عندما قررت موسكو في 30 أيلول (سبتمبر) إرسال قواتها إلى سورية، عقدت الآمال الكثيرة على العملية. وعلى رغم غموض ما رمى إليه بوتين حين أمر بضرب معارضي الأسد، برزت ثلاثة أهداف: 1) التدخل في سورية جسر موسكو إلى صدارة السياسة الدولية. و2) حمل الدور الروسي في الحرب ضد الإسلاميين الغرب على التفاوض مع موسكو على مجموعة واسعة من القضايا، منها أوكرانيا والعقوبات. 3) في سورية، أراد الكرملين إثبات أن زمن «الثورات الملونة الأميركية التمويل» قد انتهى.
في البداية، بدا أن كل شيء يسير على ما يرام. وصارت روسيا محط أنظار العالم، وموسكو وسوتشي مزاراً لعدد من قادة الشرق الأوسط وغيرهم. ولكن الروس بدأوا يطعنون في قرار التدخل هذا، إثر إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء. ثم وقع الهجوم الإرهابي الرهيب في باريس، وحينها حتّى منتقدو التدخل في سورية رجحوا احتمال استئناف التعاون البنّاء بين روسيا والغرب وتشكيل ائتلاف جديد لمكافحة الإرهاب. ولم يستبعد المراقبون أن يساهم التعاون هذا في رفع العقوبات عن روسيا، وإبرام تسوية ترضي موسكو في أوكرانيا. ولكن التوقعات هذه خابت، إذ لم تمر 10 أيّام على الاعتداءات الإرهابية في باريس قبل أن تؤدي الثقة الزائدة بالنفس للطيارين الروس والمحاولات المتكررة لاختصار طريق العودة إلى قاعدة حميميم إلى إسقاط تركيا مقاتلتهم.
ويبدو مذّاك أن تركيا صارت العدو الرئيسي لروسيا، فتغيرت قواعد اللعبة بأكملها في الشرق الأوسط. وأدركت واشنطن ولندن وبروكسيل أن المنطقة برز فيها لاعب رئيسي لا يرغب في الدور الروسي في مجاله الجوي أو في السياسة العالمية. وبرز «مثلث» موسكو- طهران- دمشق في مواجهة مثلث «أنقرة – واشنطن – الرياض».
وعلى رغم أن موسكو سعت الى بدء التعاون مع باريس، بقيت هذه الرغبات في طور التمنيات. واقتصر التعاون تدريجاً بين الفرنسيين والروس على «تبادل المعلومات. وأعلنت فرنسا أنها تؤيد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، ونددت بالضربات الروسية التي تستهدف المدنيين. فتوقفت عملية التقارب المحتمل بين روسيا والغرب. وتزامن بروز موقف غربي موحد من العملية الروسية في سورية، مع شن هجوم كلامي حاد على روسيا وبوتين شخصياً، واتهم بمعرفته المسبقة بتدبير عملية اغتيال (عميل الكي جي بي السابق ألكسندر) ليتفينينكو في لندن، ودار كلام حاد على فساد الرئيس الروسي. وفي الوقت نفسه، توترت علاقات روسيا مع الدول الأوروبية على وقع تعاظم الحملات الروسية الرامية الى تشويه سمعة السياسة الأوروبية ودعم القوى القومية والمعادية للاتحاد الأوروبي وسياسات قادته. وأخيراً، انتقلت الولايات المتحدة من مرحلة الكلام على ضرورة محاربة «داعش» إلى محاربتها فعلياً. ولا شك في أن هذا الانتقال إنجاز كبير للكرملين، فهو أظهر أن الإسلاميين ليسوا فحسب من يسعهم ملء «الفراغ» في الشرق الأوسط. وفي الأشهر الأخيرة، بلغتنا أنباء عن نشر قوات أميركية خاصة في شمال العراق لمحاربة الإرهابيين، وتصريحات عدد من الدول العربية عن استعدادها للمشاركة في عملية برية مع الولايات المتّحدة. أمّا الرئيس التركي، فأشار الى أنّه جاهز لأي تطور في الساحة السورية.
ويبدو أن روسيا لا تملك أي خطة للتعامل مع التدويل الهائل للأزمة السورية. وموسكو وطهران لا تريدان طبعاً مثل هذا التدخل الدولي في سورية. وهكذا، عوض «تذليل التعقيد» (المشكلات)، الذي برز إثر ضم شبه جزيرة القرم والتدخل الروسي فــــي النزاع في شرق أوكرانيا، صارت سورية على قـــاب قوسين من التحول الى أوكرانيا جديدة، أي موضع خلاف مع الغرب. فموسكو تسعى الى استعـــراض قوة روسيا وإمكانياتها أمام العالم، وشنــت حملة دعائية ضخمة للترويج لمكانتها. ولكن تدخـــلها في سورية تحول الى مشكلة رهيبة قد يؤدي حلّها الى فقدان ماء الوجه الروسي.
وفي سورية، الوضع العكسري أكثر تعقيداً من نظيره في اوكرانيا، ولا تدور فيها حرب مواقع ثابتة. وعلى خلاف الحال في اوكرانيا، خطر الصدام المباشر بين الجيش الروسي وقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، في سورية، كبير. وعلى وقع الأزمة الاقتصادية، تقلصت قدرة روسيا على المناورة عما كانت عليه قبل عامين. لذا، احتمالات النجاج ضئيلة.
ويحمل فشل روسيا في سورية، ويبدو اليوم أن لا مفر منه، عواقب سلبية على الروس. وحاولت موسكو عبر محاولتها العودة إلى الساحة العالمية، تبديد أي شكوك بأنها لاعب إقليمي وازن. ويظهر الفشل في سورية، وعدم القدرة على بسط نفوذ نظام الأسد على أجزاء من البلاد، أنّ روسيا غير جديرة أن تكون حليفاً. لذا، حري بروسيا عدم انتطار انضمام أعضاء التحالف المناهض للإرهاب إليها، وأن تبادر الى معرفة شروط المخرج المشرف من الحملة السورية، والأرجح أن يكون مماثلاً لانسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان. ويرجح أن يلقى الأسد مصير نجيب الله الأفغاني، إثر انسحاب القوات السوفياتية. وبعد محاولتين فاشلتين (في اوكرانيا وسورية)، لدى روسيا بالتأكيد الكثير لتفعله في فضاء الاتحاد السوفياتي السابق. وجل ما نأمل أن تتوسل الوسائل الديبلوماسية وليس العسكرية. نقلا عن الحياة
فلاديسلاف إينوزيمتسيف
خبير سياسي واقتصادي، عن موقع «غازيتا» الروسي، 10/02/2016، إعداد علي شرف
نقلا عن الحياة