معمر فيصل خولي
في عام 1947م، صاغ جورج كنان سياسة “الاحتواء” وهي الاستراتيجية التي انتهجتها الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عام 1947م وحتى عام 1989م في مواجهة المد الشيوعي السوفييتي الذي تفكك رسميًا في كانون الأول عام 1991م. وبعد حرب تحرير الكويت والتي في أثنائها قصف العراق العمق الإسرائيلي هذا القصف برمزيته شكل تهديدًا وجوديا لإسرائيل لن تسكت عنه هي وحليفتها الولايات المتحدة الأميركية ولو بعد حين، لذلك، وتحديدًا في عام 1993م، استخدم لأول مرة من قبل “مارتن آنديك” مصطلح أطلق عليه “الاحتواء المزدوج”، ويقصد به احتواء العراق البعثي وإيران “الثورية”.
ولاحتلال العراق تم احتواءه أولا من خلال عدة إجراءات كانت قاسية جدا على الدولة العراقية، ومن هذه الاجراءات الحصار الاقتصادي الذي بدأ مع احتلال العراق للكويت ولم يرفع عنه إلا بعد احتلال الولايات المتحدة الأميركية له في التاسع من أيريل عام 2003م!، كما قيدت الولايات المتحدة الأميركية سيادة العراق على مجاله الجوي، من خلال فرض مناطق حظر جوي في شماله وجنوبه، كما عملت أيضًا على عزله عربيًا وإقليميًا ودوليًا، الأمر الذي أفقد العراق مكانته الدبلوماسية وفقدانه أيضًا شبكة تحالفاته الدولية، وفرضت على العراق لجان تفتيش استخباراتية بذريعة امتلاكه أسلحة كيميائية وبيولوجية، هذه التدابير بمجملها سهلت المهمة على الولايات المتحدة في احتلال العراق. وبهذا الاحتلال لم يعد يشكل أي خطر على المصالح الاميركية ولا يشكل تهديدًا وجوديا لإسرائيل، فواقع العراق منذ أكثر من عقدين يؤكد ذلك.
خرج العراق من معادلة التهديد كما خرجت مصر من قبله، الأول خرج باحتلاله والثانية خرجت باتفاقية سلام، لكن ماذا عن الهدف الثاني من نظرية الاحتواء المزدوج، وهنا أقصد إيران، ليس بالضرورة أن تتبع الولايات المتحدة ذات النهج الذي سلكته مع العراق في سبيل احتواءه، فهذا مرتبط بالتطورات الإقليمية والدولية، لكن هنا علينا أن نثبت أمرًا في بالغ الأهمية، بأن إسرائيل لن يهدأ لها بال ولن تشعر بالأمان إلا بعد معاقبة النظام السياسي الإيراني على صواريخه ومسيراته التي شكلت تهديدًا حقيقيًا على أمنها، ومن غير المستبعد أن يكون مصيره كمصير النظام السياسي في العراق، فنتائج احتلال العراق للكويت قد لا تختلف كثيرًا عن نتائج السابع من أكتوبر عام 2023م، على إيران سواء على المدى القصير أو المتوسط أو حتى البعيد.
وفي سبيل الاحتواء الايراني، وقعت أرمينيا وأذربيجان في البيت الأبيض على اتفاقية سلام تنهي عقودا من الصراع في جنوب القوقاز، ومن بنود هذا الاتفاق تطوير ممر “زنغزور” أو ما بات يروج له أميركيًا باسم “طريق ترامب للسلام والازدهار الدوليين” وهو ممر بري ضيق يبلغ طوله 40 كيلو مترًا في جنوبي أرمينيا، يربط جمهورية نخجوان – وهي جمهورية تتمتع بحكم ذاتي ضمن دولة أذربيجان، ويشكل الأذريون الغالبية العظمى من مواطنيها، ويعتنق معظمهم الدين الإسلامي- بأراضي أذربيجان الرئيسية. من جانبها رفضت إيران أي مساس بممر ” زنغزور” لأنه بالنسبة لها طريق استراتيجي على حدودها الشمالية .
هذا الطريق إذا كتب له النجاح فإن جنوب القوقاز ستشهد تحولات استراتيجية لا تخدم مصالح النظام السياسي بل ستخدم مصالح تركيا وأذربيجان وحلف الناتو وإسرائيل، وسيزيد من المخاطر السياسية والاقتصادية والاستخباراتية والأمنية بأشكالها المختلفة والعسكرية والجغرافية على النظام السياسي الإيراني. فظروف إيران الحالية الداخلية والخارجية تشبه إلى حد بعيد حالة العراق قبل إحتلاله، فهل هذا الممر جاء قي سياق تفعيل سياسة الاحتواء الأميركية ضد إيران، لمعاقبة نظامها السياسي باسقاطه، أم لتفكيك الدولة الإيرانية؟
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة
