يخلط صعود جيل جديد من الإرهاب، أكثر تطرفا وأشد خطرا، الأوراق في النظام العالمي. وربما يخلق هذا الإرهاب الجديد أنماطا من التفاعلات تختلف في بعض جوانبها عما كان معتادا في العلاقات الدولية، منذ نشأة الدول القومية أو الوطنية، لأنه يرمي إلي إقامة دولة (خلافة) تستطيع “البقاء والتمدد”، وفق الشعار الذي يرفعه تنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي لا يزال مشهورا باختصار اسمه السابق “داعش”.
وهذا تحول نوعي في هدف الإرهاب الذي كان محصورا، علي مدي عقود عدة، في السعي إلي تحدي السلطات في بلاد رفع السلاح ضدها، وحاول زعزعة أركانها، أو توجيه ضربات في دول غربية أو ضد مصالحها في مناطق مختلفة في العالم من وقت إلي آخر.
وإذا كان “داعش” قد توسع، في الأسابيع الستة الأخيرة من عام 2015، في تنفيذ عمليات خارج نطاق “الدولة”، أو السماح لأتباعه بذلك، فلم يغير هذا التطور جوهر استراتيجيته القائمة علي الإمساك بأراض معينة، وإعلان “دولة” فيها. والأرجح أن هذا التوسع في العمليات “الخارجية”، خاصة منذ هجمات باريس المتقنة، تدبيرا وتخطيطا وتنفيذا، في 13 نوفمبر 2015، ينطوي علي رسالة موجهة إلي الغرب الذي تشارك طائرات عدد متزايد من بلاده في قصف مناطق تمركز “داعش” ومعاقله الأساسية.
ولم يعد مفيدا لفهم التفاعلات الدولية الراهنة تجنب الفرضية المتعلقة بأن الإرهاب الراهن، الذي يمثل “داعش” رأس الحربة المتقدم فيه، تحول إلي ما يشبه قوة ثالثة في النظام العالمي، فيما يبدو أنه إرهاص لحالة جديدة في مسار تطور هذا النظام في العصر الحديث. وتنطوي هذه الحالة علي بعدين ينبغي أن نشرع في بحثهما، وسبر أغوارهما.
فأما البعد الأول، فهو يتعلق بهيكل النظام العالمي الذي قد يتجه -إذا تأكد حدوث هذا التحول- لأن يأخذ طابعا ثلاثيا يختلف عن اتجاهه العام خلال قرنين من الزمن، كان هذا الهيكل فيهما تعدديا (أكثر من ثلاثي)، أو ثنائيا، أو أحاديا. وأما البعد الثاني، والأهم، فهو أن الإرهاب الذي يهدف إلي تقويض أركان النظام العالمي وقواعده كافة، وإحلال منظومة مختلفة تماما محله، بات يملك من القدرة علي التأثير ما يجعله إحدي القوي المركزية، بعد أن كان هذا التأثير ثانويا أو هامشيا من قبل.
وليس انتشار شعار “الحرب علي الإرهاب” علي نطاق واسع علي نحو يجعله الشعار الأكثر تداولا في العلاقات الدولية، منذ منتصف عام 2014، والسباق الذي دخلته قوي كبري لاستخدام هذا الشعار لتحقيق مصالحها، وتأويله بما ينسجم مع هذه المصالح، إلا أحد الشواهد التي تدل علي ذلك.
تفاعلات عالمية جديدة:
يبدو، علي هذا النحو، أن النظام العالمي يتجه إلي تفاعلات تقوم علي أساس صراع بين ثلاث مجموعات من القوي. فحتي فترة قليلة مضت، كان المشهد العام في النظام العالمي هو أن الصراع يتنامي بين القوي المحافظة التي تهدف إلي الحفاظ علي استقرار النظام العالمي، والالتزام بقواعده وترتيباته، ويطلق عليها أيضا forces of order، والقوي المراجعة التي تسعي إلي تغيير بعض هذه القواعد والترتيبات، أو كثير منها، وتعمل من أجل تعديلها وتطويرها، ولكن باستخدام آلياتها في الأغلب الأعم، ويطلق عليها forces of disorder.
غير أن هذا المشهد بدأ يختلف عندما تبين أن قدرات القوي الإرهابية وإمكاناتها أكبر مما كان مقدرا، الأمر الذي دفع الرئيس باراك أوباما للاعتراف بأن إدارته وأجهزتها الأمنية أساءت تقدير تلك القدرات، خاصة ما يمتلكه “تنظيم داعش” منها. ولذلك، كانت الذكري الثالثة عشرة للهجمات التي أطلقت الحرب الأولي علي الإرهاب، فور وقوعها (سبتمبر 2014)، مناسبة لإعلان حرب ثانية عالمية هذه المرة، حيث سعت الولايات المتحدة إلي حشد أكبر دعم دولي لها.
ولم يمض عام علي إعلان ذلك التحالف، حتي كانت روسيا قد أرسلت عددا كبيرا من خبرائها العسكريين، وحشدت قسما كبيرا من سلاحي الجو والدفاع الجوي لديها لشن غارات في سوريا تحت الشعار نفسه “محاربة الإرهاب”. واقترن هذا التدخل العسكري الروسي ببناء ائتلاف إقليمي (إيران – الحكومة العراقية – النظام السوري) مضاد فعليا للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، رغم أن كليهما (التحالف الدولي، والائتلاف الإقليمي) يواجهان الإرهاب، أو هذا هو هدفهما المعلن.
وليس متصورا أن يحدث هذا كله إلا في إطار تغير يحمل في طياته تحولات محتملة في أنماط التحالفات السائدة في النظام العالمي، ومؤثرة في مستقبله. وربما يكون أول هذه التحولات هو اضطرار القوتين المحافظة والمراجعة إلي إعادة النظر في بعض حساباتهما، كل بمقدار، والسعي إلي إعادة ضبط التفاعلات الصراعية بينهما، في ضوء صعود قوة ثالثة مدمرة تهددهما والعالم معهما. وقد وجدنا مقدمات ربما تدل علي ذلك في صورة مبدئية، عندما تعاملت الولايات المتحدة وحلفاؤها بهدوء وحذر مع التدخل الروسي الذي لا يقتصر علي شن غارات جوية في سوريا، بل ينطوي علي بناء ما يبدو أنها ركائز وجود عسكري قوي وواسع النطاق وطويل المدي في منطقة الساحل السوري وشرق البحر المتوسط.
غير أنه يصعب توقع المدي الذي يمكن أن يبلغه إدراك خطر القوة الثالثة المدمرة الصاعدة، وما يقترن به من سياسات. ولكن المنطقي في هذه الحال هو خفض السقف الذي يمكن أن يبلغه الصراع، بين القوي المحافظة والقوي المراجعة، وليس تغليب التعاون علي هذا الصراع، لأن حالة عدم الثقة المتبادلة التي ازدادت بين الولايات المتحدة وروسيا، في الفترة الأخيرة، تحول دون وضع حد لهذا الصراع، بل تنطوي علي احتمال اشتعاله في أية لحظة، رغم ترجيحنا سعي كل منهما إلي التحلي بأكبر قدر من الحذر، في ظل تنامي تهديد الإرهاب، ودخوله مرحلة نوعية جديدة.
فليس ممكنا، علي سبيل المثال، أن نغفل دلالة نوع الأسلحة التي أرسلتها الدولتان إلي سوريا، منذ بداية أكتوبر 2015، وحتي كتابة هذه الافتتاحية في نهاية نوفمبر من العام نفسه.
دور دولي متجدد في تنامي الإرهاب:
يبدو في كل الأحوال، وأيا تكون طبيعة التفاعلات بين أمريكا وروسيا وحلفائهما، أن تدخلهما المتزايد سيؤدي علي الأرجح إلي مزيد من تنامي الإرهاب، الذي يبدو أنهما تتكالبان علي استخدام شعار الحرب عليه لتحقيق مصالحهما. فمن شأن هذا التكالب تمكين الإرهاب من أن يظهر كما لو أنه قوة “مقاومة” ضد قوي دولية عاتية طاغية، أو قوة تهدف إلي “تغيير العالم”، أو حتي إلي “تحريره”.
وهذا هو ما يسعي “داعش” إليه، إذ يقدم نفسه كذلك في كثير من الأحيان. وينطوي خطابه علي هذا المعني ممزوجا بكل شيء غيره تقريبا، ومستثمرا ما آلت إليه حال المنطقة العربية، نتيجة عقود من الاستبداد، والطغيان، والظلم، والفساد، والإفقار، والتهميش، والتجهيل، ومتمكنا من تحويل تداعيات هذا كله إلي مصدر قوة له. ومن بين ما نجح في استثماره سياسات القوي الدولية الكبري الفاشلة في الشرق الأوسط، والتي يعاد إنتاجها علي نطاقات أوسع في الوقت الراهن.
وربما يؤرخ للمرحلة الراهنة بوصفها التي شهدت أكبر دعم دولي ضمني للإرهاب، ترتب علي سياسات القوي الكبري خلال الأعوام الخمسين الأخيرة. فليست هذه هي المرة الأولي التي تؤدي فيها سياسات أمريكية، وأوروبية، وروسية (سوفيتية) إلي خلق أجواء تؤدي إلي تنامي الإرهاب.
وما اعتراف رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بأن الحرب علي العراق في مارس 2003 أسهمت في تنامي الإرهاب إلا تعبيرا نادرا عن ذلك. فلم يكن هذا الاعتراف بالخطأ، والاعتذار عن عدم مشاركة بريطانيا في الحرب علي العراق، هو أهم ما قاله بلير، في مقابلة تليفزيونية مثيرة أجرتها معه شبكة “سي.إن.إن” في 26 أكتوبر .2015 فلا يقل أهمية عن ذلك إقراره بأن تلك الحرب كانت سببا رئيسيا في تنامي الإرهاب، وأنها أسهمت في خلق البيئة التي أتاحت ظهور تنظيم “داعش” بعد ذلك. وبعد أيام علي تلك المقابلة، أعاد المرشح الديمقراطي المحتمل للانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، السيناتور بيرني ساندرز، تأكيد أن غزو العراق أسهم في تنامي الإرهاب، وظهور تنظيم “داعش”، وأن الولايات المتحدة تتحمل جزءا من المسئولية عن ذلك.
كان حديث ساندرز في مناظرة انتخابية ضمت مرشحين ديمقراطيين محتملين آخرين، هما هيلاري كلينتون، ومارتن أومالي، غداة الهجمات الإرهابية في باريس في 13 نوفمبر .2015 وكان مما قاله ساندرز: (إن الاجتياح الكارثي للعراق، والذي عارضته في وقته، كان واحدا من أسوأ أخطاء السياسة الخارجية الأمريكية. فقد زعزع استقرار المنطقة بشكل كامل، وأدي إلي تصاعد الإرهاب، وظهور تنظيم “داعش”).
وعودة إلي حديث بلير في المقابلة التليفزيونية معه، نجد أنه قدم نظرة أشمل في المسألة الإرهابية، إذ أوضح أن حرب 2003 ليست السبب الوحيد في تنامي الإرهاب، وأن ما يحدث في سوريا، منذ 2011، يلعب دورا كبيرا في هذا المجال. وربما قصد بذلك قمع نظام بشار الأسد الانتفاضة الشعبية، وسعيه إلي إغراقها في بحر من الإرهاب.
ويعني ذلك اتفاق بلير مع كثير من المحللين العرب والأجانب الذين يرون أن الإرهاب نشأ في منطقتنا لعوامل معظمها داخلية في الأصل، ولكنه تنامي وتوسع نتيجة سياسات بعض القوي الكبري. فقد ظهرت الخلايا الأولي لحركات رفعت شعار “الجهاد”، بما فيها الخلية التي انتمي إليها أيمن الظواهري، زعيم تنظيم “القاعدة” الآن، في أوائل ستينيات القرن الماضي لأسباب كانت محض داخلية.
غير أن عوامل خارجية أسهمت بقوة في تنامي الإرهاب، الذي بدأ محدودا في منطقتنا، عبر محطات ثلاث رئيسية علي الأقل. ارتبطت المحطة الأولي بالدعم الغربي الكامل لإسرائيل في حرب 1967 التي أحدثت نتيجتها المفجعة صدمة هائلة.
صحيح أن أخطاء كثيرة تراكمت في مرحلة شهدت صراعات عربية بينية عنيفة، واضطرابا عاما، وكانت هي العامل الأول وراء الهزيمة في تلك الحرب. ولكن الدعم الغربي لإسرائيل هو الذي جعلها هزيمة فادحة ومذلة، الأمر الذي دفع بعض الشباب إلي التمرد ضد أطروحات القومية العربية، والبحث عن بديل في تفسيرات دينية متطرفة مجافية لروح الإسلام.
وكانت المحطة الثانية عندما غزا الاتحاد السوفيتي السابق أفغانستان لدعم نظام شيوعي استولي علي السلطة بالقوة. فقد أدي هذا الغزو إلي تدفق أعداد كبيرة من الشباب من بلاد عربية عدة لمقاومة الغزاة تحت شعار “الجهاد”. وفي مجري الحرب الأفغانية، جري تكريس مفهوم متطرف لهذا “الجهاد”، ووجدت حركات متعصبة بيئة ملائمة للتمدد، في ظل مساندة من قوي دولية وإقليمية وقفت ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان.
وعندما انتهت تلك الحرب بهزيمة الجيش السوفيتي وانسحابه، كان هناك فائض من المقاتلين وغيرهم من المتطرفين الذين شاركوا في أعمال الإسناد والإغاثة. وتبلورت في تلك المحطة مقدمات تنظيم “القاعدة” الذي اعتمد علي قادة ومقاتلين تعارفوا في أفغانستان.
أما المحطة الثالثة للدور الدولي في تنامي الإرهاب، فهي تلك التي اعتذر بلير عنها. فقد أنتجت حرب 2003، وطريقة إدارة الأوضاع بعد إسقاط نظام صدام حسين، الظروف الملائمة لظهور “القاعدة” في العراق.
وأسهم التدخل الإيراني المتزايد، وسعي طهران إلي فرض هيمنتها، في إضفاء طابع مذهبي علي الصراع الذي اشتعل في العراق. ونقل هذا التدخل الإرهاب إلي مرحلة أبعد، خاصة حين صارت حكومة نوري المالكي ذراعا لطهران هناك.
وفي خضم هذا الصراع المذهبي، غير تنظيم “القاعدة في بلاد ما بين الرافدين” اسمه إلي “الدولة الإسلامية في العراق”. وعندما نجح الأسد في خلط الانتفاضة الشعبية بالعنف الذي لعبت أجهزته الأمنية دورا كبيرا في تأجيجه في سوريا، تصدرت حركات متطرفة المشهد، ووجد أبوبكر البغدادي فرصة ملائمة للتمدد عبر الحدود، وتأسيس “جبهة النصرة” في نهاية 2011، ثم إعلان “داعش” الذي استقطب قطاعا من تلك الجبهة، حين رفضت قيادتها الالتحاق به.
ويمثل التدخل الدولي الراهن في سوريا، والذي صار غير مسبوق في حجمه ونطاقه، بعد التدخل العسكري الروسي، محطة رابعة في السياسات الدولية التي أنتجت توسعا في الإرهاب في مراحله المتوالية. ورغم أن في كل من المحطات الثلاث السابقة دروسا واضحة بشأن دور التدخل الأجنبي في تنامي الإرهاب، فقد تواصل هذا الدور ليصل إلي محطة رابعة بدأت بإعلان الولايات المتحدة تحالفا دوليا لمواجهة الإرهاب، ومشاركة دول عدة في قصف مواقع لهذا الإرهاب. وجاء التدخل العسكري الروسي في سوريا ضمن هذه المحطة ليضاعف النتائج السلبية للتدخل الأجنبي التي قد يجني الإرهاب ثمارها هذه المرة بدرجة أكبر من سابقاتها، وكأن التاريخ يعيد إنتاج نفسه في صورة مأساوية.
دروس لا تجد من يستوعبها:
مادمنا بصدد استدعاء التاريخ، فمن الضروري التذكير بأنه حافل بالدروس لمن يريد أن يعتبر. وهناك اتجاهات مختلفة بشأن فرضية إعادة إنتاج ما حدث في التاريخ. ويتفق من يرون أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه علي أن هذا يحدث في صور جديدة، نتيجة اختلاف الظروف، وتغير الأزمان.
ويري كارل ماركس أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا في صورة مأساة أو ملهاة. وإذا صح ذلك بالنسبة إلي التدخل الدولي الراهن في سوريا والعراق، فسيفاقم هذا التدخل الآثار السلبية للمحطة الرابعة في تاريخ إسهام القوي الدولية الكبري في دعم الإرهاب، وهي المحطة التي بدأت بالتدخل الأمريكي لإعلان تحالف دولي هش استغله “داعش” لزيادة جاذبيته.
ربما تنجح روسيا هذه المرة في تجنب التورط في مستنقع من النوع الذي غرقت فيه إبان تدخلها في أفغانستان، والأرجح أنها ستتمكن من ذلك. ولكن هذا لا يحول دون أن يؤدي تدخلها العسكري إلي جذب مزيد من المقاتلين المؤيدين لـ “داعش”، وحصوله علي حواضن مجتمعية جديدة.
وهذا احتمال يصعب استبعاده بثقة واطمئنان. فتدخل روسيا بصفة خاصة، وبخلاف أية دولة أخري في المنطقة والعالم، يستدعي التاريخ، ويخلط الحاضر بالماضي، لأن المقاومة الأفغانية لموسكو أصبحت مصدر إلهام للتنظيمات المتطرفة والإرهابية.
ولذلك، فما إن بدأت روسيا حربها الحالية، حتي شرع بعض هذه التنظيمات، وفي مقدمتها “داعش”، في استدعاء الحرب الأفغانية، واستخدامها في حملات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتجنيد مزيد من الأنصار، وكسب تعاطف في أوساط جديدة. واستغل “داعش” الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، عندما وصفت حرب بوتين في سوريا بأنها “مقدسة”، قبل أن تحاول تدارك هذا الخطأ.
وربما تستطيع روسيا تحقيق تغيير جزئي في ميزان القوي في سوريا لمصلحة نظام الأسد، ومساعدته في استعادة عدد من المناطق التي فقدها. ولكن هذا “الانتصار” قد يكون فادح الثمن، إذا اقترن بنجاح “داعش” في استغلال التدخل الروسي، المتوازي مع تدخل أمريكي – غربي، لتجنيد أنصار جدد. وقد تكون النتيجة أكثر مأساوية إذا خلق هذا التدخل حالة تؤدي إلي نسخة إرهابية أكثر شراسة وانفلاتا من “داعش”.
ولذلك كله، ربما تكون المحطة الرابعة لدور القوي الدولية في تنامي الإرهاب هي الأكبر من حيث ارتداداتها السلبية، إذا ثبت ما بدأنا به، وهو استمرار السباق بين هذه القوي لفترة غير قصيرة في مواجهة الإرهاب، وتحوله إلي جزء من الملامح العامة لنظام عالمي، تؤدي سيولته إلي أخطار عدة أخري.
وهذا هو ما نود التنبيه إليه. فإذا راجعت القوي الدولية، التي تعرض كل منها قوتها فيما تسميه حربا علي الإرهاب، تاريخ مواجهته علي مدي نصف قرن، فربما تظهر في دوائر صنع القرار فيها، أو في بعضها، أصوات عاقلة تطلب مراجعة جادة، وتدرك أن الإرهاب الذي تحاربه لم يكن موجودا قبل خمسة عقود، وأن رصاصاته الأولي الطائشة ارتبطت بقضية فلسطين التي تتحمل هذه القوي كلها المسئولية عنها، وأن جذوره الضعيفة التي ترتبت علي عوامل داخلية بدأت تقوي، عندما لم تكتف هذه القوي بصنع كيان إسرائيلي، بل قام معظمها بمساندة هذا الكيان في سياساته العدوانية التي أنتجت حرب 1967، وتداعياتها التي سبقت الإشارة إليها في مجال الإرهاب. وأهم ما يمكننا استخلاصه من هذا التاريخ هو أن سياسات القوي الدولية الكبري أدت إلي توسع الإرهاب بدلا من القضاء عليه، فضلا عن صناعة أشكال وأجيال جديدة منه، آخرها حتي الآن ما صار يعرف باسم “داعش”.
ومع ذلك، لم تُقدم مؤسسات صنع القرار في هذه الدول علي ما قد يكون بديهيا في مثل هذه الحالة، وهو مراجعة السياسات التي اتبعت في محاربة الإرهاب، وإجراء نقد ذاتي لتوجهاتها وممارساتها، واستيعاب دروس الفشل، سعيا إلي عدم إعادة إنتاجه في صورة أخري.
فهذا الذي يبدو بديهيا لا تراه مؤسسات القرار في القوي الكبري كذلك، ولم يشرع فيه أي منها. بل علي العكس، انجرفت كلها في الفترة الأخيرة إلي إعادة إنتاج السياسات التي تحتاج إلي مراجعة، بدءا من سعي الولايات المتحدة إلي تشكيل “تحالف دولي” مزعزع يفتقد الحد الأدني من التماسك في مواجهة تنظيم “داعش”، وصولا إلي التدخل العسكري الروسي في سوريا.
وحتي المؤتمر الذي عقد في واشنطن في بداية 2015، تحت عنوان “المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب”، وبدا في حينه كما لو أنه يعبر عن اتجاه إلي مراجعة ما، تبين أنه لم يكن أكثر من حدث هامشي انتهي، ولم يعد أحد يذكره.
كان الجديد -الذي لم يلبث أن “تبخر”- في ذلك المؤتمر هو الاهتمام بالعوامل المؤدية إلي تطرف يتحول إلي إرهاب، وليس فقط بالنتائج المترتبة علي هذه العوامل. وفي كل الأحوال، ليس ممكنا تصور مراجعة سياسات تواصلت علي مدي عقود بمجرد عقد مؤتمر، وبدون مراجعة جوهرية لهذه السياسات، وتقييم موضوعي لها.
فهذه المراجعة ضرورية من أجل بلورة سياسة جديدة تحارب الإرهاب، ولا تؤدي تداعياتها السلبية إلي تعزيزه، وصناعة المزيد منه. وبدون هذه المراجعة، قد يتعذر تطوير السياسة الأحادية التي تعتمد علي القوة العسكرية وحدها، لتصبح متعددة الأبعاد، وتشمل ما طرح في مؤتمر واشنطن بشأن “تأسيس شبكة دولية ضد التطرف العنيف”، و”إحباط جهود داعش لتجنيد مقاتلين أجانب ومحاربته علي مواقع التواصل الاجتماعي”، و”تبادل المعلومات حول المتطرفين”، و”بناء دوائر خاصة علي المستوي المحلي لمحاربة بذور التطرف في المجتمعات الأكثر هشاشة”، و”إطلاق مبادرات مضادة للتطرف والحض علي العنف بمشاركة الفواعل المجتمعية والمنظمات غير الحكومية”.
وهذه أفكار جيدة بالتأكيد، ولكن إدماجها في سياسة جديدة أكثر فاعلية في مواجهة الإرهاب يتطلب مراجعة السياسات القديمة، فضلا عن التزام الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأكثر ثراء، وغيرها من الدول التي تدرك خطر انتشار الإرهاب في العالم، بدعم خطط للتنمية، وتطوير نظم التعليم في البلاد التي ينشط الإرهابيون فيها، ويسعون إلي تجنيد أعضاء جدد من أبنائها، في إطار مشروع عالمي متكامل تشرف عليه الأمم المتحدة.
فالخطط اللازمة لمواجهة العوامل المغذية للإرهاب مكلفة للغاية، وتفوق طاقات البلاد التي ينبغي اتباع هذا النوع من المواجهة فيها، وتحتاج بالتالي إلي تمويل دولي واسع النطاق.
غير أنه علي هذه البلاد، التي توجد كلها في منطقة الشرق الأوسط، أن تبادر إلي مراجعة السياسات التي تتبعها هي نفسها في مواجهة الإرهاب، لكي تقدم “نموذجا” يؤثر في سياسات القوي الدولية الكبري. فالحكومات القائمة في معظم هذه البلاد تتحدث من وقت إلي آخر عن شمولية مواجهة الإرهاب، وتعدد أدوات هذه المواجهة، ولكنها تظل معتمدة علي الأداة الأمنية والعسكرية وحدها، مثلها في ذلك مثل القوي الدولية الكبري.
فهذه المراجعة هي السبيل الوحيد إلي وقف تمدد الإرهاب الذي لا يتوسع ويتصاعد بفعل قوة ذاتية لا تقهر، مهما تكن قدرات بعض تنظيماته، بل نتيجة قدرته علي استثمار فائض القهر، والظلم، والاستعباد علي مدي عقود، إلي جانب نجاحه في استغلال ضعف أدوات من يواجهونه، أو قصورها، أو نقصها، أو عدم ملاءمتها. ولما كان القاسم المشترك في عملية مواجهة الإرهاب، علي المستويين المحلي والعالمي، هو الاعتماد علي الأداة الأمنية، فإن المشكلة تصبح منهجية في المقام الأول، أي تتعلق بمنهج هذه المواجهة.
وهكذا، تغدو مراجعة منهج مواجهة الإرهاب هي بداية التصحيح اللازم، بدلا من الانشغال دوما بالبحث عن تقصير أمني هنا أو هناك. فما إن تقع جريمة إرهابية، حتي يبرز السؤال عن “الثغرة الأمنية” التي أتاحت حدوثها وحالت دون استباقها.
ولا يعني ذلك استبعاد هذا السؤال، بل وضعه في مكانه الصحيح، وحجمه الحقيقي، في ضوء المراجعة المنهجية المطلوبة الآن. فمن شأن هذه المراجعة تبين أن الاعتماد علي الأداة الأمنية وحدها، في الأغلب الأعم، لا يتيح محاصرة الإرهاب بشكل حاسم، وتقليصه إلي أدني مستوي ممكن. ويعود ذلك إلي طبيعة العمل الأمني الذي يتسم بفاعلية أكبر في مواجهة الجرائم الجنائية العادية، مقارنة بالجريمة الإرهابية، وطبيعة العمل العسكري النظامي الذي تقل فاعليته في “الحروب غير المتماثلة”، التي يكون الطرف الآخر فيها تنظيما إرهابيا، أو أية مجموعة مسلحة. ولذلك، تبدو مراجعة منهج الاعتماد علي الأداة الأمنية – العسكرية في مواجهة الإرهاب ملحة، لأنه لا يفيد في معالجة العوامل المؤدية إليه، التي تكمن في البيئة الثقافية – الاجتماعية، والاقتصادية – السياسية.
فعندما تكون البيئة منتجة للتطرف والتعصب اللذين يمثلان الخلفية الأساسية للإرهاب، يؤدي الاعتماد علي الأداة الأمنية – العسكرية وحدها إلي حلقة مفرغة. فهذه البيئة تنتج متطرفين ومتعصين قابلين لأن يتحولوا باتجاه الإرهاب بمقدار ما يؤدي استخدام تلك الأداة إلي قتل إرهابيين، أو إلقاء القبض عليهم.
ويتطلب تغيير هذه البيئة وقتا غير قصير. ولكن المهم هو أن يبدأ هذا التغيير عبر إصلاحات اجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وسياسية تظهر آثارها بشكل تدريجي، ولكنه مطرد، ومتزايد، وملموس.