“في 17 آذار/مارس، خاطب فيليب غوردون وآنا بورشفسكايا منتدى سياسي في معهد واشنطن بمناسبة نشر المجهر السياسي الجديد باللغة الانكليزية: “روسيا في الشرق الأوسط: الدوافع، النتائج، التوقعات“. والسيد غوردون هو زميل بارز في “مجلس العلاقات الخارجية”، وكان قد شغل منصب المساعد الخاص للرئيس الأمريكي ومنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج بين عامي 2013 و 2015. والسيدة بورشفسكايا هي زميلة “آيرا وينر” في معهد واشنطن وزميلة “المؤسسة الأوروبية للديمقراطية”. وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهما”.
لم تعد روسيا “القوة العظمى” التي كانت في السابق، إلا أن منطقة الشرق الأوسط منطقة هشة، ولا تحتاج موسكو إلى بذل الكثير من الجهود لتأكيد نفوذها فيها والحصول على موطئ قدم عسكري هناك، خاصة ضد ما قد يُتصور بأنه تراجع غربي من المنطقة. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يختبر الغرب باستمرار، الأمر الذي يحوّل الأنظار عن المشاكل الداخلية في روسيا ويسمح له بمواصلة لعب دور الزعيم الضروري في هذا الإطار.
ولا بد من الإشارة إلى أن النفوذ الإقليمي الروسي آخذ في التزايد، وليس فقط في سوريا. ففي الشهر الماضي، زار العراق أكبر وفد روسي منذ سنوات عديدة، وتعهد بتقديم المزيد من الأسلحة والمساعدات لحكومة بغداد. كما ودافعت موسكو عن تجارب الصواريخ البالستية الإيرانية الأخيرة، وحرصت على أن مبيعاتها من الأسلحة الممكنة لإيران، بما فيها الطائرات المقاتلة، لا تخرق حظر الأسلحة الذي تفرضه للأمم المتحدة على أساس أن المقاتلات هي أسلحة دفاعية. وفي الوقت نفسه، تستمر مواجهة الكرملين مع تركيا بعد إسقاط أنقرة لطائرة روسية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. وفي هذا الشهر تحديداً، زار العاهل المغربي الملك محمد السادس، روسيا للمرة الأولى منذ عام 2002.
وهناك العديد من أوجه التشابه بين رد فعل روسيا على الانتفاضات التي شهدتها دول الاتحاد السوفيتي السابقة بعد انهيار “الاتحاد”، ورد فعلها على “الربيع العربي”. فتاريخياً، لم تهتم روسيا القيصرية ولا الاتحاد السوفيتي بالمنطقة نفسها بقدر اهتمامها باحتمالات تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية منها، فضلاً عن الحد من النفوذ الغربي، وبالتالي خلق صورة لروسيا كـ “قوة عظمى”. وفي السنوات الأولى التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، تراجع الرئيس بوريس يلتسين لفترة وجيزة من المنطقة، ولكن بعد الاضطرابات التي وقعت في التسعينات، تبوأ بوتين السلطة واعداً بالاستقرار والازدهار، واستعادة عظمة روسيا.
من الأوجه الأخرى التي تميزت بها ولاية بوتين، عدم الثقة والعداء تجاه الغرب. فهو يعتبر أن انهيار الاتحاد السوفيتي شكل مأساة ويرى أن الغرب يستهدف الآن وحدة روسيا على نحو مماثل. فكلام الغرب عن الديمقراطية هو ستار لتغيير النظام، ولا يمكن لبوتين إدراك الفكرة بأن الشعب قد يطيح بحكامه من دون تلقي تعليمات من قوى أجنبية.
وتميل السياسات الروسية إلى رد الفعل، وبالتالي تنشأ استجابة للسياسات والإجراءات الغربية. ومن جهته ينظر بوتين إلى الدبلوماسية على أنها لعبة لا رابح فيها ولا خاسر، ويسعى للحد من النفوذ الغربي من خلال استغلال الفجوات التي يتركها الغرب. على سبيل المثال، استغل تراجع العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر لتعزيز العلاقات الروسية المصرية. وعلى الرغم من تركيزها الشديد على مكافحة الإرهاب، كانت روسيا في بعض الأحيان على استعداد للعمل مع الإسلاميين مثل حكومة الرئيس المصري السابق محمد مرسي التي لم تدم طويلاً في مصر وحركة «حماس» في غزة. وقد استفادت موسكو إلى حد كبير من العمل في المجالات التي فشلت فيها واشنطن بفرض الخطوط الحمراء الخاصة بها، كما هو الحال في سوريا. وعموماً، سعى بوتين إلى تحسين العلاقات الروسية مع الأصدقاء والأعداء التقليديين على حد سواء في الشرق الأوسط، وذلك في المقام الأول عن طريق التجارة والأسلحة والوسائل المتعلقة بالطاقة.
ترتبط مصالح روسيا في الشرق الأوسط بانعدام الثقة والعداء تجاه الغرب. فموسكو تتمتع بطموحات لتصبح “قوة عظمى” وتريد أن يتم التعامل معها على أنها كذلك. من جانبه، يعتبر بوتين خاتمة الحرب الباردة على أنها هدنة كان ينبغي أن تولد ميزان قوى متساوٍ ولكنها أدت بدلاً من ذلك إلى سعي الولايات المتحدة إلى الهيمنة العالمية. وبالمثل، تستاء روسيا من توسيع “حلف شمال الأطلسي” (“الناتو”) ونشاط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وعلى وجه العموم، يحدد بوتين مصلحة روسيا على أنها معارضة للاتجاه العالمي القائم على نشر الديمقراطية، بما يتفق مع وصول موسكو إلى دول أكثر استبدادية ونفورها من مصالح الولايات المتحدة في الترويج للديمقراطية.
وفي هذا السياق، تمثل إيران وسوريا أهم عقدتين في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في الشرق الأوسط. وفيما يتعلق بإيران، تتناقض مصالح روسيا التي ترغب في منع طهران من امتلاك أسلحة نووية في حين تعارض أي تطور يُعتبر داعماً لهيمنة الولايات المتحدة. فقد أصرت موسكو على أن يمر أي اتفاق نووي مع إيران عبر مجلس الأمن الدولي حيث لروسيا مقعداً فيه. وخلال المحادثات، كانت إحدى مخاوف الغرب أن تقدم روسيا الحد الأدنى كشريك، وتوافق على منع [تطوير] القنبلة [النووية] الإيرانية ولكن ليس على نهج الولايات المتحدة الأوسع نطاقاً حول هذه المسألة. ومن المخاوف أيضاً أن توجيه ضربة من الغرب ضد إيران قد يساعد روسيا من خلال معالجة القضية النووية مباشرة، ويؤدي الى ارتفاع أسعار النفط، وتشويه سمعة الولايات المتحدة وإسرائيل، فيما يسمح لموسكو في نهاية المطاف بتعزيز علاقاتها في المنطقة. إلا أن الكشف عن منشأة فوردو النووية الإيرانية السرية أثار التوتر في صفوف الروس ودفع بهم إلى دعم قرار مجلس الأمن رقم 1929، وحظر الأسلحة والعقوبات على الصواريخ. وفي النهاية، تبيّن أن روسيا شريكة فيما يتعلق بإيران أفضل مما توقع الكثيرون، على الرغم من الخلافات حول أوكرانيا وقوانين المنظمات غير الحكومية والدفاع الصاروخي وقضايا أخرى. وبمرور الوقت تدهورت العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا، لكن إيران كانت آخر مجال للتعاون. وقد بقي موقف موسكو بشأن إيران متناسقاً في جميع مراحل المحادثات، كما أن الروس دعموا تقييد برنامج إيران النووي طالما أنهم يلعبون دوراً في هذه العملية.
وحول سوريا، كانت نظرة الكثيرين مفرطة في التفاؤل بأن روسيا ستساعد الولايات المتحدة على عزل بشار الأسد. فبوتين دائماً ما سيدعم الأسد، وما كان يجب على المراقبين أن يتفاجؤوا من نشر روسيا قوة عسكرية في سوريا. فروسيا تكره الفكرة بأنه يمكن للشعب أن ينتفض ويؤمّن الدعم من الغرب إذا كان يكره الدكتاتور الذي يحكمه. ويمكن ملاحظة ذلك في رد فعل موسكو على الاضطرابات التي شهدتها جورجيا وأوكرانيا وقرغيزستان وليبيا. فالكرملين يرى نمطاً واحداً في كل هذه الحالات، ويخشى من انتشاره إلى آسيا الوسطى أو روسيا نفسها. وبشكل منفصل، لا يهدف الروس إلى بناء تحالف لسحق السنّة ولكنهم يحاولون بدلاً من ذلك توسيع علاقاتهم مع العالم الإسلامي السني.
ولا يستند الدفاع الروسي عن نظام الأسد على كره روسيا لتغيير النظام فحسب، بل على مخاطر الفوضى في المرحلة التي تلي الأسد في سوريا وعلى رغبتها في البقاء ذات صلة في هذا الشأن أيضاً، بدلاً من نية الكرملين المعلنة القائمة على هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»). وبالتالي يتماشى الانسحاب الروسي مع هذه الأهداف: فالأسد لن يسقط، ولا يتم تحويل سوريا إلى أفغانستان أو الصومال، وموسكو حافظت على مقعدها على هذه الطاولة. فانخراط الروس لم يكن للمشاركة في احتلال سوريا إلى أجل غير مسمى. وإذا تمكنت الولايات المتحدة من تقديم خطة لمرحلة ما بعد الأسد في سوريا تشمل المصالح الروسية، سيوافق الكرملين عليها. فروسيا، كما أُشير، عازمة على تجنب الفوضى في مرحلة ما بعد الأسد في سوريا ولكنها في الوقت نفسه لا تعتقد أنه يتعيّن على المجتمع الدولي أن يلعب دوراً في تشكيل الحكومة السورية.
وبالتالي، ينبغي أن تتضمن الأهداف الأمريكية مواجهة النفوذ الروسي في المنطقة، ولكن لا يمكن أن يكون هذا هو الهدف الرئيسي. وبدلاً من ذلك، لا بد من قياس أهداف الولايات المتحدة بشأن روسيا مقابل المصالح الوطنية الأخرى. فعلى أولئك الذين ينظرون إلى تدخّل موسكو على أنه يقوض مصالح الولايات المتحدة أن يفسروا أيضاً الانسحاب الذي أعلنته روسيا على أنه مفيد لمصالح الولايات المتحدة، إذ لن تشمل سياسة أمريكية ناجحة تجاه سوريا قيام مأزق روسي فيها. وفي المقابل، يجب على الولايات المتحدة الحفاظ على الهدف القائم على التعاون مع روسيا في التوصل إلى حل سياسي. وعلى هذا الصعيد، يتضمن إعلان الكرملين الانسحاب بالتزامن مع محادثات جنيف رسالة للأسد بأن روسيا لا تدعمه في استعادة السيطرة على كامل البلاد.
ولم يشك أحد يوماً بأن الولايات المتحدة يمكن أن تستخدم القوة الجوية إلى حد يترك بعض الأثر في سوريا، ولكن قد لا تكون القوة قد سمحت لواشنطن أن تدرك أهدافها السياسية، والتي تختلف عن أهداف روسيا وهي أكثر صعوبة منها. فقد إستندت المقامرة الكامنة وراء تدخل الولايات المتحدة المحتمل على إقناع النظام ومؤيديه بقبول الانتقال [السياسي]. وطالما يتمتع الأسد بدعم إيران وروسيا و «حزب الله»، فإن أي تدخل أمريكي سيكون مكلفاً وكبيراً. إذ تشير تجربة الولايات المتحدة إلى أن التدخل نيابة عن قوة معارضة لا يؤدي إلى الاستسلام بل إلى تصعيد مضاد. وبالتالي، يصبح تطبيق النهج الروسي لتحقيق الأهداف السياسية عبر استخدام القوة أكثر صعوبة حتى عندما ينظر المرء إلى النهج العشوائي للجيش الروسي وقتله لعدد كبير من المدنيين.
وفي النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن ما يمكن أن تقدمه واشنطن للشرق الأوسط يفوق كثيراً عما تستطيع موسكو توفيره. ففي حين يمكن أن تلعب روسيا دوراً إقليمياً، تفضل دول الشرق الأوسط العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والشروط التي توفرها، بغض النظر عن التوترات الحالية. وتتمتع موسكو أيضاً بالقدرة على أن تكون قوة سلبية في الحالات التي يمكنها بدلاً من ذلك أن تلعب دوراً إيجابياً. ولهذا السبب، لا يمكن تجاهل روسيا.
باتريك سمث
معهد واشنطن