اياد العناز
بتاريخ 8 آب 2025 وقع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترمب في إحدى قاعات البيت الأبيض اتفاقية سلام دائمة تنهي فيها نزاعًا تاريخيًا بين البلدين امتد لأربع عقود من الزمن، والاتفاق يعتبر إنجازاً سياسيًا واقتصاديًا مهمًا للبلدين في جنوب القوقاز، وهي المنطقة الاستراتيجية التي تمثل إحدى دعامات التجارة الدولية وتصدير الطاقة من النفط والغاز والطريق الرئيسي الذي يمتد إلى بحر قزوين والبحر الأسود ويشكل أهمية بالغة في الحفاظ على المصالح والمنافع لدول أوربية وأسيوية،
ونتيجة لهذه الاتفاقية السلمية الإقليمية وقع الرئيس ترامب عدة اتفاقيات مع أذربيجان وأرمينيا تتعلق بشؤون الطاقة والتكنولوجيا والتعاون الاقتصادي وأمن الحدود والبنية التحتية والتجارة، ومع تمتع الولايات المتحدة الأمريكية باحقيتها في التمتع بتواجد ميداني لعملية تطوير ممر عبور استراتيجي عبر جنوب القوقاز سيطلق عليه اسم ( طريق ترامب للسلام والازدهار).
وتحصل أذربيجان بموجب الاتفاقية على رفع القيود عن المعاملات الدفاعية عنها وتعزيز من التعاون العسكري والدفاعي بينهما والعمل على تعزيز التعاون في مجال الربط الإقليمي في مجالات الطاقة والتجارة والنقل والاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية والتعاون الأمني في مكافحة الإرهاب،وستحصل أرمينيا على تعاون استراتيجي مع واشنطن في المجالات الاقتصادية والتبادلات التجارية والاستثمار ات المالية ودعم الوجود الإقليمي لها.
أن من أهم ما تحقق للولايات المتحدة الأمريكية هو التواجد الاستراتيجي الذي يخدم مصالحها ويدعم أهدافها الجيوسياسية ومصالحها الاقتصادية عبر العمل على تنفيذ الربط الإقليمي ل(ممر زنغزور ) ورؤية أمريكية طرحها السفير الأمريكي في أنقرة (توم باراك) بتأجير الممر البالغ طوله 43 كم والذي يمر عبر إقليم سيونيك جنوبي أرمينيا ويربط أذربيجان وجمهورية ناخيتشيفان الواقعة بين أرمينيا وإيران، لمدة 99 عامًا وبحماية عسكرية لشركات أمنية خاصة.
يشكل انشاء الممر أهمية سياسية واقتصادية في العقيدة الإيرانية العسكرية والأمنية، وكانت طهران من أشد المعارضين لإنشائه وتحالفت مع أرمينيا لمنع إقامته في السنوات الماضية، ولكن لضعف الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط بعد الضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية التي انطلقت فجر يوم 13 حزيران 2025 وما سبقه من خسائر كبيرة للمشروع الإيراني في الجنوب اللبناني ومقتل معظم قيادات حزب الله السياسية والعسكرية وسقوط نظام الأسد وهروب رئيسه لموسكو وافتقاد طهران للدعم الروسي في منع إقامة الممر بسبب ضعف التواجد الروسي في منطقة القوقاز، أدت إلى الحد من الخيارات السياسية والتأثيرات الإقليمية الإيرانية ومنها معارضتها لإنشاء ممر (زنغزور ) مما اتاح المجال لتركيا التي سعت لتدعيم العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان عبر الزيارة التاريخية التي قام بها رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في 27 حزيران 2025 لأنقرة ولقائه الرئيس أردوغان والاتفاق على تعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما والسعي التركي للمصالحة الدائمة مع أذربيجان الحليف التركي الدائم في المنطقة، وما أكده رئيس الوزراء الأرميني عن جهوده في حث الأرمن عن تجاوز فكرة أرمينيا التاريخية التي تشمل الأراضي الموجودة داخل تركيا، ووضع أول مرتكزات اساسي للعلاقة مع أنقرة التي بادرت لتسهيل عملية التواصل والحد من العمليات العدائية والعسكرية بين أرمينيا وأذربيجان باتفاق البلدين على مسودة معاهدة سلام في آذار 2025، والتي تكللت بنجاح في عقد اجتماع لمحادثات سلام بين الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في عاصمة دولة الامارات العربية المتحدة ( ابو ظبي) بتاريخ 10 تموز 2025، وكانت البداية لمناقشة انشاء ممر زنغزور.
أن انشاء الممر سيعرض مصالح إيران الجيوسياسية في منطقة جنوب القوقاز للخطر بإضعاف نفوذها الإقليمي سياسيًا واقتصاديًا ويساعد على تكوين اتحاد سياسي واقتصادي للدول ذات الامتداد التركي في الجهة الشمالية وهي ( أذربيجان أوزبكستان قيرغيزستان وتركمستان) مع تعزيز للدور الأمني والنفوذ العسكري التركي الأذربيجاني، ويتم عزل طهران بقطع حدودها البرية مع أرمينيا ويفقدها أهميتها كمعبر إقليمي حيوي ويضعف قدرتها على التحكم بطرق تجارتها مع روسيا وأوروبا وخسارتها إلى 30٪ من دورها الإقليمي في طرق المواصلات، وستكون السيطرة والهيمنة الاقتصادية والتجارية وطرقها تحت ارادة تركيا وأذربيجان.
تنظر إيران إلى الآثار التي تهدد أمنها القومي بسيطرة واشنطن على ممر (زنغزور ) عبر قيام الأجهزة الاستخبارية الأذربيجانية بتأجيج حالة الصراع القومي في المحافظات الشمالية الإيرانية التي يمثل الأذريون فيها نسبة 19٪ من الشعوب الإيرانية ويبلغ عددهم حوالي (18) مليون أذري، وتتجاوز الحدود الجغرافية بين إيران وأذربيجان مسافة 689 كم مع اشتراكهما في موارد بحر قزوين والتي تشكل خلافًا لا زال قائمًا بينهما، ومنع أي خلافات وتوترات وصراعات سياسية مع الحكومة الأذربيجانية، تساهم في إثارة أبناء القومية الأذربيجانية بإيران التي يسكن اغلب أبنائها في محافظات ( أذربيجان الشرقية وأذربيجان الغربية وأردبيل وزنجان وقزوين) شمال غربي إيران بالتحادد مع أذربيجان، والتأثير على باقي القوميات الأخرى مثل الأكراد والعرب والبلوش التركمان واحتواء أي تأثير على استقرار إيران وأمنها القومي.
ولكن يبقى الأمر الأهم الذي يقلق إيران هو ما يتعلق بطبيعة العلاقات الأمنية والاستخبارية والتعاون العسكري بين إسرائيل وأذربيجان، حيث تستورد الحكومة الأذربيجانية 70٪ من معداتها العسكرية من إسرائيل مع وجود التحالف الأمني الذي أصبح أكثر وضوحًا في بداية المواجهة الإسرائيلية الإيرانية الأخيرة واتهام طهران لباكو بوجود شراكة عسكرية وأمنية لمساندة ودعم إسرائيل واستخدام الأجواء الأذربيجانية في مهاجمة أهداف عسكرية في مدن ( تبريز وشاهرود وأردبيل ورشت) داخل العمق الإيراني.
سعت إيران ورغم محدودية تأثيرها السياسي الإقليمي الآن إلى تحركها باتجاه روسيا والهند في محاولة لمواجهة ما تراه مشروعًا أمريكيًا اسرائيليًا تركيًا في انشاء ممر ( زنغزور ) بمنطقة القوقاز يهدد وجودها ويؤثر على أمنها ومستقبل مصالحها الاقتصادية والتجارية مع روسيا، ولكن بسبب التطورات والمتغيرات السياسية التي شهدتها الأحداث في القوقاز وابتعاد القيادة الروسية وانشغالها في حربها مع أوكرانيا وعدم رغبة الهند في تصعيد أي خلاف لها مع الولايات المتحدة الأمريكية والحفاظ على علاقتها الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية معها، سوف لا تتمكن إيران من الحصول على أي نتيجة ممكن الوصول إليها، وأن موازين القوى تميل لصالح المحور الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي التركي بعد أن أبدت أرمينيا مرونة بشأن إنشاء ممر زنغزور والذي كان أهم البنود التي رافقت عقد معاهدة السلام مع أذربيجان في البيت الأبيض، رغم أنها بموافقتها تضعف مكانتها الإقليمية وتنتقص من سيادتها وتمنح فرصة للوجود الأمريكي بمحاصرة أراضيها.
أن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر للفوائد المالية والاقتصادية والسياسية التي تمكنها من انشاء ممر ( زنغزور )، الذي سيحقق لها مردودات مالية تتراوح ما بين (20-50) مليار دولار بحلول عام 2027 وهو ما يرغب فيه ويسعى إليه الرئيس دونالد ترامب، كما يساهم في رسم الملامح المستقبلية لموازين القوى في جنوب القوقاز واستغلال غياب وتراجع النفوذ الروسي وتعزيز التواجد الأمريكي في أكثر البقاع الجغرافية أهمية حيث خطوط الطاقة والنقل والتجارة، ووجود المصالح الجيوسياسية لعديد من الجهات الإقليمية والدولية بما فيها الصين وروسيا، مع أهمية بالغة الاستراتيجية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط بعزل إيران سياسيًا ولوجستيًا وقطع وصولها القوقاز ودول أسيا الوسطى.
اما على المستوى السياسي التركي، فإن إنشاء ممر( زنغزور ) يشكل غاية استراتيجية وأهمية بالغة لأنقرة إذ يمنحها سيطرة كاملة على جنوب القوقاز بالمشاركة مع حليفتها الرئيسية أذربيجان ويجعلها شريكًا مهما للولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وعقدة مواصلات لوجستية لخطوط التجارة والنقل بين آسيا الوسطى وأوروبا وسيكون مردودها المالي لتركيا بحدود (20-15) مليار دولار بحلول عام 2030، مع توفير اتصال بري مباشر لأذربيجان مع تركيا عبر أرمينيا وناخيتشيفان متجاوزة طرق النقل الجورجية ويساهم في تدفق البضائع الأذربيجانية للأسواق الأوربية والعالمية.
شكل الاتفاق الأمريكي على انشاء الممر فقدان روسيا جانب مهم من نفوذها جنوب القوقاز بسبب مواقفها المترددة من الصراع بين أرمينيا وأذربيجان وتدهور العلاقات بينهم وانشغالها بالحرب الأوكرانية، وإضعاف الجهة الجنوبية الروسية ونفوذ الحلفاء ( الصين وروسيا وإيران) منطقة عبور حيوية والسعي لتنويع مصادر الطاقة الأوربية يتيح الوصول لاحتياط الطاقة في بحر قزوين وإضعاف النفوذ الروسي على أسواق الطاقة الأوربية بنسبة 10-15٪ خلال العقد القادم ويساهم بتواجد جيوسياسي لواشنطن وأوروبا في ممر مهم يربط بين بحر قزوين والبحر الأسود، وهذا ما يمثل تحديًا مباشرًا للمصالح الاستراتيجية الروسية.
ان اتفاقية السلام بين أذربيجان وأرمينيا لا تشكل نهاية نزاع حدودي تاريخي وإنما بداية لإعادة تموضع جديد للاستراتيجية الأمريكية في منطقة القوقاز وتقليص للدور الروسي الإيراني وتعزيز التعاون الاقتصادي والاستثمار المالي لدول آسيا الوسطى في جميع المجالات بعيدًا عن النفوذ والهيمنة الروسية والدور الإيراني.
وحدة الدراسات الدولية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتجية
