يا قوم.. اعذروا إيران

يا قوم.. اعذروا إيران

الحرس-الثوري-الإيراني

بعد ثورة الإمام الخومينى فى نهاية السبعينيات مرت الدولة الإيرانية بفترة مراهقة سياسية خطيرة كلفت الدولة والثورة الكثير من الخسائر.. فالثورات حينما تتحول إلى دول ينبغى عليها أن تتعامل بمنطق الدولة الحكيمة العاقلة لا منطق الثائر الأهوج الذى يريد حرب الكون أو هدمه ثم إعادة بنائه على النسق الذى يراه بصرف النظر عن صوابه أم خطئه.

وكانت هناك مظاهر لفترة المراهقة السياسية، منها على سبيل المثال تلك المظاهرات الحاشدة التى كان يقوم بها الحجاج الإيرانيون وتهتف «الله أكبر خومينى رهبر» أى زعيم، وذلك فى مكان وزمان لا يُذكر فيه أى زعيم أو حاكم مهما كان شأنه، لأنه موطن إفراد العبادة والتوحيد والذكر لله وحده، وأحيانا كانت تطلق شعارات سياسية ضد أمريكا «الشيطان الأكبر، تسقط أمريكا، الموت لأمريكا»، وذلك فى زمان ومكان لا تصلح فيهما السياسة ونزاعاتها وصراعاتها واختلافاتها.

وبعد أن هدأت الدولة قليلاً وودعت المراهقة السياسية والثورية إذا بها تترك ذلك لتلاميذها الذين يحاربون عنها بالوكالة فى كل مكان فى العراق ولبنان واليمن وسوريا.

إن الإشكالية الكبرى فى حياة إيران هى تمزق فكر الدولة السياسى بين كونها دولة تتعامل بمنطق الدولة وسياستها، وكونها ثورة فيها نزق وطيش واندفاع الثورة ورغبتها فى السيطرة على كل شىء.. وهى ممزقة أيضاً بين كونها دولة مسؤولة عن رعاياها الإيرانيين وبين ما اعتبرته مسؤوليتها عن الشيعة فى كل دولة وأنهم رعاياها لأنهم ببساطة أدوات نفوذها وسيطرتها وقوتها، وهم المحاربون بالوكالة عنها فى كل مكان.

ومن الأزمة الفكرية الإيرانية أنها تعتبر اللبنانى والسعودى والعراقى والكويتى والإماراتى والبحرينى والأفغانى والأذربيجانى الشيعى هو من رعاياها وتابع لها، وليس من رعايا السعودية أو الكويت أو الإمارات أو البحرين أو غيرها.. وهذه تضرب فكرة الدولة الوطنية فى مقتل.

والغريب أنها لا تطبق على نفسها هذا المبدأ، فهى تضطهد السُّنة فى الأحواز وغيرها وتحرمهم أبسط حقوقهم وتعاملهم بالحديد والنار، ولا تقبل أى تدخل من أحد فى شؤونها الداخلية.

ومن أسباب الأزمة الفكرية والسياسية الإيرانية ازدواج السلطة.. فإيران هى الدولة الوحيدة التى يقودها رأسان «أحدهما رأس دينى هو المرشد، ورأس سياسى هو الرئيس».

والجميع يعلم أن المرشد هو الحاكم بأمره، وهو المتصرف الأساسى فى الشؤون الإيرانية سياسياً ومالياً، وهو الآمر الناهى فيها.. وما الرئيس إلا ظل للمرشد وتابع له، ولا يُختار إلا برضا المرشد.. ولذلك سيظل الازدواج مهما كان الاتفاق بينهما، لأن المرشد يمثل الثورة وهو المسؤول عن الرعايا الشيعة فى العالم، والرئيس مسؤول عن جزء من رعايا المرشد فقط فى إيران، وعليه أن يتصرف بما يمليه عليه أمر المرشد.

وهذه الازدواجية وضحت تماماً فى فترة الرئيس الإصلاحى خاتمى الذى أراد أن يكون رئيساً بحق، وأن يقوم ببعض الإصلاحات السياسية ولكنه اصطدم بالمرشد والحرس الثورى ومدرسة «قم».. وهؤلاء يملكون كل شىء.

كما تعانى إيران من ازدواجية عسكرية لا توجد فى غيرها، وهى انعكاس لازدواج الدولة والثورة، أو ازدواج الدين مع السياسة، أو ازدواج الرئيس مع المرشد، أو ازدواج الدولة مع الإمبراطورية، وهى ازدواجية الجيش الذى يتبع الرئيس عادة مع الحرس الثورى الذى يتبع المرشد ويملك إمكانيات هائلة ويحارب فى كل مكان.. فقد تراه فى سوريا أو العراق أو اليمن أو لبنان ويدرب فى كل مكان.. وهو المسؤول الأول عن حماية أو تكوين وتدشين الإمبراطورية الإيرانية الكبرى.. ويعتبر نفسه دولة أخرى ليس داخل الدولة ولكن فوقها.

وهذه الازدواجية مازالت آمنة ومتماسكة حتى الآن ولكنها خطرة على الدولة فى المستقبل..لاسيما أن المبرر لها كان فى بداية الثورة لتأمينها، أما الآن فقد استقرت الدولة وأصبحت من أقوى الدول الإقليمية.. ولكن لا يمكن فصل هذه الازدواجية لأن الحرس الثورى هو المسؤول عن تكوين الإمبراطورية الإيرانية، أما الجيش فمسؤول عن الدولة الإيرانية، والأول هو ذراع الثورة والمرشد، والثانى ذراع الدولة.

وهناك ازدواجية السياسة والمذهب الشيعى.. فالسياسة براجماتية، والمذهب الشيعى قام فى الأصل لنصرة الحق والثورة على الظلم.. والمفروض أن الرئيس يمثل الأول، والمرشد يمثل الآخر.

ولكن بدأ هذا الأمر ينحرف عن مساره، فلا ينصر الحرس الثورى وأتباعه المظلوم والمقهور بل ينصر الإمبراطورية وتابعيها حتى وإن ظلموا وقتلوا الآلاف من شعوبهم.

لقد ثار الشعب السورى لمدة عام بطريقة سلمية على «بشار»، وكان يمكنه أن يقتدى بـ«مبارك» أو «بن على» ويُحدث انتقالاً سلمياً من بين أركان حكمه يعصم به الدماء ويرحم شعبه ويحافظ على وحدة بلاده، ولكنه أبى إلا الاستمرار على جثث شعبه «لاسيما الإمارة ولو على الحجارة».. حتى أتت داعش والقاعدة من جهة، ووصلت الميليشيات الشيعية والحرس الثورى وحزب الله.. فضاعت سوريا على الجميع.. وذهب كل شىء.

فلو كان الحسن أو الحسين أو الإمام على بن أبى طالب موجوداً تُرى هل كان سينصر «بشار» ويحميه ويدافع عنه.. وهو الذى حكم مع والده قرابة ستين عاماً؟

ورغم أننى منذ البداية كنت ضد الثورة على «بشار» لأن مفاسدها أكثر من مصالحها، وخرابها أكثر من عمرانها، ولكن الحاكم العاقل هو الذى يرحم شعبه ولا يقتله أو يعذبه، أو يقتل ويجرح ويسجن أكثر من مليون منه ويشرد أربعة ملايين ويدمر بلده بالبراميل المتفجرة ويحوله إلى أطلال.

يا قوم اعذروا إيران، فهى فى ورطة الازدواجية ما بين الدولة والثورة، والرئيس والمرشد، ورعاياها فى إيران ورعاياها فى العالم، وما بين جيشها والحرس الثورى، وما بين مبادئ المذهب الشيعى وما تتطلبه الإمبراطورية، وما كان عليه على بن أبى طالب وآل البيت وما تصنعه الميليشيات الشيعية المتطرفة، مثل الحشد الشعبى وغيرها، من قتل بالاسم والمذهب، وذبح، وحرق القرى، وتفجير المساجد، دون نكير من إيران الممزقة بين خدمة هذه الميليشيات لمشروعها الإمبراطورى وخرقها لكل القيم الدينية والإنسانية.

ناجح إبراهيم

صحيفة المصري اليوم