقق مكاسب كثيرة، منها حرمان إيران من بلوغ هذه المنطقة عبر أدواتها المتمثلة بالحشد الشعبي، وكذلك تعزيز حضورها التاريخي الثقافي والاجتماعي مع أبناء هذه المدينة لأجيال مقبلة.
فارس خطاب
صحيفة العربي الجديد