خلال الأسبوع الماضي تمّ الإعلان الرسمي من قبل حزب الله وشبه الرسمي من خلال صفحات التواصل الاجتماعي القريبة من حزب الله عن سقوط عشرة مقاتلين لحزب الله من دون تحديد مكان سقوطهم، رغم تداول معلومات بين الناشطين على أنّ جزءا من هؤلاء سقط بمنطقة درعا من خلال صاروخ استهدف موكبا تابعا لهم فيما سقط جزء آخر خلال استهداف الطائرات الأميركية لموكب آخر على مثلث الحدود الأردنية السورية العراقية، عند معبر التنف عشية زيارة الرئيس الأميركي للرياض.
يعمد حزب الله في غالب الأحيان عند سقوط ضحايا له في ما يسمّى حرب “الواجب المقدس”، إلى اختيار إعلان سقوطهم والإعلان عن تشييعهم انطلاقا من حسابات سياسية واجتماعية، كأن يتفادى إصدار بيان رسمي يعلن من خلال وسائل إعلامه سقوط ضحايا له ويشرح من خلاله مكان وزمان سقوطهم، ويعمد إلى طرق ملتوية كأن يسرّب عبر صفحات التواصل الاجتماعي وبالتقسيط خبر سقوط أحد مقاتليه ويحدد فيه زمان التشييع ومكانه من دون أن يذكر المعركة أو الحادثة التي أدّت إلى سقوطه.
لم يقم حزب الله بالإعلان عن سقوط مقاتلين له بطريقة تشير إلى عدد يتجاوز الواحد أو الاثنين، بحيث يحسب المتلقي للخبر أنّه قتل وحده، وهذا أسلوب يمكن فهمه باعتباره وسيلة من وسائل إيصال خبر الفاجعة للجمهور العام بطريقة تستهدف لجم أيّ حالة اعتراض داخل البيئة الشيعية من جهة، ومحاولة ترسيخ مقولة أنّ الحروب الخارجية لحزب الله خارج سوريا لم تسبب خسائر كبرى من جهة ثانية.
وبمعزل عن نجاح هذه الوسيلة أو فشلها، ومن دون الدخول في حال اليأس التي تصيب بيئة حزب الله وتحول دون تحقيق أي انتصار في سوريا وغيرها من الدول العربية، ومن دون الخوض في الأفق المسدود الذي جعل بيئة حزب الله والبيئة الشيعية أسيرة استنزاف بشري وسياسي واقتصادي، بمعزل عن كل ذلك فإنّ سقوط عشرة ضحايا لحزب الله في مرحلة مستقرة نسبيا على الجبهة التي يقاتل فيها حزب الله والميليشيات التابعة لإيران، بعدما ثبت أن الحزب لم يبذل طيلة السنوات الخمس الماضية أي طلقة في مواجهة داعش، هذا ما جعل تساؤلات عديدة تبرز داخل البيئة الحاضنة للحزب عن طبيعة المعارك التي يخوضها وعن سبب سقوط هذا العدد من القتلى خلال أسبوع.
المواجهة التي بدأت ترتسم في الخارطة السورية تكشف وقائعها عن منطقتين مرشحتين لأن تكونا مسرحا لمواجهة مختلفة، ونقصد منطقة الجنوب السوري الممتد من دمشق باتجاه درعا والحدود الأردنية، والثانية هي منطقة الحدود العراقية السورية لا سيما تلك الممتدة في العمق السوري. الاهتمام الأميركي ينصب على هاتين المنطقتين، والهدف هو قطع التواصل من طهران إلى سوريا ولبنان، أو بمعنى أوضح قطع الهلال الذي سمته إيران هلال المقاومة والممانعة، أو الهلال الشيعي كما سمّاه العاهل الأردني عبدالله الثاني قبل سنوات.
في هذا التحدي المطروح على المشروع الإيراني في المنطقة العربية، ما يتجاوز الوسائل التي اعتمدها هذا المحور في مرحلة سابقة لا سيما على المستوى الميداني، أي أنّ الانفلات الإيراني، وانفلات حزب الله في سوريا الذي تمّ بغطاء أميركي وإسرائيلي في مرحلة مواجهة المعارضة السورية المسلحة، دخل اليوم مرحلة نزع الغطاء. وبالتالي يمكن القول إنّ الرسائل الأميركية منذ مطار الشعيرات حتى معبر التنف، تشير إلى أنّ قواعد اللعبة تغيرت، فما كان مسموحا به في قمع المعارضة السورية ليس متاحا في حال تجاوز الخطوط الحمر التي وضعتها واشنطن وأعلنتها بصريح العبارة أنّ مسألة النفوذ الإيراني في المنطقة العربية دخلت طورا جديدا تحدده واشنطن بالتنسيق مع حلفائها الذين اجتمعوا في الرياض قبل أسبوعين، وحزب الله في مقدمة أدوات هذا النفوذ.
حزب الله ليس من رواد الانتحار ولا المغامرة في تجاوز الخطوط الحمر الدولية ولا سيما تلك التي تقررها واشنطن، وهذا سلوك تفرضه المصالح الإيرانية بالدرجة الأولى، ولكنه في المقابل سيعمد إلى محاولة عرقلة الخطط الأميركية بوسائل شتى في مقدمتها محاولة القول للعالم الغربي. إنّ الخطر يكمن في الإرهاب السنّي وفي تنظيم داعش وأخواته وليس في الميليشيات الشيعية سواء تلك التي تقاتل دفاعا عن النظام السوري أو تلك التي تشرف عليها إيران في العراق.
حسمت إيران خيار المواجهة مع القوى المعادية لها عربيا وإسلاميا مقابل الحد من التوتر مع واشنطن، حيث لم نعد نسمع من القادة الإيرانيين أي رسالة تنطوي على استفزاز لواشنطن منذ وصول الرئيس الأميركي الجديد إلى سدة السلطة، بينما كنا نسمع بين الحين والآخر في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تهديدات لفظية أو استعراضات عسكرية، وصولا إلى التحرش بزوارق أميركية في مياه الخليج. إيران مهتمة هذه الأيام باستخدام وسائل مذهبية ضد السعودية وأمين عام حزب الله كان الأكثر صراحة في التأكيد على أن العدو هو السعودية، بل بشر بخروج الإمام الثاني عشر من مكة في رسالة تكشف بشكل مقصود أن أعداء الإمام المهدي هم ملوك الخليج، ولم ينبس ببنت شفة حيال أي عداء ضد الوجود الأميركي ولم يقل إن الإمام المهدي سيحرر فلسطين أو سيتخلص من الشيطان الأكبر، وهو الوصف الذي لم يعد يرد على ألسنة أتباع الأيديولوجيا الإيرانية منذ سنوات.
استثمار الهوية المذهبية واستغلالها هما ما يقدمهما المشروع الإيراني للمواجهة وللدفاع عن مراكز نفوذه في العالم العربي، وهو يعمد في نفس الوقت من خلال تعميق الشرخ مع البيئة العربية السنية الأكبر إلى القول لواشنطن وتل أبيب والعواصم الأوروبية إنّ مشكلتنا ليست معكم بل مع جهات إسلامية تصدّر الإرهاب وتعادي الغرب، فيما نحن ملتزمون بحماية المصالح الغربية والشاهد على ذلك أننا لم نمس هذه المصالح لا في المنطقة العربية ولا في بلادكم، فيما حافظنا إلى حد بعيد على الاستقرار على طول الحدود مع إسرائيل سواء في الجولان أو في جنوب لبنان.
على هذا الهدي يسير المشروع الإيراني، التهدئة على خط المواجهة مع واشنطن التي لم تتذمر من السياسة الإيرانية في مواجهة تنظيم داعش في العراق، وعلى هدي حفظ الاستقرار على الحدود مع إسرائيل، وعلى عدم التعرض للمصالح الأميركية، مع التذكير الدائم بأنّ المعركة ضد الإرهاب السني معركة واحدة على امتداد العالم.
السياسة الإيرانية ستكون حريصة على عدم التصادم مع واشنطن، وهذا ما يجعل من الميدان السوري ميدانا مفتوحا على احتمالات شتى. واشنطن بدأت بتعزيز نفوذها على الأرض السورية، وبدأت بتسليح جهات سورية تثق فيها بأسلحة متطورة، وهي إذ تدرك أهمية الجغرافيا السورية بالنسبة إلى إيران تعمل بوتيرة سياسية وعسكرية على محاصرة هذا النفوذ من خلال توجيه ضربات مباشرة للدفاع عن مناطق نفوذ لها في جنوب سوريا وفي شرقها وفي الوقت نفسه تختبر ردود الفعل على هذه الرسائل.
التحدّي الذي يواجه الطرفين اليوم هو في الحدود العراقية السورية مع اقتراب نهاية السيطرة الميدانية لتنظيم داعش، واشنطن تتجه إلى تقليم الأظافر الإيرانية ولعل الهدف الذي سيكون محل اختبار السياسة الأميركية هو حزب الله في سوريا.
ما يتداوله بعض الناشطين في بيروت ولا سيما أولئك القريبين من حزب الله أن الذين سقطوا في سوريا في الأسبوع الماضي سقطوا بصواريخ أميركية لا بانتحاريي داعش ولا النصرة ولا الجيش الحر، بانتظار ما سيتبلور في المشهد المقبل، فالكل بانتظار ما ستخلص إليه المعركة مع تنظيم داعش، حيث بات نفوذه مصدر طاقة وبقاء للعشرات من الميليشيات الإيرانية التي تدرك أن نهاية داعش عسكريا ستكون أشد عليها من وجوده.
علي الأمين
صحيفة العرب اللندنية