لا تكاد تجلس في مطعم أو مقهى في بغداد حتى يتحلق حولك مجموعة من الصبية والفتيات الصغار، بعضهم يبيع العلكة أو المناديل الورقية وبضائع أخرى زهيدة الثمن، والبعض الآخر يطلب منك مبلغا من المال كي “يطعم أهله”. معظم هؤلاء الأطفال من المهجرين الذين اضطرتهم ظروف الحرب للنزوح إلى العاصمة هربا من المعارك الدائرة في مناطقهم، من بينهم الطفل سعد خلف البالغ من العمر سبع سنوات الذي نزحت أسرته من مدينة القائم غربي العراق، لتستقر في مخيم للنازحين ببغداد.يخرج سعد يوميا منذ الصباح الباكر حاملا معه بعض “السكاكر” ليبيعها للجالسين في المقاهي المتناثرة بمنطقة الأعظمية. أحيانا يستعطفهم لدفعهم إلى الشراء بالقول إن أمه تمنعه من العودة إلى المخيم قبل أن يبيع ما لديه من “بضاعة”.
وحالة سعد ليست فردية أو معزولة عن عالم الطفولة في العراق، فالآلاف من الذين هم في مثل عمره أصبحوا يهيمون على وجوههم في الشوارع ساعات طويلة كل يوم للحصول على مبالغ صغيرة لا تتجاوز بضعة دولارات تسهم في دفع غائلة الفقر عنهم، كما أنه والكثير من أقرانه لم يدخلوا المدرسة ولا يعرفون القراءة والكتابة.
ولعل شريحة الأطفال كانت الضحية الكبرى لكل حروب العراق وصراعاته، حيث بات الملايين منهم محرومين من الحياة الطبيعية بسبب النزوح وفقدانهم لذويهم ودمار مدنهم وقراهم، وما خلفه ذلك من فقر وأمية وتشرد.
أرقام ومخاوف
تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إن أكثر من خمسة ملايين طفل في حاجة ماسة للمساعدة في العراق، واصفة الحرب مع تنظيم الدولة الإسلامية بأنها “إحدى أشد الحروب وحشية” في التاريخ الحديث.
وتثير الأرقام الرسمية العراقية مخاوف الكثيرين حول مستقبل الطفولة في هذا البلد، حيث ترتفع نسب الأمية والفقر بشكل لافت بين اليافعين، ويقع بعضهم ضحية لعصابات التسول والسرقة والمليشيات.
وتكشف أرقام وزارة التخطيط العراقية أن الأطفال يشكلون ما نسبته 11% من الأيدي العاملة في السوق المحلية، وهو ما يعده الباحث الاجتماعي سيف الجنابي “مدمرا لمستقبل الطفولة في العراق”.
ويضيف الباحث أن سوق العمل تعج بمئات آلاف الأطفال المتسربين من المدارس، والذين يعملون في المعامل والحقول والمحلات والشوارع، فيما تحول البعض الآخر إلى متسولين أو باحثين عن الطعام والأغراض في مكبات النفايات، ويتعرض بعضهم إلى تحرش واعتداءات، يتم السكوت عنها غالبا خوفا من الفضيحة الاجتماعية.
ويقول الجنابي للجزيرة نت إن الأرقام الرسمية تظهر أن من بين ثمانية ملايين طفل عراقي في عمر الدراسة، هنالك مليونان لم يلتحقوا بالمدارس لعدة أسباب، منها نزوح عوائلهم أو انخراط بعضهم في سوق العمل، ولا يجد أغلبهم فرصا فيما بعد لإكمال دراستهم.
أما أعداد الأرامل والأيتام في العراق فقد بلغت 2.5 مليون شخص في إحصاء حكومي، دون أن تشمل هذه الأرقام محافظتي نينوى والأنبار، لكن منظمات محلية ودولية تعتقد أن أعداد هذه الشريحة في العراق تتجاوز هذا الرقم بكثير.
مخيمات ونزوح
وتظهر هذه المشاكل بشكل أكثر وضوحا في مخيمات النازحين، إذ يقول محمد عباس مسؤول مشروع “نينوى أولا” الإغاثي في أربيل شمال العراق أن الكثير من الأطفال هناك يعانون من الأمية أو انقطاع التعليم، فلا وجود للمدارس إلا في المخيمات التي أنشئت في بداية الأزمة مثل “ديبكة” و”الخازر”، أما الحديثة فلا توجد فيها مدارس.
وتحاول منظمات دولية إقامة مدارس بدائية على شكل خيم أو كابينات. ويضيف عباس للجزيرة نت أن الوضع المادي سيئ لجميع العائلات النازحة واحتياجات الأطفال أكثر من الكبار ولا يمكن تأجيلها، مثل التغذية الجيدة والعلاجات والمقويات والرعاية الصحية المتكاملة، ومعظم هذه الاحتياجات غير متوفرة.
ويرى الناشط الإغاثي أنه لا توجد حتى الآن خطوات حكومية جادة في إعادة التأهيل النفسي للأطفال الذين مروا بهذه الظروف الصعبة لتخليصهم من آثار الحرب والصدمات التي عاشوها في السنوات الماضية، رغم أن الحكومة أعلنت عن ذلك أكثر من مرة من دون أن يتحقق شيء من ذلك، فيما تحاول منظمات دولية تقديم برامج مثل هذه لكنها تبقى مجرد جهود فردية، وفقا لما يرى.
الجزيرة