تغيير بتجدد يحيط بالمشهد السياسي السوري ويعطي دلالات ميدانية دقيقة لما ستؤول إليه الأحداث مستقبلًا، ولكن الأمر يتعلق وكما هو دائمـا بعدم الحضور العربي في الميدان وعدم وجود تأثير فعلي له، وإنما تحددت مسارات الأوضاع عبر أدوات ووسائل إقليمية دولية، وهذا يعني استمرار الغياب العربي في جميع الأزمات والمشاكل التي تهم منطقة الشرق الاوسط والوطن العربي، وهو مدعاة للألم والمعاناة التي لا حلول لها، وإنما تكون تابعة لأي ظرف ومتغير تتعامل معه وفق المعطيات التي تراها ولكن دون تقديم أي وجهات ذات مفاعيل لحل هذه الأزمات.
ما يحدث الأن على الساحة السورية، ليس شأنًا داخليًا فقط وإنما له امتداد وتأثير واضح على مستقبل المنطقة وبكل اتجاهاتها وصيغها السياسية والفكرية والاجتماعية، ولكن المنظور الميداني الذي يحيط بالمشهد السوري أنه يذهب نحو تفتيت أدوات المشروع الإيراني وكبح جماح وكلائه وشركائه وإضعاف قدرته على أي متغير سياسي ميداني قادم وخروجه عن التأثير الفعال في مستقبل سوريا السياسي، وهو هدف تشترك فيه جميع الأطراف الإقليمية والدولية ويشكل مقدمات دقيقة لفهم واقع الحال القادم والصورة التي يجب أن تتعامل معها المنطقة.
تحركت الأطراف العربية خلال الأيام الماضية واتفقت على استضافة العاصمة القطرية ( الدوحة) اجتماعًا للمشاركين الفاعلين المساهمين في مفاوضات مستقبل سوريا السياسي والذين كانوا يجتمعون في عاصمة كازاخستان ( أستانا) في السنوات الماضية وهي أطراف التواجد السياسي والعسكري على الأراضي السورية ممثلة بدول ( روسيا وإيران وتركيا).
سيكون محور الاجتماع الذي سيعقد يوم السادس من كانون الأول 2024، التأكيد على الثوابت الرئيسية التي اعتمدتها الجولة الرابعة من المفاوضات التي عقد في سنة 2017 والدعوة لتنفيذ القرار الاممي (2254) واعتباره اساس الحل السياسي بخفض التصعيد وحماية المدنين ومعالجة الوضع الإنسان وخلق ظروف للتقدم نحو تسوية سياسية.
أن اعتماد تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي (2254) يعني إقرار دستور جديد وإجراء انتخابات بإشراف الأمم المتحدة وممارسة الحكم بطريقة شفافية تكون طريقًا لانهاء حالة الصراع القائم، وهي الأسس التي اتفق عليها الجانبان الروسي والتركي في دعم تنفيذ قرار الأمم المتحدة (2336) الذي أقرته في 31 كانون الأول 2016.
يمكن العودة إلى أسباب الاجتماع القادم في الدوحة، انه يعيد الدور العربي الذي لم نراه فاعلًا أو قادرًا على إيجاد مفاتيح رئيسية لانهاء حالة الصراع بين اطراف الأزمة السورية، والتي سبق للحكومة التركية الروسية أن أقرت بيانًا رئاسيًا حول مناطق أدلب وريفها، عماده اتفاق الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين لتثبيت هدنة إدلب في آذار 2020 بعد أشهر على اتفاقات مشابهة بين أميركا وتركيا وروسيا لرسم الخطوط شرق الفرات، والتي أصبحت مقسمة عمليًا إلى ثلاث مناطق نفوذ، واحدة تشكل حوالي 65 ٪ وتسيطر عليها الحكومة السورية بدعم روسي وإيران، والثانية تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي بقيادة أميركا وتبلغ حوالي 25 ٪ من سوريا، والاخرى تقع شمالي سوريا وشمالها الغربي، وتسيطر عليها (هيئة تحرير الشام) مع فصائل مسلحة تدعمها تركيا.
أعطت الوقائع الميدانية للأوضاع العسكرية في الساحة السورية ملامح واضحة أكدت صورة المصالح والأهداف السياسية والأمنية التي تسعى إليها جميع الأطراف ومنها الاستخدام السياسي الذي انتهجته إدارة الرئيس أردوغان في تحريك ورقة الفصائل المسلحة الداعمة لها في شمال غرب سوريا حيث منطقة أدلب وضواحيها، بعد الممانعات التي ابدتها سوريا في رفضها لجميع الدعوات التركية والوساطات الروسية في اللقاء والمصالحة بين الطرفين واصرت دمشق على ضرورة قيام تركيا بانسحاب عسكري من جميع الأراضي السورية وهو ما يتوافق والرأي الإيراني الذي يمنع أي منافسة لأهداف مشروعه السياسي وتمدده الأمني في الميدان السوري.
ولهذا فإن التطور الحاصل في جبهة حلب إنما يؤكد القدرة الأمنية الاستخبارية التركية التي تمكنت من إعادة نشر قوات الفصائل المسلحة في عمق وأطراف محافظة حلب والدفع بأدوات ومناصري قوات قسد نحو مناطق شرق الفرات وتحديدًا منطقتي ( منبج والشهباء) والتي بدأت تشهد مواجهات عسكرية بين أفراد الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية،
وبعد الجهد العسكري الذي تحقق في سيطرة الفصائل المسلحة على المواقع العسكرية لقوات الجيش السوري في ( حلب وريف إدلب وأطراف حماة) وعثورها على عشرات المستودعات من الأسلحة والذخائر وبكميات كبيرة تسمح لها بتوسيع تمددها على باقي المدن السورية، ومنها ذخائر لصواريخ أرض-أرض قصيرة المدى، وصواريخ من طراز كورنيت، وكميات كبيرة من صواريخ غراد، وكميات من قذائف الدبابات والذخائر المتوسطة والخفيفة.
وهذا الموقف التركي وأن بدى غير مباشر ألا أنه آثار حفيظة الجانب الإيراني الذي ادرك حقيقة مستقبل وجوده ومدى إمكانية استمراره في تنفيذ مشروعه في سوريا بعد الخسائر التي مني بها حلفاؤه في الجنوب اللبناني ومليشياته المسلحة في مدينة حلب وضواحيها، والذي أكده تصريح (علي أكبر ولايتي) مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي ( إن بلاده لم تكن تتصور أن تقع تركيا في حفرة حفرتها أميركا وإسرائيل) ودعوته إلى وزير خارجية تركيا هاكان بقوله (كنا نأمل أن يتمكن وهو شخصية ذات خبرة في مجال الاستخبارات والسياسة الخارجية، من تصحيح بعض أخطاء السياسة الخارجية التركية)،وهذا ما يشير إلى عدم التوصل إلى رؤية مشتركة بين طهران وأنقرة حول الأوضاع الجارية الآن في المشهد السوري بعد الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية عراقجي للعاصمة التركية ( أنقرة)، وأعطى ولايتي رسالة لجميع الأطراف السياسية ضمن اسلوب الممانعة والتهديد الذي يبديه الايرانيون عن كل أزمة تهدد مصالحهم القومية عندما أكد على أن أفراد الحشد الشعبي في العراق وانصار الله من الحوثيين في اليمن والاخوة الأعزاء في فلسطين، يقفون جميعهم متحدون في دعم وحدة الأراضي السورية، وزادت إيران من خشيتها في استبعادها عن أي محور سياسي قادم في سوريا عندما أعلنت وزارة خارجيتها ( أن إيران تفكر في إرسال قوات إلى سوريا إذا ما طلبت دمشق ذلك)؟؟ وكأنها تنفي وجود فصائل ومليشيات وقادة من فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني على الأرض السورية!!
إيران تدرك الأهمية القصوى التي فقدتها في سيطرة الفصائل المسلحة على مدينة حلب، حيث انها كانت تتمتع بنفوذ أمني وسياسي كبير وسيطرة ميدانية مباشرة على منطقتي ( نُبل والزهراء) والتي بقيت تحت النفوذ الإيراني منذ عام 2012-2017 وشكلت محورًا طائفيًا حينها بسبب الأغلبية السكانية التي تسكنها من المذهب الشيعي،
وهو نفس الحالة التي تعانيها قوات سوريا الديمقراطية التي كانت تسيطر على أحياء ( الأشرفية والشيخ مقصود) وجزء من الأرياف السورية في منطقتي ( تل رفعت والشيخ حديد) ذات الأغلبية الكردية.
المتصدر للحدث السوري هو الفاعل التركي الذي يمثل أداة الدعم للفصائل المسلحة والتي بدأت تحدد أهدافها القادمة معتبرة مدينة حماة انطلاقة ميدانية نحو تحقيق أهدافها الاستراتيجية والتي من خلالها ستعلن قيام دولة أو إقليم يمثل جزءًا حيويًا من أي تسوية سياسية قادمة على الأراضي السورية،
أن الموقف التركي يسعى إلى استقبال الرئاسة الأمريكية عبر أدوات سياسية مؤثرة ودور تركي واسع يعيد للاذهان الموقف التركي من الخلاف بين وأذربيجان وارمينيا من إقليم كارباخ، وما يحصل في المشهد السياسي الليبي.
تعمل قيادة الفصائل المسلحة وفق نظرية الانتشار والتمدد بالحفاظ على ثوابتها وتحقيق أهدافها، فدخول مدينة حماة وتوسيع هيمنتها يساعدها على تنفيذ هدفها الاستراتيجي برفع المعنويات الشعبية لأهالي محافظات حمص ودرعا والسويداء التي تنتظر عملية السيطرة التامة وأحكام التموضع العسكري لمقاتلي الفصائل المسلحة في مدينة حماة التي تمثل عصب الاتصالات والتواصل بين المدن السورية وقطع امدادات الجيش السوري.
ويبقى الحال قائم في كيفية معالجة تطور الأحداث من قبل الأتراك، لأن الأهم هي التفاعل التركي السياسي الداخلي مع وجهة النظر السياسية للرئيس أردوغان واركان حكمه ومؤسساته الأمنية الاستخبارية، الأوضاع الداخلية ليست كما كانت قبل عقد من الزمن والتحولات الإقليمية تفرض تأثيرها على قرارات الدول ومصالحها الذاتية.
ويبقى الموقف العربي سائر في مسارات تسوية الأوضاع وإدارة الاجتماعات ليكون طرفًا مساعدًا وليس فاعلًا أساسيًا بسبب الاختلاف السياسي في وجهات النظر نحو الازمات المستعصية في المنطقة العربية.
وحدة الدراسات الاقليمية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة