الأرجح أن روسيا ستحصد في شرق ليبيا بعضاً من ثمار انتصارها العسكري في حلب، فهي تشتغل منذ أكثر من سنة على تعزيز مواقعها في الشرق الليبي لبناء تحالفات تزيد من فرصها للعودة بقوة إلى الساحة الليبية. ويعتبر الروس أن الغربيين وضعوا لهم مقلباً لدى الاقتراع على قرار مجلس الأمن الرقم 1973 الذي أباح التدخل العسكري الأطلسي في ليبيا في آذار (مارس) العام 2011، إذ أوهموهم أن الهدف من التدخل هو منع كتائب القذافي من سحق الانتفاضة في بنغازي، لكي يضمنوا عدم استخدامهم حق النقض، فيما كان الهدف الحقيقي إطاحة النظام والقضاء على زعيمه معمر القذافي.
وظلت موسكو، التي أخرجتها انتفاضة 17 شباط (فبراير) 2011 من أحد معاقلها الأخيرة على ضفاف المتوسط، تتحين الفرص لقلب الطاولة على غرمائها، الذين اســـتفردوا بالملف الليبي، وهم فرنسا وإيطاليا وبريـــــطانيا وألمانيا وإسبـــانيا بالإضافة للولايات المتحدة. وفي أعقاب الشرخ الذي أحدثته الانتخابات البرلمانية في 2014 وأسفر عن وجود حكومتين متنافستين واحدة في طرابلـــس (غرب) والثـــانية في البيضاء (شرق)، راهن الروس على قوتين حليفتين تتمـــثلان بأنصار القذافي من جهة ومعارضيه الســـابقين الرافضين للتيارات الســلفية من جهة ثانية، وفي مقدم هؤلاء قائد الجيش المُعين من البرلمان خليفة حفتر ورئيس البرلمان نفسه عقيلة صالح. وإذا تابعنا الخط البياني للعلاقات بين موسكو وحفتر، الذي يحتفظ أيضاً بعلاقات متينة مع الأميركيين إذ أقام بينهم أكثر من عشرين عاماً، نلحظ تسارعاً في نسق اللقاءات والتصريحات الإيجابية المتبادلة على امتداد السنة الفائتة. فقد دعا الروس حفتر إلى موسكو في حزيران (يونيو) الماضي، وهم يُدركون أنه الشوكة التي تمنع حكومة الوفاق المُعترف بها دولياً، برئاسة فائز السراج، من التقدم في اتجاه معاودة بناء الدولة.
وعلى رغم التكتُّم الذي أحيط بلقاءات حفتر مع وزيري الخارجية سيرغي لافروف والدفاع سيرغي شويغو والسكرتير العام لمجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف (أي المربع المحيط بالرئيس بوتين)، فالأرجح أن في مقدم المسائل التي تم بحثها تسليح الجيش الذي يقوده حفتر وتأمين قطع الغيار له بالنظر إلى أن غالبيته من صنع روسي. وعاد حفتر لزيارة موسكو الشهر الماضي واجتمع مجدداً مع الشخصيات نفسها، لكنه اكتفى لدى تطرقه لمسألة التسليح بالقول في تصريح إلى وكالة الأنباء الروسية «سبوتنيك» إن كثيراً من الخبراء العسكريين الليبيين درسوا في روسيا، «ولكن في المستقبل، عندما يتم رفع حظر تصدير السلاح، ويبدأ وصول الأسلحة الحديثة، سنكون في حاجة لخبراء أسلحة روس من أجل التدريب العسكري».
لم يمض أسبوع على زيارة حفتر حتى حل في موسكو حليفُه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح واجتمع أيضاً مع لافروف وباتروشيف. ونفى أن يكون طلب أسلحة من الروس، إلا أنه أبدى في تصريح إلى «الحياة» عزمه على الإعلان عن «خريطة طريق سياسية جديدة» بديلة من حكومة الوفاق الوطني المنبثقة من اتفاق الصخيرات، والتي انتهت ولايتها في 17 من الشهر الماضي أي بعد سنة على تشكيلها وفق الاتفاق. وأقرَ صالح في التصريح نفسه بوجود «تفهُم روسي واسع» لخطة البرلمان البديلة من الحل الذي فشل المجتمع الدولي في فرضه على الميدان. وأشار بعد اجتماعه مع لافروف إلى «أن هناك مجالاً كبيراً جداً لتطوير العلاقات القديمة الجديدة بين روسيا وليبيا، فهناك علاقات قديمة في كل المجالات، النفط والغاز والسكة الحديد والزراعة وغيرها، ونحتاج إلى روسيا في إعادة إعمار البلاد وتدريب الجيش بالذات، لأن قادة الجيش تدربوا جميعاً بدورات في روسيا وعلى السلاح الروسي ويتكلم معظمهم اللغة الروسية».
على هذه الخلفية يمكن اعتبار الانتصار الروسي في سورية حافزاً كبيراً على المضي في طريق استعادة النفوذ السابق في ليبيا، وتحقيق أحد أحلام الإستراتيجيين الروس بإيجاد منافذ إلى موانئ المتوسط الدافئة. وفي هذا السياق ثمة نقطة بالغة الأهمية في تصريحات صالح في موسكو وهي المتعلقة بتعهُد يبدو أنه قطعه للروس بالتزام العقود والاتفاقات الموقعة مع روسيا قبل العام 2011، إذ قال «نحن نلتزم كل الاتفاقات السابقة وسنبرم اتفاقات جديدة».
وبالإضافة إلى موسكو تدعم باريس حفتر أيضاً، وإن توخت أسلوب التقية في علاقاتها معه، إلا أن مصادر فرنسية مختلفة أكدت أنها تدعمه بالطيران والمعلومات الاستخبارية والتدريب.
على الطرف المقابل من المشهد الليبي تقف عواصم غربية وازنة داعمة لحكومة السراج، وترى ضرورة منحها مزيداً من الفرص على رغم تعثّرها وفقدها السيطرة على الميليشيات المتحكمة برقبة العاصمة. وشكلت معركة استعادة سرت من «داعش» اختباراً لاستمرار الدعم الغربي للسراج، الذي خاضت قوات «البنيان المرصوص» المعركة بتفويض منه، وإن كان اسمياً. وتجلى ذلك في الضربات التي كان الطيران الأميركي يُوجهها لمواقع «داعش» في سرت، والتي بلغ عددها 470 ضربة جوية بين أول آب (أغسطس) وأول كانون الأول (ديسمبر)، وكان ذلك رسمياً بطلب من الحكومة المعترف بها دولياً. وهذا يعني أن اتفاق الصخيرات عاود تشكيل عناصر الصراع الليبي فانتقل من تنازع على الشرعية بين حكومتي عبدالله الثني وخليفة الغويل، ومن ورائهما المؤتمر الوطني العام المنحل (في طرابلس) ومجلس النواب (في طبرق)، إلى صراع بين مؤيدي حكومة الوفاق ومعارضيها، مع وجود فرقاء آخرين ذوي اتجاهات مختلفة في المعسكرين. ومن هذه الزاوية يُنظر إلى اللاعبين المؤثرين الآخرين، وهم بالأساس أنصار القذافي الذين بدأوا يظهرون أكثر فأكثر على الساحة، وكذلك القيادات القبلية التي استعادت دورها السياسي مثلما أثبتت ذلك لدى إطفاء الصراع الذي اندلع في سبها (جنوب) بين قبيلتي القذاذفة وأولاد سليمان. واللافت أن هذه المُكونات السياسية والقبلية تملك مختلف أنواع الأسلحة، ما يجعل خطر الاحتكاك والصدام وارداً في أي وقت. لذا فالخطوة الأولى نحو إرساء نظام سياسي جديد، طبقاً لمخرجات اتفاق الصخيرات، تتمثل في العمل على توحيد المؤسستين العسكرية والأمنية، كي لا تبقى حكومة الوفاق بلا شوكة ولا قدرة على تنفيذ قراراتها. وتتمثل الخطوة الثانية في جمع الأسلحة من الميليشيات كي تحتكر الدولة السلاح، مع دمج عناصر تلك الميليشيات في مؤسسات الخدمة المدنية.
من الأكيد أن أي سيناريو سيرجح بين الاحتمالات الواردة في 2017 سيُؤثر حكماً في استقرار المنطقة وفي أمن بلدان الجوار، فاستمرار الحرب في ليبيا يُزعزع الأمن الإقليمي في شمال أفريقيا ويوجد بيئة حاضنة لتمدُد الجماعات الإرهابية. وإذا كانت الدول الغربية الكبرى تشعر بهذا الخطر فإن تذبذب مواقفها وكثرة المناكفات بينها يشلان قدرتها على التأثير. ومن الواضح أن سياسة البيت الأبيض بعد وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة ستكون مختلفة عن سياسة سلفه أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، التي كان إخفاقها في ليبيا أحد أسباب هزيمتها الانتخابية. لذا من غير المُرجّح أن تعاود الإدارة الأميركية المراهنة على تنظيمات الإسلام السياسي لقيادة المسار الانتقالي في شمال أفريقيا، وفي ليبيا تحديداً، بل الأرجح أنها ستعمل على حمل الفرقاء على البحث عن أرضية مشتركة لوضع بنود اتفاق الصخيرات موضع التنفيذ، بعد مراجعة بعضها، مع العمل على إشراك الجميع في الحل، بمن فيهم أنصار القذافي والمعارضون السابقون المناوئون للجماعات الأصولية.
رشيد خشانه
صحيفة الحياة اللندنية