نهاية نهاية الحرب الباردة

نهاية نهاية الحرب الباردة

في مثل هذا الأسبوع قبل خمسة وعشرين عاماً، لم يعد الاتحاد السوفياتي قيد الوجود، وانتهت الحرب الباردة، وخسرت موسكو وكسبت واشنطن. ولست من بين الذين يهتمون بقصص مناسبات الذكرى، لكن هذه القصة تبدو لي مهمة حقاً.
قبل خمسة وعشرين عاماً، بدا المفهوم الغربي للحوكمة -الديمقراطية والأسواق الحرة وحقوق الانسان- وكأنه برهن أنه الأفضل والأكثر استقراراً والطريقة الأكثر أخلاقية للحكم. وتقرر أن الطريقة الغربية للحوكمة، قبل 25 عاماً، سوف تحكم روسيا الجديدة، أيضاً.
بينما انكش اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية، تاق العديد من طبقة الانتليجنسيا الحضرية إلى إضفاء الطابع الغربي الذي اعتقدوا أنه سوف يقلب بلدهم وحياتهم رأساً على عقب. واعتقد هؤلاء بأنه ما عليك سوى التخلص من الشيوعية، وسوف يشرعون عندها في العيش مثل نظرائهم الأميركيين والأوروبيين.
وجاءت عملية إضفاء الطابع الغربي. وتمت صياغة أول دستور في روسيا بعد انهيار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بقالب غربي، بمساعدة مجموعة من المفكرين الشباب من جامعة هارفارد. وأخلت حقبة حكم الحزب الواحد السوفياتية مكانها لنظام برلماني توافر، عند إحدى النقاط، على أكثر من 100 حزب سياسي، بما فيها حزب لمحبي الجعة. وأصبحت هناك فجأة صحافة حرة القيادة ومناوئة على النمط الغربي. وساعد نفس أولئك المجاميع -الشباب مثل جيفري ساش- في دفع التحول المؤلم لاقتصاد القيادة السوفياتية إلى داخل اقتصاد السوق. و اندفع رجال الأعمال الغربيون وملأوا البلد لجني الربح الوفير، لكنهم جلبوا معهم أيضاً طرقهم الجديدة التي تبدو متفوقة في إدارة الأعمال: مجالس إدارات وحوكمة موحدة، وأسهم وسندات. وأصبح الدولار هو العملة المفضلة والموثوقة. وملأت المنتجات والصناعات الغربية السوق الروسية: كوكا كولا، وهوليوود والهواتف النقالة.
في الوقت نفسه، تحولت روسيا بسرعة من قوة عظمى نووية إلى الركود والعزلة، ثقافياً وجيوسياسياً. واصطفت بلدان حلف وارسو وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق في طابور على باب حلف الناتو، وصار ينظر إلى روسيا على أنها أرض المخمورين والعرائس اللواتي يتم طلبهن بالبريد الألكتروني، ومكاناً للسخرية بدل أن يكون مهيب الجانب. وأصبحت النخبة فيها تشعر بالغيظ من حقيقة تحولها من واحدة من الإمبراطوريات الكبرى في العالم لتصبح “فولتا العليا، وإنما بصواريخ”. أو التي سخر منها سيرغي برين، المؤسس المشارك لغوغل، وواحد من عديد المهاجرين الذين صنعوا ثرواتهم في مكان آخر، بوصفها بأنها “نيجيريا وقد كساها الثلج”؛ أو كما أشار إليها أحد موظفي مجلس الشيوخ الأميركي ذات مرة في محادثة بأنها “محطة غاز الصين”. وحتى بالنسبة للروس الأكثر انتقاداً للكرملين، فإن الإذلال يمكن أن يكون مؤلماً.
بالنسبة لبعض المفكرين الروس المحافظين الذين أثر الكثيرون منهم على فلاديمير بوتين في دورة رئاسته الثالثة، فإن مجرد فكرة وجود روسيا كديمقراطية كانت في حد ذاتها نوعاً من الهزيمة. كان ذلك بمثابة فرض نظام أجنبي من الحوكمة، والذي لا يتناسب مع تقاليد روسيا والإصرار التاريخي على العظمة والوحدة وتبعية الفرد للدولة القوية المركزية. وقد كرهوا، هم وبوتين، هذا الطابع الغربي، خاصة في تجسيداته الجيوسياسية ، مثل قصف حلف الناتو في العام 1999 ليوغسلافيا على الرغم من احتجاجات موسكو.
ثم، في الألفية الثالثة، دعم برنامج جورج دبليو بوش لتغيير الأنظمة وترويج الديمقراطية الانتفاضات الديمقراطية في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا، فأخاف هذا التطور بوتين الذي خشي أن تدعم واشنطن شيئاً مشابهاً في موسكو. ورد بتهميش معارضيه على نحو فعال، خالقاً حركة شبابية متشددة وموالية للحكومة ومضعفاً ما بقي من الصحافة المستقلة في الوطن. ثم جاء إسقاط الرئيس الراحل صدام حسين وحسني مبارك ومعمر القذافي، وبشار الأسد الذي أوشك على السقوط هو الآخر -وكل ذلك باسم الديمقراطية. وجاء كل ذلك على خلفية الاحتجاجات تحت أسوار الكرملين من الموسكوفيين غربيي الطابع والحضريين من ذوي الياقات البيضاء (الموظفين)، مطالبين بشكل حكومة أكثر شفافية وقابلة للمحاسبة. وقد وقف هؤلاء في برد الشتاء القارس في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2011 وطالبوا صراحة بحكومة على الغرار الأوروبي.
ولكن، في كانون الأول من (ديسمبر) من العام2016، بعد 25 عاماً من خسارة روسيا للحرب الباردة التي كسبها الغرب، كسب بوتين بالتأكيد نهايتها. فقد استطاع بنجاح أن يعيد التفاوض على الشروط والأحكام الخاصة بالانتقال الطويل والمترنح بعد الحقبة السوفياتية وجلبه إلى نهاية، من خلال قلب الشروط الخاصة بالهزيمة غير الدموية للاتحاد السوفياتي. وكان المكتوب على الجانب الآخر من 25 عاماً من التفوق الأخلاقي الغربي هو الكشف عن أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية خلصت إلى أن جنود بوتن السيبرانيين حاولوا تحويل الانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح دونالد ترامب.
لم تكن المسألة تتعلق بترامب فقط، أو حتى لغاية زرع بذور الفوضى. كانت عملية فكرتها الأساسية هي وجودها في حد ذاته، في دليل على أن روسيا الآن أصبحت قوية بدرجة كافية للتحكم في ميزان أهم انتخابات في أهم بلد في العالم. وعندما تقوم بخوض مغامرة مثل هذه وتحققها على نحو مشهود، إلى درجة مساعدتك في انتخاب رئيس أميركي جديد صنف نفسه أصلاً على أنه اللشريك الصغير لبوتين، حسناً، ما الذي يكون قد تبقى من التفوق الأخلاقي الغربي؟ وأي نوع من الحكومة أفضل حقاً؟
وهكذا، بعد عقود من مشاهدة الغرب وهو يفرض أنموذجه السياسي والاقتصادي على روسيا، لم يقم بوتين بإيقاف اندفاع الغرب فقط، بل إنه قلب وجهته. وقد استخدم وأعوام منافذ إعلامية يمولها الكرملين مثل “روسيا اليوم” لشن حرب في أوروبا على روح فكرة الحقيقة القابلة للتأكد منها والقابلة للمعرفة. وقام بتمويل الأحزاب السياسية الأوروبية من أقصى اليسار ومن أقصى اليمين لزرع الفوضى الشديدة والخراب والدمار في السياسة الأوروبية التي عادة ما تكون رصينة؛ حتى أنه اتهم بـ”تسليح” تدفقات اللاجئين السوريين من أجل زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي. والآن، خرجت بريطانيا العظمى من الاتحاد الأوروبي بعدما تحدث نصير “بريكست”، نايجل فاراج، عن إعجابه المقيم ببوتين. وثمة فرنسا التي تتهيأ لاختيار رئيس موالً لروسيا، بينما تتعرض المستشارة الأمانية، أنجيلا ميركيل، لهجوم من الجيوش السيبرانية الروسية، وأصبحت معلقة بخيط.
لكن الانتصار الفعلي هنا يتمثل في هبوط تلك الجيوش على الشواطئ الأميركية. وقد فعل بوتين ذلك تماماً في العام 2016، جاعلاً الانتخابات الرئاسية الأميركية أشبه بانتخابات روسية. وبتنحية القرصنة الألكترونية جانباً (والتي يستطيع بوتين المحاججة بأنها لا تختلف عما فعلته أميركا لعقود خلال وبعد الحرب الباردة في دعم “الثورات الملونة” وتغيير النظام)، فإن الذي صنع النصر كان فرض النموذج الروسي من السياسة في الغرب، في قلب فعال وملموس جداً للوضع القائم الذي كان قائماً منذ العام 1991. وأصبحت الانتخابات الرئاسية الأميركية حافلة بنظريات المؤامرة الروسية، والأخبار الزائفة العبثية، والتدفق الثابت والاستراتيجي لإعلام التسوية. وبكلمات أخرى، كانت انتخابات روسية بكل ما في الكلمة من معنى.
وفي الوقت نفسه، استطاع بوتين الوصول إلى الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، مثل إسرائيل والسعودية -والآن اليابان- في محاولة لإقناعهم بأنه لم يعد هناك وجود لقوة عظمى واحدة في النظام العالمي الجديد. وهناك الآن قوة عظمى مترددة في لعب الدور، وواحدة قديمة غير خائفة من أن تكون حاسمة، حتى ولو بكلفة كبيرة عليها.
ذلك لأنه قبل خمسة وعشرين عاماً في مثل هذا الأسبوع، خسر الاتحاد السوفياتي الحرب الباردة. وبعد خمسة وعشرين عاماً، أعادت روسيا التفاوض على شروط الاستسلام.

جوليا جوفي

صحيفة الغد