استطاع شاب لم يبلغ الأربعين من عمره، ومن دون ارتباطات تنظيمية أو أيديولوجية بأي من الأحزاب التقليدية القائمة في فرنسا، أن يهزم مارين لوبن، زعيمة «الجبهة الوطنية»، بالضربة القاضية، بحصوله على ما يقرب من ضعف الأصوات التي حصلت عليها المرشحة اليمينية المتطرفة في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية (66 في المئة مقابل 34 في المئة)، وأن يصبح بالتالي أصغر رؤساء الجمهورية سناً في تاريخ فرنسا. ولا جدال في أن وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه في اللحظة الراهنة جنّب فرنسا كارثة كبرى كان يمكن أن تلحق بها لو كانت مارين لوبن هي التي تمكنت من إحراز السبق في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. غير أن هذه الخطوة لا تكفي وحدها لوضع حد للأخطار التي تواجه فرنسا في المرحلة الراهنة، ولا تعني أبداً أن الطريق أصبح الآن ممهداً أمام الرئيس المنتخب لقيادة فرنسا نحو الوجهة التي يريدها. فما زالت أمام هذا الرئيس عراقيل عدة يتعين عليه أن يتخطاها قبل أن يصبح طليق الحركة، أهمها الانتخابات التشريعية التي ستجرى بعد شهر من الآن. وما لم يتمكن التيار الذي أسسه قبل عام واحد من الفوز بغالبية المقاعد البرلمانية فسوف ينتقل مركز ثقل السلطة التنفيذية إلى رئيس الحكومة التي سيتم تشكيلها عقب تلك الانتخابات، وهي حكومة يتعين بالضرورة أن تمثل الغالبية البرلمانية الجديدة. بعبارة أخرى يمكن القول إن ما كسبه ماكرون في انتخابات الرئاسة قد يخسر أغلبه في الانتخابات التشريعية، إذا خسرها تياره، وقد يتضاعف هذا المكسب عدة مرات إذا فاز فيها بغالبية مريحة.
للنظام السياسي الفرنسي سمات فريدة، تجعله يبدو أحياناً أقرب إلى شكل النظام الرئاسي الذي تتركز فيه معظم خيوط السلطة التنفيذية في يد رئيس الدولة، كما تجعله يبدو في أحيان أخرى أقرب إلى شكل النظام البرلماني الذي تتركز فيه معظم خيوط السلطة التنفيذية في يد رئيس الحكومة. وهذا التأرجح على شكل الغالبية البرلمانية وما إذا كانت مؤيدة للرئيس أو معارضة له. ولأن فترة ولاية الرئيس كانت حتى وقت قريب تختلف عن فترة ولاية البرلمان (7 سنوات للرئيس مقابل 5 للبرلمان)، فكثيراً ما تسببت الفجوة الزمنية بين الولايتين في إثارة العديد من العراقيل وزادت من فرص وصول غالبية برلمانية معارضة للرئيس أثناء فترة ولايته. وعلى رغم تمكن النظام الفرنسي «المختلط» من تجنب الأخطار الناجمة عن تلك الازدواجية، بنجاحه في تكريس صيغة للتعايش cohabitation بين رئيسيْ الدولة والحكومة في حال تباين انتماءاتهما السياسية، إلا أنه لم يتمكن من التخلص من عيوبها إلا بعد تعديل دستوري وحّد بين فترتي الولاية، بجعلها خمس سنوات في الحالتين، وفرض إجراء الانتخابات البرلمانية عقب الانتخابات الرئاسية مباشرة. ومع ذلك يتعين انتظار نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة لنتبين ما إذا كان هذا التعديل كافياً لحل المعضلة من جذورها واستقرار الطابع «شبه الرئاسي» للنظام السياسي الفرنسي في طبعته الراهنة.
كان بوسع النظام الذي أسسه الجنرال ديغول عام 1958 أن يتأقلم مع تقلبات مزاج الناخب الفرنسي، وأن يضمن استمرار التداول السلمي للسلطة بين أحزاب اليمين واليسار والوسط لفترة طالت لأكثر من نصف قرن واتسمت باستقرار نسبي على الصعيدين الأوروبي والعالمي. غير أن انهيار الاتحاد السوفياتي، من ناحية، وعجز الولايات المتحدة عن الهيمنة المنفردة على النظام العالمي، من ناحية ثانية، وتنامي ظاهرتيْ العولمة والإرهاب، من ناحية ثالثة، كل ذلك أصاب النظام العالمي وكذلك النظم الإقليمية الفرعية، ومنها النظام الأوروبي بتصدعات تحولت في الآونة الأخيرة إلى شروخ عميقة أصابت دولاً ومجتمعات عدة، بما فيها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وهي شروخ تعكس عمق الأزمة الشاملة التي يمر بها العالم أجمع في اللحظة الراهنة. وإذا كان وصول ترامب إلى البيت الأبيض يعد أحد تجليات رد الفعل الأميركي على هذه الأزمة الشاملة، فإن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي يعد أحد تجليات رد الفعل البريطاني، ووصول إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه يعد أحد تجليات رد الفعل الفرنسي على الأزمة ذاتها. فقد أسفرت الانتخابات الرئاسية الخيرة في فرنسا عن نتائج لها دلالات تعكس عمق هذه الأزمة، أهمها:
1- تضاؤل وزن الأحزاب التقليدية الكبرى، يميناً ويساراً ووسطاً، في الحياة السياسية الفرنسية، وحاجة المجتمع الفرنسي إلى حلول تنبع من خارج الأطر المؤسسية التقليدية وأيضاً من خارج الصناديق الأيديولوجية العتيقة. وستظهر نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة ما إذا كانت أزمة الأحزاب التقليدية الفرنسية الكبرى تمس الهياكل البنيوية للنظام وتعكس انفصام الحاضنة الشعبية عنها، أم هي مجرد أزمة ظرفية ناجمة عن افتقار هذه الأحزاب إلى كوادر تصلح للقيادة أو للزعامة على المستوى الوطني.
2- تزايد وزن اليمين المتطرف في معادلة السياسة الفرنسية، بدليل حصول مارين لوبن على أكثر من ثلث أصوات المشاركين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وللمرة الأولى في تاريخ الحياة السياسية الفرنسية. وستظهر الانتخابات البرلمانية المقبلة أيضاً ما إذا كان بمقدور «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة أن تقود المعارضة الفرنسية في المستقبل القريب، كما تدعي لوبن.
3- وجود فراغ سياسي وأيديولوجي كبير في الحياة السياسية الفرنسية يحتاج لمن يستطيع أن يملأه بقوة العلم وليس ببريق الأيديولوجيا، وهو ما نجح فيه ماكرون، خريج أرقى المعاهد الفرنسية في علوم السياسة والإدارة. وستظهر الانتخابات البرلمانية المقبلة في الوقت نفسه ما إذا كان التيار الذي أسسه ماكرون منذ عام واحد، وسماه «إلى الأمام»، قادراً على أن يلعب دور القاطرة في الحياة السياسية الفرنسية في المرحلة المقبلة، أم أن قوة الدفع التي حظي بها هذا التيار إبان حملة الانتخابات الرئاسية كانت لأسباب تتعلق بمزايا شخصية يتمتع بها إيمانويل ماكرون.
إن هذه الدلالات الثلاث لا تعكس فقط عمق الأزمة التي يمر بها المجتمع الفرنسي، وإنما تؤكد أيضاً وصول نظامه السياسي إلى مفترق طرق، ومن ثم لن يتمكن من تحديد وجهته النهائية إلا عقب الانتخابات التشريعية المقبلة، التي يعتقد أنها ستكون الأخطر في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة. فإذا استطاع تيار «إلى الأمام» أن يفوز بغالبية المقاعد البرلمانية، فسيكون بمقدور ماكرون أن يتحول من مجرد رئيس للدولة إلى زعيم للأمة وربما يصبح قادراً على إحداث تحولات نوعية في بنية الحياة السياسية الفرنسية قد لا تقل أهمية عن تلك التي أحدثها الجنرال ديغول عقب استدعائه لتولي زمام القيادة عام 1958 والعمل على إنقاذ فرنسا من المأزق الذي كانت حرب التحرر الوطني في الجزائر قد دفعتها إليه. وإذا كان التاريخ النضالي لديغول قد أتاح له أن يلعب دور منقذ فرنسا من حاضر استعماري تعيس كان الزمن قد تجاوزه، فربما يصبح شباب ماكرون وتفوقه العلمي هما الأمل القادر ليس فقط على إنقاذ فرنسا من شعبوية تهدد مستقبلها، وإنما أيضاً إنقاذ الاتحاد الأوروبي نفسه من احتمالات التفكك والانهيار. أما إذا فشل تيار «إلى الأمام» في الحصول على غالبية برلمانية مريحة، فالأرجح أن يصبح ماكرون مجرد بطة عرجاء لا تملك سوى المناورة والانتظار إلى أن يحين موعد تسليم السلطة لليمين المتطرف في أول انتخابات تالية.
بفوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة يكون ماكرون قطع نصف الطريق نحو إخراج فرنسا من أزمتها الراهنة، وبات عليه أن يتمكن من قطع نصف الطريق المتبقي، بالفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة، وإلا فسوف يتوه في سراديب الدولة الفرنسية العميقة، وربما يتم دفن حلم التغيير الذي أضاء في فرنسا لبعض الوقت، أو يجري ترحيله إلى أجل غير معلوم. وعلى أي حال فليس أمامنا سوى انتظار نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة في فرنسا قبل أن يكون بمقدورنا تحليل كامل أبعاد ودلالات ما جرى في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
د.حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية