يقول مثل شامي قديم وشائع: «صحيح لا تقسم، ومقسوم لا تاكل، وكول حتى تشبع». يتذكر المرء هذا المثل حينما يراجع مواقف دول الحلف الأطلسي تجاه المسألة الليبية. فالحلف اعتبر أن الثورة الليبية هي إنجاز أطلسي خالص، كما كتب أمينه العام السابق اندرس راسموسن في مجلة «فورين افيرز» الدولية. بل يذهب الأمين العام السابق للأطلسي إلى أبعد من ذلك إذ يقول إنه إذا كان الحلف قد صنع الثورة الليبية، فعلى الثورة الليبية أن تصنع الحلف، فما الذي يعنيه راسموسن بهذا القول؟
أراد راسموسن، الذي يعتبر أحد صقور السياسة الدنماركية والأوروبية، أن يستخلص من الثورة الليبية درساً يرد به ضمناً على السياسيين الأوروبيين والأطلسيين الذين أصيبوا بعقدة فيتنام ومن بعدها بعقدة حرب العراق، فباتوا يعارضون أي تدخل عسكري واسع النطاق على النطاق الدولي. تأسيساً على هذا النقد الضمني، اعتبر راسموسن أن نجاح الأطلسي (الحصري) في الإطاحة بالقذافي يشكل نموذجاً لما يمكن أن تحققه الحكومات الأطلسية إذا ما قررت استخدام عضلاتها العسكرية ضد حكومات وقيادات شبيهة بالحكم الليبي السابق.
نشر الأمين العام السابق للحلف في مقاله هذا الذي استأثر بالاهتمام في صيف عام 2011 عندما كانت ليبيا أقرب إلى مناخ «الربيع العربي»، ولكن هذا المناخ انحسر بسرعة حينما تحول البلد «الصحيح» إلى «فضاء مقسوم وبلا سلطة» كما وصفه أحد السفراء الأوروبيين. وبالطبع كثرت الدعوات من أجل استرجاع وحدة الدولة الليبية، ولكن أكثر هذه الدعوات أكدت أن تحقيق هذه الغاية يحتاج إلى تدخل قوة خارجية تضع حداً بين الميليشيات المتقاتلة. ومن بين القوى العديدة التي تملك القدرة على التدخل، لبثت القوى الأطلسية هي الأجدر لأسباب جيو استراتيجية واقتصادية، في نظر بعض قادة الأطلسي، بالاهتمام بالشأن الليبي.
مع وقوع أعمال الإرهاب لها صلة ب«داعش» في قلب العواصم الأوروبية، ومع تنامي الهجرات العابرة للأراضي وللشواطئ المتوسطية والليبية مال زعماء من الوسط الأطلسي إلى خيار التدخل في ليبيا ولكن بشروط. من هذه الشروط ألا تخطو الدول الأطلسية خطوة في هذا الاتجاه علناً على الأقل إذا لم يسبغ على تدخلها طابع الشرعية الدولية، وإذا لم ينسجم هذا التدخل ولو شكلاً مع إرادة أهل البلاد. وحتى يتسم التدخل بهذا الطابع، فلابد أن يأتي الطلب من سلطة ليبية موحدة تملك هي في حد ذاتها شرعية محلية.
لقد وجد البعض في هذه الشروط طابعاً تعجيزياً. فأنى لأهل الحل والعقد في ليبيا أن يلبوا هذا الشرط الأخير في وقت تنقسم فيه السلطة في ليبيا إلى سلطتين: واحدة في بنغازي وأخرى في طبرق؟ أما إذا حدثت المعجزة وتمكنت السلطة الليبية من التوحد حقاً فما حاجتها عندها إلى استقدام قوة أجنبية؟ ولماذا الالتجاء إلى الخارج هذا مع العلم أن الاعتماد على القوة الأجنبية خاصة الأطلسية له كلفة باهظة في الداخل؟
لقد حاولت دول أطلسية عدة تربيع الدوائر وإيجاد حل لمعضلة الشرعية هذه ولكنها لم تصل إلى نتيجة حاسمة. لم تصل إلى مرحلة «الأكل»، هذا فضلاً عن مرحلة «الشبع»، آخر هذه المحاولات تمثلت في مؤتمر روما الذي انعقد خلال مطلع هذا الشهر للتباحث في مساعي القضاء على «داعش» وعلى الجماعات الإرهابية. كذلك تمثلت هذه المحاولات في المبادرة التي جرت برعاية الأمم المتحدة في تونس خلال الشهر الفائت بغرض تشكيل حكومة «الوفاق الوطني». ومما أضفى المزيد من الأهمية على هذه المحاولات أنه رافقتها اتصالات جانبية بين رئيسي أركان الجيش الفرنسي والأمريكي بصدد تنسيق نشاطهما في ليبيا. في نفس الفترة تقريباً، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الدولية أن بعض مساعدي الرئيس أوباما يبذلون محاولات جديدة ومتنامية لإقناعه بزيادة التدخل الأمني والاستخباراتي الأمريكي في ليبيا، كما تردد أيضاً أن واشنطن ولندن باشرتا فعلاً في إرسال قوات خاصة إلى داخل الأراضي الليبية لتكثيف أعمال الاستطلاع والاتصال بمعارضي «داعش» والحركات الإرهابية.
من يدقق في هذه التحركات يجد أنها لا تشكل رداً جدياً على تفاقم وجود المنظمات الإرهابية في ليبيا وتدهور الأوضاع في البلاد. فالانطباع السائد حتى هذا التاريخ هو أن «داعش» هي تنظيم شرق متوسطي، وأنها إذا نجحت في تأسيس قواعد لها هنا وهناك، فهذه عبارة عن نقاط ارتكاز وتوسع غير مضمونة بالمقارنة مع الأراضي التي يحكمها التنظيم في شرق المتوسط.
تلك هي الصورة السائدة عن طابع الانتشار “الداعشي” الراهن في المنطقة العربية. إلا أن هذه الصورة آخذة في التغير بسبب التوسع الذي يشهده إقليم «داعش» الثالث في ليبيا. فحسب تقارير البنتاغون الأمريكي أن التنظيم الإرهابي الذي يسيطر على منطقة ساحلية في وسط ليبيا يوسع نطاق سيطرته خاصة تجاه الشرق. وبمقدار ما يتوسع التنظيم جغرافياً فإنه ينمو من حيث عدد المقاتلين الذين ينضمون إليه ومن حيث سيطرته على أعداد متزايدة من المواطنين الذين يقدمون له الخدمات. فعدد المقاتلين التابعين له في ليبيا والذين يتمركزون في درنه وسرت وجوارهما ارتفع خلال الأشهر القليلة الماضية من قرابة ألفين وخمسمئة إلى خمسة آلاف مقاتل وهذا العدد في تصاعد مستمر. أن هؤلاء لا يشكلون جيشاً مقاتلاً كبيراً، ولكن بسبب قربهم من الأراضي الأوروبية فإنه يكفي تسريب القليل من هؤلاء إلى أوروبا لكي ينشروا في القارة الهلع والفوضى والتطرف العرقي والسياسي. وفي اندفاعه تجاه شرق ليبيا يتوقع البنتاغون أن يمسك تنظيم «داعش» بآبار نفط غنية تضمن له تعويض ما خسره من آبار النفط في سوريا والعراق. أن الإمساك بهذه الآبار سوف يسمح ل«داعش» بالحصول على السلاح وبتجنيد المزيد من المقاتلين المتفرغين.
إن هذه المعطيات جديرة بأن تنشر مناخاً يائساً بين الذين يقاومون منظمات الإرهاب والتعصب السياسي والديني. وقد يكون لهذا المناخ بعض المبررات لو أن القوى التي تناهض الإرهاب وتتطلع إلى بناء الوطن وبناء الديمقراطية في ليبيا والمنطقة العربية قد استنفدت كافة الأدوات والأسلحة التي تملكها من دون أن تتمكن من تخليص المنطقة العربية من الإرهاب.
ولكن هذا ما لم يحصل حتى هذا التاريخ. فما هي الوسائل والأدوات والمناهج التي لم تسخر حتى الآن من أجل القضاء على الإرهاب في ليبيا؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه لاحقاً.
رغيد الصلح
صحيفة الخليج