يمثل الاتفاق الروسي – الأميركي مرحلة جديدة في القضية السورية؛ إذ هو الأبرز في توافق الدولتين المؤثرتين في قضية، كانت ولا تزال، أحد مصادر التناقض العميق في سياسة البلدين، رغم أنه من الصعب تقدير مدى التوافق في اتفاق غير معلن، يصر طرفاه على إبقائه طي الكتمان. لكن المعلن فيه يكفي للقول إنه يعكس توافقًا في نقاط، لعل الأهم فيها نقطتان؛ الأولى هي الهدنة، والثانية تحريك مسار الحل السياسي للقضية السورية، مع تأكيد الفارق في رؤية كل جانب لكل واحدة من النقطتين.
الروس في الاتفاق مع الأميركيين، لا يرون في وقف القتال والذهاب إلى المفاوضات إلا فرصة من أجل تحسين الأوضاع السياسية والميدانية للحلف الذي يشاركونه مع نظام الأسد وإيران وأدواتهم من الميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية والأفغانية وغيرها، وهم في هذا الجانب، يريدون أن يظهروا للعالم، حرصهم ومساعيهم لوقف الصراع المسلح والذهاب إلى حل سياسي بالتشارك مع الولايات المتحدة، التي يؤشر لها باعتبارها الأقرب إلى الطرف الآخر في الصراع السوري وحول سوريا، وهذه كلها تعطيهم مزايا سياسية، تعزز وضعهم ووضع حلفائهم، فيما تتواصل المجريات الميدانية من أجل تعزيز قوة حلفهم على الأرض بجلب مزيد من العتاد والمقاتلين من جهة، والعمل من جهة أخرى على إضعاف وتفكيك قوة الطرف الآخر بطرق وأساليب متعددة، لعل الأبرز فيها فصل جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) عن تحالفها مع تشكيلات المعارضة المسلحة في إطار جيش الفتح.
الأميركيون من جانبهم، لا يرون في الاتفاق سوى منجز سياسي أخير للعهد الأوبامي قريب الانتهاء في قضية كارثية، شغلت العالم وكانت متواصلة في عهد أوباما الذي فشل في تحقيق أي تقدم فيها، أو معالجة لأي من جوانبها الكثيرة، إن لم نقل إنه ساهم في تردياتها ومزيد من تداعيات إقليمية ودولية خطرة، أصابت كثيرًا من دول العالم بما فيها حلفاء واشنطن بآثارها الكارثية، ولأن الأمر على هذا النحو، فمن غير المستغرب أن يقدم الأميركيون للطرف الروسي تنازلات، وهو الأمر الذي قد يفسره التحفظ الأميركي على كشف تفاصيل الاتفاق.
النقطة الروسية – الأميركية المشتركة في الاتفاق، هي توافقهما في الحرب على الإرهاب، وبالتخصيص على «داعش» وجبهة فتح الشام، والتشارك في تلك الحرب. رغم الإشكالات، التي يثيرها الجمع بين «داعش» وجبهة فتح الشام في صفوف المعارضة السورية، فإن هذه النقطة تكشف توافقًا آخر بين الطرفين، وهو السكوت عما تقوم به الميليشيات الشيعية في سوريا من عمليات إرهابية، لا تقل بشاعة عن ممارسات «داعش»، الأمر الذي يعني في المشترك الروسي – الأميركي، أن ثمة ميلاً واضحًا لمصلحة الطرف الأول وتحالفه، وميلاً لإخراج القضية السورية من سياقها الأساسي، باعتبارها ثورة شعب ضد نظام مستبد وقاتل، وبناء مستقبل آخر، لجعلها قضية حرب على بعض الإرهاب، لا الإرهاب كله، خصوصًا أن حزب الله مصنف في أكثر من قائمة باعتباره جماعة إرهابية، تنبغي محاربتها.
وسط تلك الصورة من محتويات الاتفاق الأميركي – الروسي ومصلحة موقعيه، لا بد من قول إن السوريين يمكن أن يستفيدوا منه، إذا تم تنفيذ الهدنة ووقف القتل والتهجير، وجرى الذهاب إلى مفاوضات جدية على أرضية التوافقات الدولية ومرجعياتها، وخصوصًا بيان جنيف لعام 2012، غير أن أمرًا كهذا، سيكون مستبعدًا في ظل ثلاث حقائق معروفة.
أولى الحقائق، أن تجربة التوافقات والاتفاقات الأميركية – الروسية حول القضية السورية، افتقدت إلى الجدية، وغلب عليها الطابع السياسي والإعلامي أكثر بكثير من نزوعها نحو التطبيق، ليس فقط لأنها لم تتضمن برنامجًا تنفيذيًا، بل لأنه لا تتوفر لدى الطرفين إرادة عملية وسياسية لتطبيق ما تم الاتفاق عليه، وفي التقدير أن الاتفاق الأخير لن يكون أحسن حالاً مما سبقه.
الحقيقة الثانية، تتمثل في عدم توفر رغبة حقيقية من قبل نظام الأسد وحلفائه في الذهاب إلى حل سياسي، وأن الحل العسكري ما زال يحكم سياساتهم وتصرفاتهم العملية، وإن جرى تحولهم باتجاه الحل السياسي، فلا بد أن يكون الحل ناتجًا عن إملاءات ميدانية على نحو ما يجري في التسويات المحلية، ومنها اتفاق التسوية الأخير في داريا، الأمر الذي يعني أن حلاً عامًا، ينبغي أن تكون نتيجته الكلية في مصلحة النظام وحلفائه، ولا تكون فيه المعارضة إلا متلقية للنتائج، لا مشاركة في صنعها، طبقًا لما يعنيه حل سياسي، يكون ناتجًا عن توافقات تأخذ بعين الاعتبار مصالح المشاركين، وترضي الأطراف المنخرطة فيه.
الحقيقة الثالثة، وأساسها استغلال النظام للهدنة والحديث عن الحل السياسي، لخلق وقائع جديدة في الواقع الميداني، عبر القيام بخروقات لوقف إطلاق النار في مناطق ذات حساسيات مثل المناطق المحاصرة، والمماطلة إلى حد منع دخول المساعدات الغذائية والإنسانية أو تقييدها على نحو ما جرت الأمور، ولا يستبعد في هذا المجال، أن يقوم الطيران الروسي بضرب بعض تشكيلات المعارضة المسلحة بدعوى ضرب مواقع جبهة فتح الشام، وفي الطريق يضربون التشكيلات الموصوفة بـ«المعتدلة».
خلاصة القول في موضوع الاتفاق الأميركي – الروسي وما سيأتي بعده، إنه من غير المنتظر حصول تطورات مهمة بالاستناد إليه، سواء على الصعيد السياسي أو الميداني أو حتى الإغاثي، بحيث ينقلب الوضع إلى أفضل مما كان عليه قبل الاتفاق، غير أنه وفي كل الأحوال، ليس أمام السوريين إلا الانتظار، والأمل والعمل من أجل تغييرات تقودهم وبلادهم نحو سلام وحل لقضيتهم.
فايز سارة
صحيفة الشرق الأوسط