ليست صدفة تلك الأحداث المتزامنة التي شهدها محيط دمشق مؤخراً، قتل قيادات “جيش الإسلام” في الغوطة الشرقية وإخراج “داعش” من جنوب دمشق، ولا يمكن قراءتها كأحداث متفرقة، بقدر ما هي حركات منسّقة تجري على رقعة أوسع تهدف إلى تغيير الأوضاع وإعادة صياغة الواقع الميداني في سبيل تصريفه على شكل تسوية سياسية تتوافق مع التصورات الروسية للحل.
في إطار إستراتيجية أوسع بدأت تتضح ملامحها، بدأت روسيا في صناعة سياق متكامل استباقاً للمفاوضات التي دعا إليها قرار مجلس الأمن رقم 2245 بين الأطراف المتصارعة في سورية، واستثماراً في الوقت ذاته للفترة الزمنية التي يتيحها القرار للبدء بعملية وقف إطلاق النار بين الطرفين، مع بقاء هذا الأمر مرهوناً بتوافق الأطراف على تصنيف الفصائل والمنظمات بين معتدل وإرهابي ومن يحق له المشاركة في العملية السياسية وبالتالي يجري تحييده من الاستهداف ومن يتم تصنيفه إرهابياً وتصبح الحرب ضده مشروعة.
الإستراتيجية الروسية تعتمد على الاستمرار في ضرب جميع الفصائل المعارضة، من حيث البنية التحتية والهياكل والأطر العسكرية بالإضافة إلى قطع طرق الإمداد، إما بالنار كما يحصل على المنافذ التركية، وإما بالتسويات والتفاهم مثل الوضع على الجبهة الجنوبية مع الأردن.
وفي إطار هذه الإستراتيجية تقوم روسيا بضرب المفاصل الحسّاسة لدى فصائل الثورة، وهو ما ظهر عبر عملية قتل قيادات “جيش الإسلام” في الغوطة الشرقية، والهدف من وراء ذلك خلق حالة من الفوضى داخل أطر الفصائل المعارضة تؤدي، بالإضافة إلى كثافة الضربات وتراكمها، إلى تصديع تلك الفصائل وتفكيكها خصوصاً أنها من حيث التركيبة هي عبارة عن فصائل عديدة تقوم بالتنسيق بين بعضها ولها قيادات متعددة وتوجهات ليست متطابقة وبخاصة على المستوى الأيديولوجي، وتجمعها في أحيان كثيرة مصالح ظرفية وعابرة من نوع تبادل الخدمات والتشارك في الإمداد اللوجستي، كما يشكل عامل القربى دوراً مهماً في كل فصيل وفي مسألة الترابط عموماً، وبالتالي فإن عملية ضرب المفاصل التي تربط بينها تهدف إلى تفكيك تلك الروابط وإنهاء تفاعلاتها ومفاعيلها.
تهدف إستراتيجية ضرب المفاصل التي تتبعها روسيا إلى جعل كل فصيل يبحث عن عملية الخلاص التي تناسبه والتي سيكون لها مخرج واحد في الغالب هو المصالحات التي يجريها نظام الأسد والتي تنتهي على شكل تسوية أوضاع بعض الذين تضعهم الأجهزة الأمنية على قوائمها وسلخ القضية في النهاية عن بعدها الثوري.
ويأتي إخراج تنظيم “داعش” من جنوب دمشق في إطار هذه الإستراتيجية ولكن بغرض توظيفها سياسياً لصالح رواية روسيا والنظام عن الثورة، ومن المعلوم أن “داعش” في جنوب دمشق كان قد أدى خدمات وظيفية مهمّة للنظام السوري تمثّلت في إنهاك الفصائل الموجودة وإشغالها عن مقاتلة النظام، وبالفعل خسرت الفصائل المقاتلة في تلك المنطقة العديد من كوادرها وجزءاً من ذخيرتها وهي حالة حصار في المواجهة مع “داعش”. صحيح أنه بعد ذلك جرى حصر “داعش” من قبل الفصائل الثورية وإنهاء فاعليتها التخريبية، وربما هذا هو السبب الذي دفع النظام إلى عقد تسوية معها لإخراجها من جنوب دمشق وذلك بهدف توظيف هذا الحدث سياسياً وإظهار أن النظام كان يقاتل “داعش” في هذه المنطقة، علماً أن التنظيم لم يبقَ لديه في الفترة الأخيرة سوى أقل من خمسمئة عنصر وأما الآلاف الذين خرجوا فقد كانوا من أهالي المنطقة الذين أنهكهم الحصار ويرغبون في الخروج من إطاره، وقد استفاد تنظيم “داعش” ونظام الأسد من تكبير حجم الخارجين من المنطقة.
ماذا يعني ذلك وما هي آثاره على المشهد السوري العام؟ من الواضح أن روسيا تتلطى خلف الحراك الديبلوماسي الذي يمنحها مساحة واسعة للمناورة تستثمرها في فرض وقائع جديدة تجعل كل التفاهمات التي جرى التوافق عليها تصبح من الماضي ولا تتناسب مع الواقع الميداني، وبالتالي دفع المجتمع الدولي إلى البحث عن مقاربات جديدة مع تلك المتغيرات، بما فيها خيار الإبقاء على الأسد في السلطة ولكن بوصفه مدافعاً ضد الإرهاب، وهذا الأمر يرتّب على المعارضة والدول الداعمة لها عدم استمرار الرهان على محدودية قدرة روسيا على تغيير الأوضاع لصالح نظام الأسد ومواجهة الوجود الروسي بطرق أكثر عملانية سياسياً وميدانياً، بما في ذلك الضغط على روسيا لوقف حربها وتذكيرها أنها تمارس حرباً على مجتمعات محلية بالدرجة الأولى وأن المقاتلين الموجودين في هذه المناطق هم أبناء هذه المجتمعات وقد قاموا بالثورة على نظام فاسد وغير شرعي.
غازي دحمان
صحيفة الحياة اللندنية