للوهلة الأولى، سوف يبدو الأردن هدفاً رئيسياً لمجموعة “الدولة الإسلامية” المعلنة ذاتياً (المعروفة أيضاً باسم “داعش”). وقد ضرب “داعش” جميع الدول المجاورة للأردن تقريباً. ففي أيار (مايو) 2015، وقع هجوم دموي في مسجد في المملكة العربية السعودية. وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، تعرضت طائرة روسية للهجوم في مصر. وضرب “داعش” مركزاً عراقياً للتسوق في كانون الثاني (يناير) من العام 2016، واستهدف التنظيم الإرهابي قوات النظام السوري على مدى عامين الآن. ومنذ العام 2014، قتل “داعش” نحو 18.000 مدني عراقي. وفي العام 2015 وحده، قتل نحو 2.000 من السوريين.
بالإضافة إلى ذلك، يواجه اقتصاد المملكة الهاشمية تحديات خطيرة، مع معدل بطالة في قطاع الشباب يبلغ 28.8 في المائة، وفقاً لإحصاءات منظمة العمل الدولية الأخيرة. وقد شكل الوضع الاقتصادي بالتأكيد دافعاً لبعض الأردنيين -حوالي 2.000 شخص- الذين غادروا البلاد للانضمام إلى “داعش”، وفقاً لمسؤولين حكوميين أردنيين. (لاحظت دراسة لبنانية استشهد بها مؤخراً مساعد وزير الدفاع الأميركي، مايكل مبكين، أن الاعتبارات المالية تظل عاملاً مهماً، ولكنها بالتأكيد ليست العامل الوحيد، الذي يدفع المدنيين إلى التجنيد في “داعش”).
بعبارات أخرى، يبدو البلد جاهزاً وناضجاً لمواجهة المتاعب. لكن “داعش” لم ينفذ حتى هجوماً واحداً واسع النطاق داخل المملكة. ويقف عدد الوفيات داخل البلاد نتيجة لحوادث مرتبطة بـ”داعش” عند خمسة أشخاص على الأكثر، على الرغم من أن كيفيات الهجوم الذي أفضى إلى تلك الوفيات ما تزال محلاً للجدل. وإذن، ما الذي فعله الأردن بشكل صائب حتى يتجنب التعرض للهجمات؟
كان حادث إحراق تنظيم “داعش” الوحشي للطيار الأردني الأسير معاذ الكساسبة في العام 2015 في سورية لحظة توحيد للبلاد. وفي حين كان 72 في المائة فقط من الأردنيين يظنون قبل شهر واحد بأنه يجب النظر إلى “داعش” باعتباره جماعة إرهابية، قفزت هذه النسبة بعد وفاة الكساسبة، وعلى نحو مذهل، لتصل إلى 95 في المائة من السكان. وفي الأثناء، وصفت جماعة الإخوان المسلمين التي تتمتع بنفوذ في الأردن الحادث بأنه عمل “شائن” و”إجرامي”.
مع ذلك، لا يستطيع الغضب الشعبي الذي نجم بعد وفاة الكساسبة بطريقة وحشية أن يفسر تماماً نجاح عمان في تجنب هجمات “داعش”. فبعد كل شيء، عرضت المجموعة الإرهابية وحشية مروعة في كل مكان تذهب إليه. وبذلك، تكون الحقيقة الثانية التي تحمي الأردن، إذن، هي أجهزة الأمن المدربة تدريباً جيداً في البلاد. ويقول حسن أبو هنية، المؤلف المشارك لكتاب “تنظيم الدولة الإسلامية”، والجهادي السلفي السابق الذي كان قد سُجن 12 مرة هو نفسه، في إحدى المقابلات: “لدى الأردن أجهزة عسكرية وأمنية قوية على الرغم من المشاكل الاقتصادية”. والأردن، الذي يحتل المرتبة السابعة عالمياً في تصنيف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على أساس النفقات العسكرية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، يحتفظ بجيش يضم ما يقرب من 100.000 جندي في الخدمة الفعلية، وقوات احتياط قوامها 65.000، وفقاً للتقارير.
وعلاوة على ذلك، وبالتعاون مع كبريات وكالات الاستخبارات الغربية، أصبحت لدى الأردن عقود من الخبرة في مجال مكافحة الإرهاب. بل إن لوكالة الاستخبارات المركزية كوادر فنية “مندغمة فعلياً” في مقر مديرية المخابرات العامة الأردنية، وتنفذ الوكالتان عمليات مشتركة رفيعة المستوى. وكان أحد كبريات إنجازات عمان المخابراتية هو تزويد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالمعلومات الاستخبارية الحاسمة التي أدت إلى مقتل قيادي تنظيم القاعدة في العراق، أبو مصعب الزرقاوي. وفي الإشادة بالدائرة، قال مسؤول وكالة الاستخبارات المركزية الرفيع، مايكل شوير، لصحيفة لوس أنجلوس تايمز: “لدى دائرة المخابرات العامة وصول (في الشرق الأوسط) أكثر من الموساد”. وفي مقال نشر في مجلة “الأتلانتيك” وصف المؤلف جيفري غولدبرغ المخابرات الأردنية بأنها “الأكثر احتراماً بين أجهزة المخابرات العربية”.
مع ذلك، لا تستطيع حتى قوة الجيش الأردني أن تفسر تماماً كيف أن البلد تجنب التعرض لهجمات “داعش” حتى الآن. فلدى مصر جيش كبير وممول تمويلاً جيداً أيضاً. ومع ذلك، استطاع المتشددون المصريون التابعون لـ”داعش” أن يستولوا بنجاح على أراض في سيناء. وهنا، يشكل الفضاء السياسي الأكثر انفتاحاً نسبياً في الأردن عاملاً رئيسياً. فخلال انتفاضات الربيع العربي في العام 2011، اعتمدت عمان نهجاً سلمياً تجنب التسبب بخسائر كبيرة، في حين استخدم كل من النظامين السوري والليبي القوة المفرطة لقمع الخصوم السياسيين (وهو ما تسبب في وقت لاحق بتنفير الناس في أجزاء واسعة من هذين البلدين، وترك “داعش” مع فرصة استغلال مشاعر الاستياء). وعلى سبيل المثال، في الاستجابة للاحتجاجات ضد الفساد، عمد العاهل الأردني الملك عبد الله بسرعة إلى إقالة رئيس الوزراء سمير الرفاعي مع مجلس الوزراء. وتحركت الحكومة نحو تسريع إقامة الانتخابات البرلمانية لمدة عامين في كانون الثاني (يناير) من العام 2013، وتجنبت قوات الأمن إلى حد كبير شن حملة قمع قاتلة على المتظاهرين، خلافاً لما حدث في دمشق وبنغازي.
بالإضافة إلى ذلك، وبعد أن ثارت الاحتجاجات في معان العام الماضي بسبب مزاعم بعنف الشرطة، استقال وزير الداخلية حسين المجالي بسرعة، وأقالت الحكومة الأردنية مدير الأمن العام توفيق الطوالبة. قد منع عمل عمان الحاسم حدوث الفوضى على نطاق واسع. وباختصار، على الرغم من أن النزاع تحول بسرعة ليكون دموياً، وحيث كان المسلحون المتطرفون على استعداد لاستغلال الاستياء، استجابت الحكومة الأردنية ببعض مطالب مواطنيها، وحافظت على بقاء وحدة أمنية في المنطقة.
ونتيجة لطريقة استجابة الحكومة للربيع العربي، فإن “الأردن من بين عدد قليل من الدول العربية التي ما يزال لديها -على الرغم من أنها ليست ديمقراطيات- مساحة مفتوحة للناس للتعبير عن همومهم ومطالبهم”، كما يقول عريب الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية في عمان.
كما أن دور الإسلاميين في الأردن هو أمر بالغ الأهمية أيضاً. فقد أحجم السلفيون الأردنيون البارزون، بمن فيهم أبو قتادة وأبو محمد المقدسي، عن إصدار فتاوى تدعو إلى انتهاج العنف ضد النظام الأردني، بل ودانوا “داعش” علناً. وكان المقدسي هو المرشد الروحي للزعيم الأردني السابق لتنظيم القاعدة في العراق، أبو مصعب الزرقاوي. وهو يعتقد أن “داعش” هو مجموعة “منحرفة” إيديولوجياً. وبالمثل، يُعد أبو قتادة مسانداً متحمساً لجماعة النصرة في سورية، وقد انتقد ذبح “داعش” للصحفيين ووصفه بأنه عمل “غير إسلامي”.
بالإضافة إلى ذلك، وعلى النقيض من الصراعات الدامية بين جماعة الإخوان المسلمين والحكومة المصرية، أسس العاهل الأردني الملك عبد الله والعاهل والفرع الأردني لجماعة الإخوان علاقات أكثر تسامحاً. فمن جهتهم، وعلى الرغم من أنهم يسعون إلى إجراء إصلاحات، لم يدع الإخوان المسلمون في الأردن إلى إنهاء النظام الملكي في الأردن. ومن جهة أخرى، لم تتبع عمان مسار المملكة العربية السعودية في وصف جماعة الإخوان المسلمين الأردنية بأنها “منظمة إرهابية”، ووفرت للأردنيين المهتمين بالإسلام السياسي اللاعنفي مكاناً يعملون فيه بأمان.
وفي غياب شن حملة عنيفة على إسلاميي الأردن، هناك حافز أقل للأفراد على البقاء ومحاربة الحكومة من حافز المغادرة والانضمام إلى المعركة في مكان آخر. ومع ذبح الرئيس السوري بشار الأسد أكثر من 100.000 من المدنيين، فإن من الأكثر منطقية بالنسبة للألفين من الأردنيين الذين انضموا إلى “داعش” أن يذهبوا إلى سورية لاستهداف نظام الأسد بدلاً من العمل في المملكة الأردنية الهاشمية السلمية نسبياً.
هذا هو المكان حيث تتدخل أولويات “داعش” الخاصة. وكما أوضح الرنتاوي، فإن “الأردن ليس حتى الآن في صدارة (قائمة) الأولويات في أهداف “داعش” في المنطقة. إن لديهم أهدافاً أكثر أهمية في الوقت الحالي”. ومع أن “داعش” يمتلك مقاتلين موالين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فإنه لم يعلن حتى الآن عن وجود فرع أردني له. ويتحدث عدنان أبو عودة، رئيس الديوان الملكي السابق والسفير السابق للأمم المتحدة، عن عدد السكان الشيعة الذي لا يكاد يذكر في الأردن باعتباره عاملاً أيضاً. وقد ضرب “داعش” في كثير من الأحيان أهدافاً شيعية في لبنان واليمن. كما تبدو المجموعة أيضاً أكثر عزماً على الصدام الإيديولوجي مع الرياض حول من هو الطرف الذي يمثل الإسلام الحقيقي، ولذلك قد تكون أكثر اهتماماً بالأهداف في المملكة العربية السعودية.
من المؤكد أن المملكة الأردنية لم تتجنب حوادث العنف تماماً. ففي حادث ما يزال محلاً للجدل، قام ضابط شرطة أردني في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بإطلاق الرصاص على خمسة من المتعاقدين الذين يعملون مع مديرية الأمن العام. وفي العدد 12 من مجلته “دابق”، أشاد “داعش” بالهجوم. ومع ذلك، قال وزير الداخلية الأردني، سلامة حماد، إن ذلك كان في الواقع “هجوم ذئب وحيد”، مشيراً إلى المشاكل النفسية والمالية التي كان الضابط قد واجهها. وما تزال الدوافع الحقيقية وراء الحادث غير واضحة بطبيعة الحال. ولا يمكن لأي بلد أن يضمن تمكنه من صد الإرهاب إلى الأبد. ولكن، من خلال المحافظة على مستوى عال من الكفاءة المهنية لدى قواته الأمنية، والاستجابة للاحتجاجات بطريقة سلمية نسبياً، وإقامة علاقات بناءة مع الإسلاميين، تمكن الأردن من الحد من خطر “داعش”. وفي منطقة يبدو أنها تتهاوى، يشكل ذلك إنجازاً يستحق الاعتراف والتقدير.
أهارون ميجد – (فورين أفيرز) 17/2/2016
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
نقلا عن الغد الاردني
*نشر هذا المقال تحت عنوان:ISIS Meets Its Match?: How Jordan Has Prevented Large-Scale Attacks