بعد إطلاقها صاروخاً فوق اليابان يوم 29 آب (أغسطس) الماضي، عادت كوريا الشمالية إلى تهديد الولايات المتحدة، مدعية بأن استفزازها الأخير ما هو إلا توطئة لما ينتظر غوام. ومن المؤكد أن بيونغ يانغ تستمتع بتهديد أقوى بلد في العالم بقدراتها، النووية لكن الولايات المتحدة ستكون مخطئة ببساطة إذا افترضت أنها الهدف النهائي لتنمُّر كوريا الشمالية.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن كوريا شمالية مسلحة نووياً تعارض أهداف سياستها الأمنية والتقليدية، مثل منع انتشار الأسلحة النووية وزعزعة الاستقرار في منطقة شرق آسيا. أما بالنسبة لكوريا الجنوبية، فإن ذلك يشكل تهديداً وجودياً. وعلى ضوء تصاعد التوترات في الفترة الأخيرة، مؤخراً تخشى سول من جرها إلى حرب -أو، على الأقل، أن تقع ضحية اشتباكات عسكرية محدودة بين واشنطن وبيونغ يانغ.
في الأثناء، تواجه كوريا الجنوبية ثالوثاً من الضغوطات -من عدوها في الشمال؛ ومن حليفتها القوة العظمى عبر الأطلسي؛ ومن شريكها التجاري الأكبر، الصين. وما يزال الرئيس مون جاي إن، الذي لم يمض على تسلمه منصبه سوى ثلاثة أشهر، يتعامل مع التوترات بطريقة جيدة جداً. ففي الأسابيع الأولى من رئاسته، تبنى مون خطاباً أكثر نعومة تجاه دونالد ترامب المتقلب، فوافق تماماً على اقتراح الرئيس الأميركي بتعزيز التنسيق في التحالف، وفرض عقوبات أشد على بيونغ يانغ. وفاجأ الزعيم الكوري الجنوبي أولئك الذين افترضوا أنه سيكون -كزعيم معارضة ليبرالي مؤيد للانخراط- ليناً مع كوريا الشمالية.
ولكن، بعد أن أجرت بيونغ يانغ تجربة على صاروخ باليستي عابر للقارات في أوائل تموز (يوليو) الماضي، أكد مون أن الحاجة تمس إلى “أكثر من مجرد بيان”، ثم اقترح أن تجري سول وواشنطن تمريناً عسكرياً على إطلاق صاروخ قاطع للرؤوس، فيما يعتبر تحضيراً للقضاء على القيادة الكورية الشمالية العليا في حالة نشوب حرب.
لكن مون أصر أيضاً، عند تسلمه منصبه الرئاسي، على أن تعلق كوريا الجنوبية وتراجع خطة الانتشار الكامل للنظام الدفاعي الأميركي المضاد للصواريخ والذي يعرف باسم “ثاد” (محطة الدفاع عن المنطقة ذات الارتفاع العالي) والتي كانت قد بدأت أصلاً قبل رئاسته. ومد مون لنظيره الكوري الشمالي عدة أغصان زيتون، والتي تراوحت بين تقديم مساعدات إنسانية سخية وإجراء حوار عسكري لخفض التوترات الحدودية ولم شمل العائلات التي قسمتها المنطقة منزوعة السلاح. (وحتى الآن ترفض بيونغ يانغ كل العروض). وتهدف إيماءات مون إلى تجنب الموقف المتعالي المتمركز على الذات الذي تبنته الرئيسة السابقة التي أدينت بالتقصير وأطيح بها، بارك غيون هاي. وكانت بيونغ يانغ قد أدانتها بشدة وفسرت متابعتها التحضيرات لإعادة التوحيد على أنها تعني انهيارها أو احتواء كوريا الجنوبية له بشكل إجباري. ومع ذلك، تراجعت العلاقات الكورية الكورية إلى درك جديد خلال رئاسة بارك.
في آب (أغسطس) الماضي، بدأ مون بتشديد خطابه تجاه واشنطن، معلناً أنه لن يسنح بأن تتورط كوريا الجنوبية في حرب أخرى في شبه الجزيرة الكورية. وأعلن بجسارة أن أي عمل عسكري أميركي ضد كوريا الشمالية يتطلب موافقة كوريا الجنوبية عليه. وعلى الرغم من أن معظم القادة الوطنيين يحتفظون بالحق في تأكيد السيادة الوطنية، فإنه نادراً ما يكون الرؤساء الكوريون الجنوبيون صريحين على هذا النحو في أن يقولوا لواشنطن ما تفعله وما لا تفعله. وقد يأمل مون في أن يكون أكثر حسماً في التعامل مع كوريا الشمالية والولايات المتحدة على حد سواء من أجل تفادي الوقوع في شرك مبادرات كلا الجانبين.
يتناقض هذا معت موقف الإدارة السابقة التي مالت إلى انتظار واشنطن حتى تتولى القيادة. لكن مقاربة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما التي ارتكزت على فكرة “الصبر الإستراتيجي” جعلت الكوريين الجنوبيين حانقين ومتلهفين لانتهاج سياسة فعالة ضد كوريا الشمالية. ومن جهة أخرى، أوضح مون الآن أنه سيتبنى نهجاً حازماً من بيونغ يانغ، بينما يبقي الباب مفتوحاً أمام الحوار. ويوم 17 آب (أغسطس)، أعلن أنه سيضع “خطاً أحمر” لقدرات كوريا الشمالية النووية، وهو الأمر الذي لم يُظهر أي قائد عالمي إرادة لفعله. وفي كلمة له، شرح أن العتبة ستكون “استكمال تطوير صاروخ باليستي عابر للقارات والمقدرة على تسليحه برأس حرب نووي”. وسعى مون للتصدي إلى تهور ترامب من أجل منع اندلاع حرب وإبقاء الباب مفتوحاً أمام احتمال إجراء حوار كوري-كوري.
الذي قد يجعل مون أكثر فعالية في نهجه القائم على الموازنة بين الانفتاح والحزم يكمن في تحديث الجيش الكوري الجنوبي. وفي أواخر تموز (يوليو) وبعد سلسلة تجارب صواريخ لبيونغ يانغ، طلبت سول إجراء مباحثات مع واشنطن حول زيادة حجم الشحنة المتفجرة للصواريخ الكورية الجنوبية. ومن شأن تعزيز قوة صواريخها رفع مقدرة سول على تدمير التحصينات تحت الأرض أو المواقع النووية في كوريا الشمالية. كما تسعى سول إلى بناء غواصات نووية لموازنة تحسينات الشمال في مجال الصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات، والتي تشكل جزءاً من جهود بيونغ يانغ لتنويع ترسانتها النووية وزيادة مرونتها الاستراتيجية وخفض هشاشة أنظمتها الأرضية.
وفي وقت أقرب، فوض مون تولى قيادة وزارة الدفاع بتعزيز الاستعداد للحرب في حال وقوع هجوم أو توغل كوري شمالي. وتخدم دعوته من أجل إجراء إصلاحات دفاعية شاملة هدفين: إنها ستقوي موقف كوريا الجنوبية في مقابل كوريا الشمالية؛ وسوف تضعها في وضع أفضل لتتولى القيادة بدل الولايات المتحدة في حال اندلاع حرب. والمقصود من الهدفين زيادة سيادة كوريا الجنوبية وقيادتها لأمنها الخاص.
لعل أكبر تحدٍ يواجهه مون في اللحظة الراهنة هو التعامل مع الدعوات المحلية لتسليح كوريا الجنوبية نووياً عبر إعادة طرح بناء أسلحة نووية تكتيكية أميركية أو بناء ترسانتها الخاصة. وعلى الرغم من أن فكرة بناء أسلحة نووية تلقى الدعم عادة من المعارضة المحافظة، فقد أصبحت تكتسب جاذبية أوسع نطاقاً. وقد وجد مسح أجراه في أيلول (سبتمبر) من العام 2016 معهد غالوب أن 58 في المائة من الكوريين الجنوبيين يؤيدون تطوير ترسانة نووية تُبنى في الوطن، بينما عارضتها نسبة 34 في المائة فقط. ومع أن إدارة مون تعارض بشدة التسليح النووي، فإنها كانت أيضاً معادية لبرنامج “ثاد”، لكنها عدلت عن موقفها بعد ذلك، وسمحت بنشر كامل لهذا النظام الصاروخي.
في ضوء تجارب بيونغ يانغ الصاروخية وأجهزتها النووية وخطاب ترامب “أميركا أولاً” وعدم التساوق في السياسة الخارجية، من المرجح أن يزداد دعم الكوريين الجنوبيين لفكرة التسلح النووي. ومن شأن ذلك أن ينطوي على انتهاك للإعلان المشترك الخاص بعدم التسلح النووي في شبه الجزيرة الكورية، والذي وقعته سول وبيونغ يانغ في العام 1992. لكن الأخيرة كانت قد نكثت بوعدها أصلاً قبل عقود. وعلى الرغم من ذلك، فإن من شأن وجود ترسانة نووية كورية جنوبية تُبنى في الوطن أن يتسبب بسباق تسلح نووي في شرق آسيا، وأن يقود إلى انهيار المظلة النووية التي حافظت عليها الولايات المتحدة لأكثر من نصف قرن. كما أنها ستقضي على الأرضية الأخلاقية العالية لكوريا الجنوبية وتعطل المبرر السياسي للمطالبة بنزع السلاح النووي الكوري الشمالي. وحتى الآن، يستمر مون في تشديد موقفه. وبعد تجربة كوريا الشمالية الأخيرة، ردت سول بإطلاق ثمانية صواريخ في اتجاه حدود كوريا الشمالية، ونشرت صوراً لتجاربها الصاروخية الخاصة.
تضع المواجهة النووية مع كوريا الشمالية ضغطاً أيضاً على الاقتصاد الكوري الجنوبي الذي يعاني من مشاكل. ويشعر الشباب الكوري، على وجه الخصوص، باليأس بسبب عدم التوظيف والقلق حول ما إذا كان سيتمتع بمستقبل حيوي. وتجدر ملاحظة أن معدل البطالة بين أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 15-24 عاماً في كوريا الجنوبية شهد أعلى زيادة بين دول منظمة التعاون والتنمية في الفترة بين كانون الأول (ديسمبر) 2016 ونيسان (أبريل) 2017.
من ناحيتها تستخدم الصين، في سياق الاستفادة من الوضع، أدوات اقتصادية لمعاقبة سول على نشر صواريخ “ثاد”. وقدطلبت من مواطنيها مقاطعة المنتجات الكورية الجنوبية التي تصنعها الشركات الضخمة مثل هيونداي وكيا ومجموعة لوت، والتي استخدمت الحكومة الكورية أملاكها الأرضية في كوريا الجنوبية لإيواء نظام “ثاد” الصاروخي. ذكرت مجموعة لوت التسويقية أنها سجلت هبوطاً نسبته 88 في المائة في مدخولها من الصين في الربع الثاني مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي. وتأتي نسبة 30 في المائة من مبيعات مجموعة لوت خارج كوريا الحنوبية من الصين. وكان قد ذكر في أيلول (سبتمبر) الماضي أن المقاطعة الصينية المماثلة قد أضرت على نحو كبير بشركة هيونداي موتورز. وأفضى هبوط نسبته 41 في المائة في مبيعات الشركة في الشهور السبعة الأولى من هذا العام إلى إلحاق ضرر لحق بتدفق السيولة وتسبب بإقفال مؤقت لأربعة مصانع. وما تزال السياحة الصينية إلى كوريا الجنوبية محظورة، كما تم حظر المنتجات الثقافية المربحة من جانب واحد -من فن البوب إلى الحفلات الموسيقية الكلاسيكية. وقد خسرت كوريا الجنوبية 4.7 مليار دولار من دخل السياحة من الزوار الصينيين استناداً إلى أرقام العام 2016 .
لم يؤت الضغط الدولي على الصين لتفعيل عقوبات قاسية على بيونغ يانغ ثماره في إحداث أي تغير جوهري لإبطاء أو وقف تقدم القدرة النووية لكوريا الشمالية. ومع ذلك، تتسبب العقوبات الصينية غير الرسمية على كوريا الجنوبية في ألم اقتصاي فعلي للمجمعات المملوكة للعائلات وللرواد الثقافيين والعمال العاديين، في حين تظل العلاقات الدبلوماسية الجيدة مع بكين حساسة بالنسبة لإهداف سول الجيوسياسية والاقتصادية المحلية.
على الجانب الآخر من الباسفيكي، تبدو إدارة ترامب عاقدة العزم على الدفع بمطالبات تجارية أقسى على الصين وكوريا الجنوبية على حد سواء، بينما تحث كل واحدة منهما على التعامل بتعاون مع التحدي النووي القادم من كوريا الشمالية. ومن شأن هذا أن يضع كوريا الجنوبية على مسار صعب: يجب عليها الموازنة بين أولوياتها الأمنية والاقتصادية، بينما تحسن أيضاً العلاقات مع قوتين لا يمكن الاستغناء عنهما. وبالنظر إلى الأمر من هذه الزاوية، لا غرابة في أن الشمال، وقد أحس بافتقار إلى التضامن لدى أولئك الذين قد يكبحون جماحه، قرر في الأسابيع الأخيرة اختبار قوة التحالف.
كاثرين مون
صحيفة الغد