انطلق القائد الأعلى للقوات الأميركية، الرئيس الخامس والأربعون دونالد ترامب، منذ تسلّم مفاتيح البيت الأبيض قبل أسبوع بأوامر تنفيذية تطابقت مع وعوده الانتخابية، تنذر بتحوله إلى القائد الأعلى لعزلة الولايات المتحدة وتفكيكها وانحسار هيبتها ونفوذها عالمياً. هذا تماماً ما حلمَت به القيادة الروسية عندما تبنّت ترامب مرشحها آملة بأن يصبح «يلستن أميركا»، انتقاماً من استخدام الولايات المتحدة الرئيس السوفياتي السابق بوريس يلتسن لتفكيك تلك الإمبراطورية. الصين تتأهب للاستفادة الكبرى من رئاسة ترامب الذي يتخذ إجراءات تساهم – من دون أن يدري – في تعزيز صعود الصين إلى مرتبة العظمة لدرجة قد تؤدي إلى احتلالها منصب الولايات المتحدة في القيادة العالمية. هذان تطوران جذريان قد لا تسمح المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة لأي رئيس أن يجر أميركا إليهما، لذلك بدأ ترامب رئاسته برفقة ازدياد الكلام عن احتمال عزله عبر محاكمته في ما يسمى «أمبيشمانت». إنما في الأمر الكثير من الريبة والحيرة والارتباك إزاء كيفية ممارسة الرئيس ترامب الحكم تنفيذاً لوعود ترامب المرشح للرئاسة بمشاريع خيالية. فهذا رجل تحدّى التقليد والمعتاد ومراكز الحكم والقوى الحزبية وأتى إلى الرئاسة على رغم أنف النخبة السياسية وكبار رجال الحزب الجمهوري ومراكز الفكر والاستخبارات والإعلام متأبطاً مشاريعه المذهلة. لم يكذب ترامب الرئيس على ترامب المرشح فور دخوله البيت الأبيض، وإنما العكس. صدَق مع وعوده وبدأ تنفيذها يوم أدّى القسم وفور توجهه إلى البيت الأبيض. أحبَط تمنيات الذين حلموا بأن يغيّر المنصب الرجل، وتمسَّك بثقته في أن الرجل هو الذي سيغيّر منصب رئيس أهم دولة في العالم. كل شيء في حال اهتزاز رهن توقيع دونالد ترامب – وهو حقاً يبدو في غاية التمتع بقدرته على التوقيع من ذلك المنصب الفريد. الحلفاء الأوروبيون بدأوا مسيرة الانقسام على نغم «الترامبية»، لا سيما أن ترامب يهزأ من الاتحاد الأوروبي ويستهين بحلف شمال الأطلسي (الناتو) ويتجاهل المستشارة الألمانية أنغيلا مركل وهي أقوى زعيم أوروبي حالياً على الإطلاق، إلا أنه تحدث إلى خمسة من القادة (كندا والمكسيك وإسرائيل ومصر والهند) ويستعد لاستقبال رئيسة وزراء بريطانيا قافزاً على أنغيلا مركل. وهو يتخذ التدابير لنسف الأمم المتحدة من خلال حجب الالتزامات المالية الأميركية، ما يؤثر جذرياً في عمليات حفظ السلام، لكنه في الدرجة الأولى ينسف النظام العالمي المبني على وجود مثل هذه المؤسسات. فماذا وراء ثورة دونالد ترامب وعلى مَن يشن الانقلاب؟ وهل هو قادر على إطاحة الديموقراطية والمؤسساتية الأميركية؟ ولماذا يريد ترامب أن يجعل الولايات المتحدة دولة انعزالية عالمياً وتواجه انقساماً داخلياً خطيراً قد يؤدي إلى حروب أهلية؟
في ذهن دونالد ترامب والذين يدعمونه عكس فحوى هذه الأسئلة والتساؤلات. إنه يريد أن يكون القائد الأعلى المفاوض كي تخدم الصفقة الأميركية مع دول العالم هدف تحويل أميركا إلى دولة متفوقة للغاية يرضخ أمامها الجميع. ترامب وداعموه يتكلمون بلغة «استعادة أميركا عظمتها مجدداً» بإجراءات تقلّص الآخرين، اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، وتؤدي بهم إلى الخضوع أمام العظمة الأميركية.
أهم سلاح في ترسانة دونالد ترامب لتنفيذ أيديولوجيته هم الرجال الذين يشبهونه وهم رجال الأعمال من أصحاب البلايين. البورصة الأميركية في «وول ستريت» تلبّيه حتى وهو في خضمّ معاركه الممتدة من الإعلام إلى الاستخبارات إلى النساء إلى الهنود الأميركيين إلى الجيرة في المكسيك إلى العمق الأميركي، إلى المسلمين الذين يحتاجهم في حربه على «داعش»، إلى الصين.
أبرز سلاح ضد دونالد ترامب هو نساء أميركا تدعمهنّ نساء العالم. التظاهرة الضخمة التي شارك فيها ملايين النساء والرجال في اليوم التالي لتنصيب ترامب رئيساً، إنما هي شهادة على العزم على تحديه وعدم السكوت عن تجاوزاته، لا سيما للحقوق الأساسية. الكونغرس لن يكون مشاهداً مندهشاً، بل هناك من الجمهوريين الغاضبين مما يفعله الرئيس الجديد، ما يجعل معارضة الديموقراطيين في الكونغرس أكثر تأثيراً. ثم هناك الإعلام الذي يخوض معركة علنية مع دونالد ترامب لربما لم يسبق لها مثيل. وهناك أيضاً القائمون على الحقوق المدنية ومفاهيم الالتزامات الدولية الذين تقشعرّ أبدانهم لدى سماع ترامب يتحدث عن جدوى التعذيب من أجل استنطاق المشكوك في اضطلاعهم بالإرهاب وغيره من الجرائم وأكثر.
هناك الرجال والنساء الذين طلب ترامب من الكونغرس التصديق على ترشيحهم لمناصب وزراء خارجيته والدفاع والأمن القومي والاستخبارات والعدل والاقتصاد والتمثيل لدى الأمم المتحدة والسفراء في العالم. هؤلاء ليسوا على الصفحة ذاتها كما الرئيس في مجالات عدة، من العلاقة مع روسيا، إلى نسف الاتفاق النووي مع إيران إلى بناء الجدار مع المكسيك، إلى إلغاء الاتفاقية التجارية، إلى الإصرار على تحدي الصين في أهم مسألة لها وهي الصين الواحدة، إلى منع المسلمين من الهجرة إلى الولايات المتحدة.
القيود التي خصَّ الرئيس ترامب المهاجرين من العراق وسورية بها، أثارت قلق العسكريين الأميركيين وليس فقط المدافعين عن اللاجئين والمهاجرين. إنها رسالة للذين يحاربون «داعش» وأمثاله في العراق وسورية تماشياً مع أولوية دونالد ترامب بأن لا تقدير لتضحياتهم ولا رغبة في استضافتهم ولا استعداد للترحيب بهم لمجرد أنهم مسلمون من مناطق الحرب على الإرهاب. وهذا سبب الهلع لدى العسكريين الذين يخشون تراجع حماسة المحاربين المسلمين ضد «داعش» و «القاعدة» وغيرهما من التنظيمات الإرهابية.
الإجراءات التي أمر بها ترامب نحو المهاجرين غير الشرعيين داخل الولايات المتحدة ويقارب عددهم 11 مليون شخص، تهدّد بنقمة داخل البوتقة الأميركية. ثم إن إسراعه إلى تشريع بناء أنابيب النفط التي لم يوافق عليها سلفه باراك أوباما وهما كيستون أكس إل، Keyston XL، وشمال داكوتا – يهدد باحتجاجات الهنود الأميركيين الأصليين الموجودين في مناطق الأنابيب. زد على ذلك، أن دونالد ترامب يتحدى المدن الكبرى التي يتهمها بإيواء المهاجرين غير الشرعيين ويهدد ضمناً بإرسال قوى الأمن الفيديرالية إليها. كل هذه أمور خطيرة تهدد بإشعال نقمة وفتنة أميركية قد تصل إلى حد الحرب الأهلية. فالمسألة في غاية الجدية.
فدونالد ترامب يعادي الداخل الأميركي ويعادي العالم، لكنه واثق تماماً من أنه يتحصّن بمزيج من الشعبوية المخلصة له، لأنه أخلص لتعهداته لها، والنخبوية البليونية التي تبدو حليفه الأول وهو حليفها. إنه مزيج جديد في المشهد الأميركي وهو قيد التجربة والامتحان. إنها لغة جديدة في قاموس المصالح الأميركية أبجديتها فن التفاوض على الصفقات على طريقة رجل التفاوض والصفقة دونالد ترامب. لعلها تنجح في تنصيب الولايات المتحدة الأميركية الدولة الأعظم والأقوى مطلقاً، وتأخذ العالم إلى منحى جديد كلياً. ولعلها تُقصي النفوذ الأميركي عالمياً وتمهّد لمن يحلّ مكانه فتصبح الصين القوة الاقتصادية ذات النفوذ السياسي الأكبر فيما ترسّخ روسيا مكانتها في النفوذ، فتحقق حلم الانتقام من أميركا عبر تفكيكها.
دونالد ترامب ليس مجرد ظاهرة لا مثيل لها في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. إنه يتحدى أميركا – والعالم معها – إلى إعادة اختراع ذاتها ويغامر بالاثنين معاً إما نحو جديد بنّاء لم يخطر على البال، وإما نحو تمزيق مرعب للولايات المتحدة والنظام العالمي بلا بديل وإلى فوضى وحروب وضياع.
راغدة درغام
صحيفة الحياة اللندنية