الإشكاليات والحلول: نحو رؤية واقعية لتمكين الشباب

الإشكاليات والحلول: نحو رؤية واقعية لتمكين الشباب

150811105730_arab_youth_640x360_getty

مثل الاهتمام بالشباب الشغل الشاغل للطبقة السياسية الحاكمة في الوقت الراهن، وهو ما تجلى مظاهره في تخصيص عام 2016 عام الشباب المصرى، وتدشين مشروع قومى لإقراض الشباب أصحاب المشروعات متناهية الصغر. والواقع أن النخبة العلمية قد سعت لدراسة الشباب منذ زمن بعيد يمتد إلى المرحلة الناصرية. ويلاحظ أن هذا الاهتمام قد انحصر في بُعدين: دراسة الشباب كجماعة اجتماعية عامة، أو دراسة الطليعة السياسية العاملة في المجال السياسي وتسعى للتأثير فيه. فيما أهملت هذه الدراسات التعامل مع الحالة الشبابية كحالة فكرية، أي كحالة تجدد في المجالات المجتمعية المتباينة، بداية من التجدد الفكري، حتى التجدد السياسي والاقتصادي. ومع ذلك يمكن القول إن تناول موضوع الشباب يطرح عددا من الإشكاليات المحورية التي ينبغي أن توضع قيد الاهتمام، أولاها قضية المفهوم، فما الذي نعنيه بمفهوم الشباب، وثانيتها أهم الإشكاليات التي يطرحها ملف الشباب على صانع القرار والسياسة، وما ينبغي طرحه من حلول لهذه الإشكاليات.

أولا: إشكالية المفهوم
هناك غياب ملحوظ لوجود تعريف دقيق لمفهوم الشباب، وتتفاوت الدراسات فيما بينها في تقديم تعريف دقيق سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي. إذ يختلف الباحثون فيما بينهم في تحديد المدى الزمني لدرجة أن بعض الدراسات المصرية تبالغ في جعل الحد الأدنى للعمر، وأخرى تبالغ في وضع الحد الأقصى.
والواقع أن إشكالية مفهوم الشباب هي إشكالية واضحة في البحوث الاجتماعية بشكل عام. وإنما يرجع هذا بالأساس إلى تباين الأطر المرجعية النظرية، والمعايير التي يعتمد عليها الباحثون في تحديد بداية ونهاية مرحلة الشباب. كذلك تختلف السياقات الاجتماعية والاقتصادية التي تدرس فيها الظواهر المتصلة، فضلا عن اختلاف الطابع الحضاري العام للباحثين الذين يحددون الإطار العمري.
بل ويمكن القول بأن هناك استخداما سياسيا للمفهوم، حينما يتم التعامل مع الشباب كشريحة تمتد حتى الأربعين، بما يوسع المدى العمري. وقد تقف بعض الحجج المؤسسة لهذا التصور، بالقول مثلا بأن كل مهنة محكومة بقواعد تحدد المراحل الجيلية لأفرادها. فمهنة مثل البحث الأكاديمي، يبدأ فيها الاستقلالية في وقت متأخر ما يجعل بداية مرحلة الشباب متأخرة، لكن هذه الحجة مردود عليها، بأن حقلا كحقل العمل السياسي، هو حقل ممتد عمريا، والوصول إلى الاستقلال السياسي يصعب تحديد بدايته في سن معينة، لكن احتمالات بادية الخوض فيه، تجعل هناك احتمالية لأن يكون فيه جيل الشباب جيلا يختلف فيه عن الطرح المزعوم بأنها تمتد حتى خمسة وأربعين عاما.
إن معيار الاستقلالية هو واحد من المعايير المعتمدة لبناء المفهوم، فاستقلال الشاب عن أسرته، وسعيه للعمل وتحمل المسئولية عن ذاته أولا، ثم عن أسرته، يجعل من المفهوم ممتدا من عمر الثمانية عشرة حتى سن الخامسة والثلاثين عاما. هذا المدى العمري الأقرب إلى الحالة المصرية، التي تختلف عن نظيرتها الأوروبية أو الأمريكية، التي قد تبدأ من سن مبكر وتنتهي عند سن أقل من المدى المتاح.
1. البطالة
يعاني الشباب من مشكلة البطالة، حيث لا يجدون العمل المناسب لمؤهلاتهم وقدراتهم، أو لأنهم لا يجدون فرص عمل في العموم. أي أنهم إما يعانون من البطالة الرأسية التي تعني التفاوت بين طبيعة القدرات والمهارات والمؤهلات التي يحملها الشاب ونوعية العمل الذي يعمل به، أو يواجهون سوقا تستبعدهم، فلا يجدون فرصة عمل تستوعبهم. ولذلك يضطرون للسفر للخارج بالطرق الشرعية تارة أو بالطرق غير الشرعية. أو قد يلجأون للعمل الحر بالحصول على قروض ميسرة من الجهات الرسمية كالصندوق الاجتماعي أو من خلال الجمعيات الأهلية. وذلك لعمل مشروعات صغيرة في مجالات اقتصادية متنوعة، كل حسب الخبرات التي لديه، وبحسب الجماعات المرجعية التي ينتمي إليه.
هذا معناه أن مشكلة البطالة يتولد عنها عدد من المشكلات ويرتبط بها عدد من الحلول المقبولة مجتمعيا. فمن ناحية المشكلات، فقد تؤدي البطالة إلى زيادة العنف الشبابي وولادة عصابات صغيرة من الشباب وبالذات في المناطق العشوائية والفقيرة، تمارس العنف والبطلجة. كذلك فإن البطالة ترتبط بالإقبال على المواد المخدرة، للحصول على المتعة والهروب من المسئوليات الاجتماعية والعجز عن التحقق الذاتي. كذلك ترتبط المشكلة بالهجرة غير الشرعية التي تنتشر في بلاد عديدة داخل القطر المصري، وفي قرى بعينها، مشكلة فيما بينها شبكة من علاقات الارتباط، إلى حد أصبحت معه مشكلة الهجرة غير الشرعية فعلا مرتبط بالصلات القرابية الأسرية.
علاوة على هذه المشكلات ذات الصلة، يوجد لدينا عوائق بنيوية أساسية تحول دون تحقيق تقدم حقيقي في مواجهة القضية، أولها غياب قيمة العمل الجماعي، ورفض العمل غير الحكومي.
المشكلة الأولى مرتبطة بطبيعة التنشئة التربوية في المدارس والجامعات، حيث نجد أن النشاط الجماعي داخل هذه المؤسسات التربوية في تراجع شديد، ولا يتم وضع هذه القيمة كقيمة أساسية لتقييم الطلاب، وبالتالي ينشأ الطلاب على الفردية والأنانية، لأن مصدر التقدير الأدبي والمعنوي هو القدرات الذاتية، وليس العمل في جماعة. هذا رغم أننا في الأساس مجتمع تقليدي تعلو فيه القيم الجماعية على الفردية. ورغم أننا مررنا بثورة كبيرة وعدد من الموجات الثورية أبتت القدرة على العمل الجماعي دون الخضوع لقيادة مركزية، ورغم ما لدينا في تاريخنا الحديث والمعاصر من الشواهد الدالة على تميز المصريين في العمل الجماعي الخلاق، فإن ذلك لا نجد له أثره.
أما المشكلة الثانية فهي مشكلة مرتبطة بالطبيعة الخاصة للعمل الحكومي وما تتوفر فيه من ميزات لا يجد الشباب لها مثيلا في القطاع الخاص أو في العمل الحر. ففي القطاع الخاص يجد الشاب نفسه مهدد من قبل صاحب العمل، وخاضع لإرادته، إذ يمكن الاستغناء عنه في أي وقت، خاصة وأن بعض الشركات تقوم بإجبار المتعاقدين للعمل لديها على التوقيع على الاستقالة قبل التعيين، حتى يسهل الاستغناء عنه في الوقت المناسب، كما لا تتوفر فرصة الحماية من مخاطر العمل.
والملفت حقا أن مشكلة البطالة كانت على رأس القضايا التي رأى الشباب ضرورة مواجهتها في أحدث الدراسات التي قام بها في المركز القومي للبحوث الاجتماعية، وقد تكررت ذات النتيجة في بحث آخر أجري قبل ثورة يناير، وجاء تحت عنوان “هموم واهتمامات الشباب المصري”.
2. العزوف عن المشاركة
من الملاحظ أن هناك عزوفا عن المشاركة من جانب الشباب ليس فقط على مستوى المشاركة السياسية سواء في الأحزاب، أو الانتخابات، بل ويمتد الأمر إلى العمل الأهلي كالمشاركة في الأندية والجمعيات الأهلية.
إذ بحسب أحدث الأبحاث في الموضوع تصل نسبة المشاركة إلى نسب متدنية للغاية، ما يشير إلى ظاهرة تحتاج للتدخل والاهتمام. حيث توصل بحث “رؤى الشباب لقضايا المجتمع وقضاياه” إلى ضعف مشاركة الشباب في العمل السياسي وفي العمل الأهلي، فكانت نسب المشاركة ضعيفة للغاية لا تختلف عن النسب التي وردت في مسح النشء والشباب الصادر عام 2009، حيث توصل إلى أن أعلى نسبة عضوية كانت في النوادي الرياضية بنسبة 2.4%، تليها العضوية في مراكز الشباب 1.7%، ثم الانضمام إلى اتحادات الطلبة أو الأحزاب السياسية بنسبة 0.5 ، و0.4%. فيما كانت أقل نسبة من نصيب اتحادات العمال والجمعيات الأهلية وهي نسبة 0.1%.
ولعل أكبر مؤشر دال على العزوف هو عودة زيادة معدل الإقبال على تعاطي المواد المخدرة وإدمانها، فقد تبين من واقع أحدث المسوح التي أجرتها وزارة الصحة، وهو البحث القومي للإدمان الذي تجريه وحدة الأبحاث في الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، حيث تبين أن نسبة المقبلين على المواد المخدرة قد بلغت 31.9% في المرحلة العمرية من 15-29، 23.5% في المرحلة العمرية 26-35 . وهذا الأمر لم تخضه مصر بمفردها، بل نجد أن النسبة مرتفعة لدى تونس، حيث يقبل الشباب التونسي بصورة ملفتة على تعاطي المواد المخدرة.
3. الانضمام لجماعات متطرفة
ونتيجة لدافع العزوف عن المشاركة في العمل العام، الناجم عن طبيعة بنية النظام السياسي الذي لا يشجع عمليا على دمج الشباب، لكنه يقدم مبادرات يغلب عليها التقليدية، والشكلانية. فمن ناحية يلجأ لمبادرات من نوع توفير قروض متناهية الصغر، دون بناء سياسة واضحة توجه هذه القروض بما يخدم الصالح الوطني. أو تخصيص عام للشباب، فيما يتم وضع الشباب رهن الاعتقال دون محاكمات حتى الآن، مع غلبة خطاب تهميشي واستبعادي للشباب، يعيدنا لأجواء النظم الفاشية والنازية.
وبطبيعة الحال فإن هذا الخطاب التهميشي والاستبعادي، والتحقيري، هو نتاج طبيعي وحتمي لصراع الأجيال، والخلاف المنهجي في تصور الدولة وطريقة عملها. فلا تزال الأجيال التي عاشت في ظل أجواء الزعامة الملهمة وطاووسية القائد، تؤمن بضرورة وجود قيادة جماهيرية مفكرة وتنويرية، باعتبارها الأقدر لدواعي تتصل بطبيعة الثقافة والمجتمع المصري والعربي، فيما اختلفت الأوضاع مع بزوغ شرائح شبابية جديدة، منها من تلقى تعليما أجنبيا داخل مصر أو خارجها، ومنها من تعلم ذاتيا بتكوين قدراته الخاصة تكوينا جادا، ومع نشوء مناخ عالمي يدعم غياب هذا النوع من الزعامات لما خلفه من كوارث إنسانية، ما زلنا نعاني منها حتى الآن.
4. الهجرة غير الشرعية
هناك العديد من القرى المصرية التي تنتشر فيها ظاهرة الهجرة إلى بلاد أوربية كإيطاليا وفرنسا وروسيا، وغيرها من البلدان، للحصول على فرص عمل، وذلك عبر انتهاج طرق سفر غير شرعية، معرضين أنفسهم للموت. فيقعون تارة ضحايا للموت، وأخرى لاستغلال السماسرة، أما إذا استقر به الحال، فإنه يقع فيما يسميه زيجمونت بومان بـ”ثقافة آكلي لحوم البشر”. حيث يرى بومان أن البلدان الأوروبية تقوي اقتصادها باستخدام العمالة الأجنبية، ولكنها لا تكتفي بمص دماء هذه العمالة، بل وتعمل على محو خصوصيتها عبر سياسة دمج، تستهدف تخليصهم من ماضيهم القومي.
والواقع أن هجرة هؤلاء الشباب للعمل في مجال البناء والتشييد بوجه خاص، يدلنا على عدد من الحقائق الأساسية:
– أولاها أن القرى التي هاجر أبناؤها للعمل بالخارج قد استفادت اقتصاديا بصورة كبيرة، وهو ما بدا واضحا في طبيعة عمرانها، والمستوى التعليمي لأبنائها من الجيل الثالث من أبناء المهاجرين.
– ثانيتها، أن سوق عمالة التشييد والبناء يشهد تراجعا كبيرا في الراهن، ما يستدعي النظر فيه ومعالجة أزماته.
– ثالثتها، عدم قدرة الجهات الرسمية على بناء جسور من التعاون المشترك مع البلدان المضيفة بحيث تيسر السفر، وتقلل بقدر الإمكان من فرص الهجرة غير الشرعية.
ثالثا: الحلول الممكنة
نستطيع أن نعول في هذا الصدد على قوتين: الدولة والمؤسسات الدينية والإعلامية:
فيما يتصل بالدولة:
– إن الحديث عن مشروعات كبرى بعيدة عن الاحتياجات الاجتماعية، ومن وحي خيال القيادات السياسية والنخبة، وبعيد عن طاولة النقاش المجتمعي هو أمر غير مفيد، وينبغي العمل بطريقة لا مركزية تضمن تلبية الاحتياجات وتتماشى مع القدرات. إذ نحن في حاجة للتعرف على سوق العمل على المستوى المحلي داخل كل نطاق جغرافي، وبناء مشروعات شراكة بين الدولة والقطاع الخاص من جهة أو بين الدولة والشباب، تستهدف تمكين الشباب. ولعل من أبرز القضايا الملحة في هذا الصدد الاعتماد على المشروعات الصغيرة النابعة من الحاجات المحلية، التي يمكن تنميتها عبر التشبيك بين الفاعلين العاملين في العمل الأهلي والشباب الراغب في العمل، بحيث يتم المشاركة معا في بناء خطة التنمية، وتحديد شروط الشراكة، في ظل الاهتمام بتذليل العقبات الأساسية كطبيعة الفوائد المقررة، والمساعدة في الترويج، وتوفير تأمين صحي، وغيرها من شروط الأمان الممكنة، حتى لا يتحول العمل في المشروعات الصغيرة إلى عمل عشوائي لا يؤدي للتمكين واستدامة التنمية، بل يصبح أداة من أدوات الإفقار، وزيادة الأعباء على الشباب.
– ينبغي أن تسعى الدولة إلى تخصيص أكبر نسبة ممكنة للشباب في المجالس المحلية، لما في ذلك من أهمية لعدة أسباب، أولها تشكيل كوادر شبابية قادرة على التواصل مع الجماهير، تمارس العمل السياسي على المستوى المحلي، ويمكن الاستفادة منها على مستوى الأحزاب، بخلق كوادر يمكنها أن تحل محل القيادات القائمة، وعلى مستوى الدولة حيث يمكن الاستعانة بهم في العمل العام وفي المناصب التنفيذية، وعلى مستوى المجالس النيابية.
– على الدولة أيضا أن تسعى لبناء مناخ صحي لممارسة النشاط داخل الجامعة، والوعي بأن الفصل بين الجامعة والعمل السياسي هو قطيعة كاملة ليس فقط مع تاريخ الجامعة المصرية والنضال الوطني بل ومع المدنية الحديثة بالكلية، فالعمل السياسي هو جزء رئيسي من تشكيل الوعي والوجدان للطالب الجامعي. طالما يتم هذا العمل في إطار سلمي وداخل حدود الجامعة.
– الدفع بسياسة تربوية جديدة، تقوم على التفكير وإعمال ملكة النقد، وليس التلقين والإذعان، وهو ما يتطلب بالضرورة تغيير المناهج وطرق التدريس. وهذا بطبيعة الحال سوف يصب في النهاية في ناحية تجديد المنظومة القيمية، بحيث تنتقل من منظومة قائمة على العمل الفردي إلى منظومة قائمة على العمل الجماعي والإبداعية والابتكار.
فيما يتصل بالمؤسسات الدينية والإعلام:
– من الملاحظ على خارطة البرامج الإعلامية هشاشة البرامج التي تهتم بمشكلات الشباب، وتسعى لمواجهتها. بينما تزداد في المقابل البرامج الترفيهية، والبرامج الرياضية، التي لا تقدم مضمونا جادا يتصل بالحياة المعيشية المباشرة للناس.
– ينبغي مراجعة دور ووظيفة المؤسسات الدينية، بحيث يكون خطابها مبنيا على مبدأ المواطنة، إذ أننا نجد هذه المؤسسات غائبة عن مشهد الدفاع عن قضايا من قبيل حقوق الإنسان المحلية والعالمية، ومواجهة الاعتداء على حرية التعبير، والدفاع عن المرأة، بل نجدها مؤسسات أقلوية، لا تهتم سوى بالدفاع عن أبناء عقيدتها فقط، دون السعي لتكون جزءا من مجتمع حديث. ولعل تغيير الوظيفة يمكن أن يسهم فيما بعد في تغيير الخطاب.

د. محمود عبد اللـه
المركز العربي للبحوث والدراسات