الباحثة شذا خليل *
بينما تستعد أوروبا لمواجهة شتاء آخر قد يكون قاسيًا، تتصاعد أزمة دبلوماسية واقتصادية بين الاتحاد الأوروبي وأحد أهم موردي الغاز الطبيعي المسال له: قطر. ففي رسالة دبلوماسية مؤرخة في 21 مايو 2025، وجهها وزير الطاقة القطري سعد الكعبي إلى الحكومة البلجيكية، حذّرت الدوحة من أنها قد تبدأ في تحويل صادرات الغاز بعيدًا عن أوروبا، احتجاجًا على توجيه الاتحاد الأوروبي الجديد بشأن العناية الواجبة للاستدامة المؤسسية.
هذا التطور، الذي كشفته وكالة رويترز، يحمل عواقب سياسية واقتصادية خطيرة على القارة الأوروبية، خاصةً مع استمرار اضطرابات أمن الطاقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022.
خلفية تاريخية: من الاعتماد على روسيا إلى قطر
قبل عام 2022، كانت أوروبا تعتمد على روسيا لتوفير حوالي 40% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي. لكن ذلك تغير بشكل جذري عندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير 2022، فردّ الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات صارمة، بينما استخدمت روسيا الغاز كسلاح للضغط على الغرب.
في ظل هذا الوضع، سعت الدول الأوروبية إلى إيجاد بدائل موثوقة، وهنا دخلت قطر كأحد أهم اللاعبين. بين عامي 2022 و2024، أصبحت قطر توفر حوالي 12% إلى 14% من واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المسال (LNG)، عبر موانئ بلجيكا وهولندا وفرنسا وإيطاليا. كما وقعت اتفاقيات طويلة الأمد مع شركات أوروبية كبرى مثل Shell وTotalEnergies وEni.
ما هو قانون العناية الواجبة ولماذا تعترض قطر؟
قانون “العناية الواجبة للاستدامة المؤسسية” الذي أقره الاتحاد الأوروبي في عام 2024، يفرض على الشركات الكبرى العاملة في السوق الأوروبية أن ترصد وتُعالج انتهاكات حقوق الإنسان والأضرار البيئية في سلاسل التوريد الخاصة بها، سواء داخل الاتحاد أو خارجه.
أهم بنوده تشمل:
• إلزام الشركات بوضع خطط انتقال مناخي تتماشى مع اتفاق باريس للحد من الاحترار العالمي إلى أقل من 1.5 درجة مئوية.
• فرض غرامات قد تصل إلى 5% من إيرادات الشركة العالمية في حال عدم الامتثال.
• توسيع نطاق المسؤولية القانونية إلى شركاء خارجيين في سلاسل التوريد.
قطر، التي تواجه انتقادات مستمرة بشأن ظروف العمل والانبعاثات، ترى أن هذا القانون يمثل تدخلًا في سيادتها. في رسالته، قال الوزير سعد الكعبي إن “دولة قطر وشركة قطر للطاقة لا تنويان تحقيق صافي انبعاثات صفرية في المستقبل القريب”، ووصف بنود القانون بأنها “تتعارض مع الحق السيادي للدول في تحديد أهدافها المناخية”.
ما تأثير التهديد القطري على أوروبا؟
يأتي هذا التهديد في وقت حساس، إذ لا تزال أوروبا عرضة لتقلبات أسعار الطاقة، خاصة في الشتاء. ورغم امتلاء مخازن الغاز حاليًا، فإن أي اضطراب في الإمدادات يمكن أن يكون له عواقب فورية.
النتائج المحتملة تشمل:
• ارتفاع كبير في أسعار الغاز والكهرباء.
• استنزاف احتياطات الغاز المخزنة خلال فترات البرد القارس.
• لجوء بعض الدول إلى الوقود الأحفوري الأكثر تلوثًا مثل الفحم والديزل.
• زيادة الضغط على الميزانيات العامة لدعم الأسر والشركات.
في الشتاءين الماضيين، أنفقت حكومات الاتحاد الأوروبي مئات المليارات من اليوروهات لحماية المواطنين من أسعار الطاقة المرتفعة. وإذا انسحبت قطر فعليًا من السوق الأوروبية، فقد يتكرر السيناريو.
صدام أوسع: المناخ مقابل السيادة
يكشف هذا الخلاف عن التحدي الجوهري الذي يواجهه الاتحاد الأوروبي: كيف يفرض معاييره البيئية والحقوقية في عالم لا تشاركه فيه دول كثيرة نفس القيم أو الالتزامات. فبينما يرى الاتحاد أن القانون خطوة نحو اقتصاد عالمي أكثر عدلاً واستدامة، ترى قطر أنه يمثل تدخلاً استعماريًا تنظيميًا جديدًا.
كما أن الخلاف يسلّط الضوء على التناقض في اتفاق باريس نفسه، حيث يُسمح للدول بتحديد مساهماتها الوطنية بشكل مستقل، في حين يفرض الاتحاد الأوروبي الآن على الشركاء الأجانب التزامات إضافية عبر التشريعات.
من ناحية أخرى، تواجه شركات مثل Shell وTotalEnergies معضلة قانونية وتجارية حقيقية: إما الالتزام بالقانون الأوروبي ومخاطرة خسارة العقود القطرية، أو استمرار التعاون مع قطر مع خطر التعرض للغرامات الأوروبية.
هل هناك فرصة للتفاوض؟
اقترحت المفوضية الأوروبية بالفعل تعديلات على القانون، بما في ذلك تأجيل تطبيقه إلى منتصف عام 2028، وتخفيف بعض الالتزامات. لكن قطر قالت صراحة إن هذه التعديلات “غير كافية”. وذهبت أبعد من ذلك، واقترحت إلغاء البند المتعلق بخطط المناخ تمامًا.
الكرة الآن في ملعب المفاوضين الأوروبيين: هل سيتمسكون بالمعايير البيئية، أم يرضخون للضغوط الاقتصادية والشتاء القادم؟
خاتمة: أزمة طاقة أم اختبار قيمي؟
غاز قطر ليس مجرد سلعة — بل هو أداة ضغط سياسية. تهديدها بتحويل الإمدادات بعيدًا عن أوروبا هو أول مواجهة علنية بين دولة منتجة للطاقة وتشريعات الاستدامة الأوروبية. ومع انتقال العالم تدريجياً إلى الطاقة الخضراء، من المرجح أن تتكرر مثل هذه الصراعات.
يبقى السؤال المحوري: هل يستطيع الاتحاد الأوروبي التوفيق بين قيمه ومصالحه الحيوية؟ وهل يمكنه فرض رؤيته الأخلاقية على شركاء يعتمد عليهم في أمنه الطاقي؟
الشتاء القادم سيكشف الإجابة.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الرروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
