رغم أن معظم ما يثرثر به مرشح الرئاسة الجمهوري دونالد ترامب لا يستحق التفكير فيه، فإنه هذه المرة أصاب كبد الحقيقة. فقد تساءل، في معرض تعليقه على احتجاز الإيرانيين عشرة جنود بحَّارة أميركيين، هل كانت إيران تتجرأ أن تفعلها لو أن الزوارق روسية؟
من الواضح جدًا أن القيادة الإيرانية تعمدت اعتقالهم، وإذلالهم، والتشهير بهم قبل إطلاق سراحهم، واثقة أنها مغامرة مأمونة العواقب، فمن المألوف أن تدخل السفن خطأ المياه الإقليمية ويتم توجيهها بالخروج.
ولم يُعتقل من في الزورقين فقط، بل التقطت لهم الصور، ووزعت بشكل سريع وواسع من قبل أجهزة الدعاية الرسمية الإيرانية، ويظهر فيها الجنود العشرة مستسلمين، رافعين أيديهم فوق رؤوسهم. وتم استغلالهم وهم لا يزالون في الأسر باستنطاقهم من قبل الإعلام الرسمي الإيراني، بالقول إنهم دخلوا المياه الإيرانية خطأ، والاعتذار عن فعلتهم، من قبيل إذلالهم.
ويصعب أن نصدق أن القيادة الإيرانية لم تعلم بالحادثة إلا متأخرًا، وأنها هي من تدخل لإطلاق سراحهم. فالغضب من إطلاق إيران صاروخًا على مقربة من حاملة الطائرات الأميركية قبل ثلاثة أسابيع لا يزال يسمع صداه في الكونغرس والإعلام الأميركي. ومن الطبيعي أن تصبح قرارات البحرية الإيرانية، مثل احتجاز قطع عسكرية أو اعتقال عسكريين أميركيين، خاضعة لصانع القرار السياسي الأعلى، بسبب خطورة تداعيات التوتر في مياه الخليج. من المهم أن ننظر إلى سلسلة أفعال ارتكبتها إيران في فترة قصيرة حيث تنبئ عن سلوك سيّئ لم يتغير، رغم أنه بقيت أيام قليلة على رفع الحظر الاقتصادي عليها، وتسليمها خمسين مليار دولار كجزء من الاتفاق النووي. فقد فاجأت إيران العالم باختبارها صاروخًا قادرًا على حمل رأس نووي، الأمر الذي اعتبرته الأمم المتحدة خرقًا للاتفاق. ثم جرى إحراق السفارة السعودية في طهران، وقنصليتها في مشهد أيضًا، في مخالفة خطيرة دولية أخرى. وأطلقت بحريتها صاروخًا على مقربة من حاملة للطائرات الأميركية في المياه الدولية قبل ثلاثة أسابيع، ثم اعتقلت عشرة بحارة أميركيين في تحدٍ لم تفعل مثله منذ سنوات. كله يعبر عن طبيعة النظام الإيراني الذي لم يتغير كثيرًا، وإن كان رئيس الجمهورية يبدو صادقًا في تعبيره عن رغبة حكومته في الانفتاح.
فنظام الحكم في إيران ليس مماثلاً لمعظم الدول. رئيس الجمهورية يفترض أنه أعلى منصب سياسي لكنه في الحقيقة لا يحكم، ووزير الخارجية لا يعبر بالضرورة عن القرار السياسي الخارجي. هناك المرشد الأعلى الذي يعتبر معصومًا من الله عن الخطأ حتى «لو أخطأ»، ولا يوجد له منصب مماثل في العالم إلا إمبراطور اليابان قبل هزيمة الحرب العالمية الثانية، الذي تنازل عن قدسيته في اتفاق الاستسلام.
الرئيس في إيران لا يملك سلطة على المؤسسة العسكرية، مثل الجيش والحرس الثوري الواسع النفوذ. والعسكر لهم دور سياسي، ويعودون في القرار للمرشد الأعلى وليس للرئيس أو الحكومة، وبالتالي يمكن نقض أو تغيير أي اتفاق التزم به ممثلو الحكومة حتى لو وقعوا عليه. وقد تسبب الباب المفتوح للمرشد في الكثير من الإحباطات لكل رؤساء إيران السابقين. أول رئيس وزراء كان مهدي بازركان، وقد تعهد بإطلاق سراح رهائن السفارة الأميركية عام 1979 وعندما خذله آية الله الراحل الإمام الخميني، استقال. وتكرر الأمر مع الرئيس الأول الحسن بني صدر، الذي اضطر للهرب إلى خارج إيران، بعد أن غضب عليه الخميني. ورغم أن الشيخ هاشمي رفسنجاني كان رئيسًا إلى عام 1997 وقريبًا من المرشد الأعلى خامنئي، فإنه عجز عن تنفيذ اتفاقات وقعها مثل تلك التي مع السعوديين. ولعل أكثر من تعرض للنقض والإحراج الرئيس محمد خاتمي مع أنه جاء منتخبًا بشعبية كبيرة، وأعلن عن برنامجه الانفتاحي على العالم. فقد وجد الرئيس خاتمي نفسه في حرج مع شعبه ومع الحكومات التي وعدها، لأن المرشد الأعلى كان يمتنع عن الوفاء بالتزامات الرئيس ولم يحمِ الرئيس ورجاله من تسلط الحرس الثوري، وميليشيات الباسيج التي أيضًا أغلقت الجمعيات الموالية له، وكذلك الصحف المحسوبة عليه. وحتى الرئيس أحمدي نجاد، الذي كان يوصف بأنه الابن المدلل للمرشد الأعلى وكان يبالغ في تقبيل يده للتأكيد على العلاقة الخاصة، واجه في آخر عامين مشاكل جمة مع مكتب المرشد الأعلى. ما شاهدناه من حوادث، مثل حرق السفارة السعودية ثم تنديد الرئيس الإيراني بالمجرمين يعكس الوضع في طهران. وليس مستبعدًا أن حادث إطلاق الصاروخ قريبًا من السفينة الأميركية، ثم لاحقًا حجز الزورقين، واعتقال والتشهير بجنود البحرية الأميركيين، هو ضمن صراع القوى المتنافسة تحت عباءة المرشد.
عبدالرحمن الراشد
صحيفة الشرق الأوسط