ثمة واقع متواصل يدمر حياة مئات الآلاف من الناس في الشرق الأوسط. ومع أن معظم الأميركيين يجهلون هذه الحقيقة، وأن العديد من أولئك الذين يجب أن يكونوا على علم بها ينكرونها، فإن المعاناة تتدفق مباشرة من قرارات اتخذتها واشنطن على مدار الأعوام السبعة والعشرين الماضية.
تم تقديم بعض حقائق هذه المسألة تواً في المؤتمر الأول لطب الصراعات العالمية، الذي عقد في جامعة بيروت الأميركية في الفترة ما بين 11-14 أيار (مايو) 2017. ولفت المؤتمر الانتباه إلى اثنين من التداعيات الخطيرة لسياسات الحرب التي انتهجها الأميركيون في المنطقة: مواد ذخائر تتسبب بالإصابة بمرض السرطان؛ ونشوء بكتيريا مقاومة للعقاقير.
الذخائر المتسببة بالسرطان: تم العثور على مواد مثل التونجستين (عنصر فلزي يتميز بأعلى درجات الانصهار بين الفلزات جميعاً) والزئبق، في أغلفة القنابل الخارقة التي استخدمت في حربي الخليج الأولى والثانية. ولهذه المواد آثار طويلة الأمد على الناجين، وخاصة أولئك الذين أصيبوا بجروح من هذه الذخائر. ويخشى الدكتور عمر الديواشي، عالم الأنثروبولوجيا الطبية المتدرب في العراق والمتعلم في هارفارد، من أن “الخط الأساسي لحالات السرطان (التي تظهر عند أولئك الذين يتعرضون لهذه المواد) أصبح عدوانياً جداً… عندما يكون لدى امرأة بعمر 30 عاماً، وليس لديها تاريخ عائلي مع السرطان، نوعان مختلفان من السرطان البدائي -في الصدر وفي المريء- عليك أن تسأل ما الذي يحدث”. ويمكن إضافة هذا إلى حقيقة أن الأطباء الآن “مرتبكون أمام العدد الهائل للمرضى من جرحى (الحرب) في الشرق الأوسط”.
البكتيريا مقاومة للعقاقير: طبقاً للبروفيسور المتدرب في غلاسكو، غسان أبو ستة، رئيس جراحة التجميل وإعادة البناء في المركز الطبي في جامعة بيروت الأميركية، فإن مقاومة العقاقير لم تكن مشكلة خلال الحرب العراقية الإيرانية بين العامين 1980-1988. ومع ذلك، وبعد الفشل الذريع للغزو العراقي للكويت، شرعت الأمور في التغير. ففي الفترة بعد العام 1990، عانى العراق من نظام عقوبات صارمة فرضتها عليه الأمم المتحدة في استجابة لإصرار الولايات المتحدة. وخلال الأعوام الاثني عشر التالية “سمح للعراقيين باستخدام ثلاثة أنواع من المضادات الحيوية”، وسرعان ما تطورت المقاومة البكتيرية لهذه العقاقير. وانتشرت تلك البكتيريا المقاومة للعقاقير في عموم المنطقة، خاصة بعد الغزو الأميركي للبلد في العام 2003.
اليوم، ووفقاً لتحليل منظمة أطباء بلا حدود، أصبحت “البكتيريا المقاومة لعقاقير متعددة مسؤولة عن معظم حالات عدوى جروح الحرب في عموم منطقة الشرق الأوسط، لكن معظم المرافق الطبية في المنطقة لا تتوافر حتى على السعة المخبرية لتشخيص البكتيريا المقاومة للعقارات المتعددة، مما أفضى إلى حدوث تأخير كبير وسوء إدارة سريرية للجروح المتقيحة”.
إلى البعد الذي تذهب إليه هذه التطورات، ليس الأمر أنها لا توجد عوامل مساهمة تنبع من أسباب محلية، مثل القتال بين الفصائل. ومع ذلك، فإن المحركات الرئيسية لهذه الحالات المرعبة وُضعت وتحركت من واشنطن. وعلى حد علمي، لم يقبل أي مسؤول أميركي يحتل مركزاً رسميا رفيعاً تحمل مسؤولية هذه المعاناة المتواصلة أبداً.
إخفاء الحقيقة
بينما يكبر عدد حالات السرطان والعدوى التي لا يمكن علاجها في الشرق الأوسط، ثمة جهد مُحبِط يجري هنا في الولايات المتحدة لإعادة تأهيل جورج دبليو بوش، الرئيس الأميركي الذي أسهمت قراراته وسياساته إلى حد كبير في التسبب بهذه الكارثة المتواصلة. إنه هذا البوش الذي شن الغزو غير المبرر للعراق في العام 2003 وبذلك -باقتباس كلمات الجامعة العربية- “فتح بوابات جهنم”.
بدأ جهد إعادة تأهيل جورج دبليو بوش على نحو جاد في نيسان (أبريل) من العام 2013 وتزامن مع افتتاح مكتبته الرئاسية. وفي مقابلة أجريت معه في ذلك الوقت، هيأ بوش المسرح لمجيئه الثاني بمرسوم استثناء الذات؛ فقال إنه ظل “مرتاحاً لعملية اتخاذ القرار” الذي أفضى إلى غزو العراق -القرار الذي شهده وهو يتجاوز المخابرات عندما لا تقول له ما كان يحب سماعه- وهكذا، فإنه أيضاً “مرتاح” بالتصميم النهائي على شن الغزو.
وقال بوش: “لا حاجة للدفاع عن نفسي. لقد فعلت ما فعلت، وفي نهاية المطاف، سيكون التاريخ هو الذي سيحكم”.
غني عن البيان الإشارة إلى أن هذا التأكيد العابث على أن “التاريخ سوف يحكم” غالباً ما يستخدمه أناس تتسم شخصيتهم بأنها موضع اشتباه. وتدلل لفظة “التاريخ” على وقت مستقبلي مبهم. ويسمح مجيئه المحتم المزعوم للبطل بأن يتخيل تحقيق مجد شخصي لا تتحداه المخاوف الأخلاقية الراهنة، التي عادة ما تكون مهمة.
يحب أولئك الذين يسعون إلى إعادة تأهيل جورج دبليو بوش الآن عقد مقارنة بينه وبين دونالد ترامب. ويتخيل المرء أنهم يأملون بذلك تصويره كجمهوري “معتدل”. وهم يزعمون بأن بوش كان حقاً رجلاً ذكياً وتحليلياً جداً، وليس الساذج المغفل الذي يظن معظمنا أنه يمثله.
بعبارات أخرى، على الرغم من شنه حرباً غير ضرورية والتي تبين أنها كارثية، فإنه لم يكن جاهلاً وخطيراً مثل ترامب أبداً. وهو يعتبر نفسه -كما يعتبره أنصاره- مدافعاً كبيراً عن الصحافة الحرة، مرة أخرى في تضاد مع دونالد ترامب. ومع ذلك، وعندما كان رئيساً، وصف بوش الإعلام بأنه مساعد ومشجع لأعداء الأمة. ومن المؤكد قراءة هذا على أنه موقف يوازي وصف ترامب للإعلام بأنه “عدو للشعب الأميركي”.
لكن كل هذا يشكل جزءاً من حملة علاقات عامة ويتحدث عن قوة إعادة تأطير السمعة -خلق واجهة تخفي الحقيقة. وحتى تفعل ذلك، فإن عليك أن “تسيطر على الدليل” -وفي هذه الحالة من خلال تجاهله. وفي هذا الجهد، تمتع جورج دبليو بوش والراغبون في تعزيز سمعته بتعاون الكثير من وسائل إعلام الاتجاه السائد. لا عجب هنا: فالصحافة فعلت هذا من قبل.
باستثناء المقالات الافتتاحية الغريبة التي أسهم بها إعلام الاتجاه السائد في إعادة تأهيل ريتشارد نيكسون وراء في أواسط الثمانينيات. وتعد هذه الأنواع من حيل المشعوذين ممكنة فقط على خلفية جهل عام مستشرٍ.
بيئات إعلامية مغلقة
عادة ما تكون التطورات المحلية مفتوحة أمام تحقيق مغلق نسبياً. وعادة ما يكون لدينا فهم دقيق للسياق المحلي الذي تجري فيه التطورات، مما يسمح بإمكانية صنع حكم منتقد. وبينما نتحرك بعيداً أكثر، في المكان والزمان على حد سواء، تصبح المعلومات أقل موثوقية، ولو لم يكن لأي سبب آخر سوى أنها تأتينا من خلال رعاية آخرين قد يعلمون أو لا يعلمون عما نتحدث.
إننا كمجتمع، لا نتوافر سوى على النزر اليسير أو ليس على أي معرفة بالسياق المتعلق بالتطورات الخارجية. وهكذا يكون من السهل بالنسبة لأولئك الذين يغطونها وضع “الفلاتر” وفق أي عدد من المعايير. ويكون ما يُترك لنا أخباراً معدلة -قصصاً مصممة لتناسب انحيازات سياسية أو أيديولوجية سابقة الوجود. وبهذه الطريقة، فإن الملايين فوق الملايين من العقول تكون مقيدة ببيئات معلومات مقفلة حول موضوعات تعزف غالباً على وتر الحرب وتداعياتها، من بين موضوعات مهمة أخرى.
وهكذا، ما هو المرجح أن يكون أكثر تأثيراً مع الجمهور الأميركي المؤهل محلياً: صورة جورج دبليو بوش معاد التأهيل التي غطيت مراراً وتكراراً في إعلام الاتجاه السائد للأمة، أم التداعيات الموجودة في الخارج والتي تنثر الرعب لأفعاله التي تتم تغطيتها فقط بشكل متفرق ومتباعد؟
ليس هذا المأزق أميركيا فريداً ولا هو أصلي لزماننا. لكن تداعياته الخطيرة تمثل حجة جيدة جداً أمام الجهل الحاضر في كل الأوقات، والذي يسمح للمجرمين السياسيين بأن يتلقوا إعادة تأهيل حتى لو فرضت جرائمهم على الآخرين استمرار المعاناة.
إذا استطاع المشتغلون بإعادة تصنيع السمعة أن يفعلوا هذا الشيء لجورج دبليو بوش، فسيكون ثمة القليل من الشك في أنهم سيفعلون الشيء نفسه ذات يوم لدونالد ترامب. والحياة، المليئة جداً بالمعاناة، مليئة أيضاً بمثل هذه الغرائب.
لورنس ديفيدسون
صحيفة الغد