أين تكمن المعضلة في سعي اليابان للتحول إلى قوة كبرى

أين تكمن المعضلة في سعي اليابان للتحول إلى قوة كبرى

طوكيو – تعهد رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في الأول من يناير 2024، بأن تكون بلاده في صدارة الدول التي تنخرط في إدارة التفاعلات والقضايا الدولية، مؤكدا في كلمته بمناسبة العام الجديد أنه سيعمل على قيام اليابان بدور قيادي فريد عبر دبلوماسية القمة لتسوية التحديات التي تواجهها، ولاسيما إزاء الحرب الروسية في أوكرانيا والصراع بين إسرائيل وحركة حماس.

ومن جهة أخرى، أظهرت بيانات رسمية نُشرت في الخامس عشر من فبراير 2024، تراجع الاقتصاد الياباني على المستوى العالمي إلى المرتبة الرابعة لصالح ألمانيا التي جاءت في المرتبة الثالثة، مع توقع نجاح الهند في تجاوز كلتا الدولتين في وقت قريب خلال العقد الحالي.

وجاء في تقرير نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة أنه ما بين صعود جيوإستراتيجي على المسرح العالمي، وتراجع اقتصادي ملحوظ، يظل التساؤل مطروحا بشأن مكامن التحدي والصعوبات التي تواجه مساعي طوكيو للتحول إلى قوة كبرى مُؤثرة في عالم اليوم الذي يتجه نحو التعددية القطبية.

صعود اليابان على المسرح العالمي يرتبط بمدى قدرتها على التعامل مع التحديات الخارجية والداخلية العديدة

وشهدت السنوات القليلة الماضية، ولاسيما منذ تولي فوميو كيشيدا مهام منصبه كرئيس لوزراء اليابان في أكتوبر 2021، العديد من الملامح والمظاهر الدّالة على تنامي مكانة طوكيو على الساحة الدولية في مُختلف المجالات.

وأصدرت اليابان في ديسمبر 2022، إستراتيجية جديدة للأمن القومي، تضمنت إجراء أكبر مراجعة على سياستها الدفاعية وعقيدتها العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، بما يسمح لها بزيادة دورها في الدفاع عن النفس بالتعاون مع الولايات المتحدة، بجانب زيادة قدرتها على نشر قوتها العسكرية خارج حدودها.

وقد حددت الإستراتيجية ثلاثة تحديات أمنية رئيسية، يجب على اليابان تطوير قدراتها الدفاعية لمواجهتها، وهي: التحديث العسكري الصيني، والتهديدات النووية والصاروخية من جانب كوريا الشمالية، فضلا عن تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا.

وفي مواجهة هذه التحديات، قررت اليابان مُضاعفة الميزانية السنوية للدفاع إلى أكثر من 80 مليار دولار في غضون 5 سنوات، ما يجعلها ثالث أكبر دولة في العالم من حيث قيمة الميزانية العسكرية، بعد الولايات المتحدة والصين.

وتقوم اليابان منذ أكثر من نصف قرن بتقديم المساعدات الإنمائية الرسمية للدول النامية، وذلك بهدف تعميق علاقات الشراكة مع هذه الدول، وكذلك للمساهمة في تحقيق الاستقرار الدولي، وذلك من خلال الوكالة اليابانية للتعاون الدولي “جايكا”.

وأكدت اليابان في الكتاب الأزرق للدبلوماسية اليابانية الصادر في أبريل 2023، أهمية التعاون مع دول الجنوب العالمي، بهدف الحفاظ على النظام الدولي وتسوية القضايا العالمية.

وبناءً على ما سبق، شهد عام 2023، تناميا ملحوظا في وتيرة زيارات المسؤولين اليابانيين إلى دول جنوب الكرة الأرضية، والتي شملت زيارات إلى كل من المكسيك والبرازيل والإكوادور والأرجنتين وجزر سليمان وجزر كوك والهند ومصر وغانا وكينيا وموزمبيق وبيرو وتشيلي وباراغواي وباربادوس وترينداد وتوباغو. وقد سعت طوكيو من هذه الزيارات إلى طرح نفسها كبديل سياسي واقتصادي يتسم بالاستمرارية والثقة لدى دول الجنوب العالمي، والتي تشهد محاولات مكثفة من جانب روسيا والصين لتفعيل العلاقات معها.

وطبقا لمؤشر الدبلوماسية العالمية لعام 2024، الصادر عن معهد لوي للسياسة الدولية، في التاسع والعشرين من فبراير 2024، جاءت اليابان في المرتبة الرابعة عالميا، ضمن الدول التي تمتلك أكبر شبكة علاقات خارجية في عام 2023، وذلك بإجمالي 251 منصبا في الخارج، وذلك بعد كل من الصين (274)، والولايات المتحدة (271)، وتركيا (252) على الترتيب.

وفي مقابل التزايد الملحوظ في مكانة اليابان على الصعيد الجيوإستراتيجي العالمي، فقد شهدت طوكيو في الفترة الأخيرة تراجعا ملحوظا في أدائها الاقتصادي.

وأظهرت بيانات نُشرت في الحادي والعشرين من فبراير 2024، حدوث تراجع في الاقتصاد الياباني خلال الربع الأخير من عام 2023، على خلفية تراجع الطلب المحلي، ما جعله يتراجع إلى المرتبة الرابعة كأكبر اقتصاد في العالم.

ويتطلب سعي أي دولة إلى التحول إلى قوة كبرى مؤثرة في النظام الدولي الحالي، ضرورة اتجاه هذه الدولة إلى تعظيم قدرات وإمكانات القوة الشاملة لديها من جهة، ومن جهة أخرى إزالة التحديات والقيود التي تواجهها في سياق سعيها لتحقيق هذا الهدف، سواءً أكانت هذه التحديات والقيود نابعة من البيئة الداخلية أم كانت نابعة من البيئة الخارجية.

وبالنظر إلى الحالة اليابانية، نجد أن اليابان تعاني من وجود العديد من التحديات والعقبات الكبرى التي تواجهها في ظل مساعيها الدؤوبة نحو الصعود العالمي.

ويُعد تنامي دور ومكانة الصين في النظام الدولي الراهن أحد التحديات الكبرى التي تشكل قيدا على طموحات اليابان للصعود العالمي. إذ ترى طوكيو أن “الصين تمثل تحديا إستراتيجيا غير مسبوق لأمنها القومي ومصدر قلق لأمنها الإقليمي”. وإدراكا من اليابان لما تمثله الصين من تحد كبير أمام صعودها، عملت طوكيو على منافسة بكين في مناطق نفوذها في العديد من مناطق العالم، سواء في آسيا أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية.

وهناك العديد من العوامل الأمنية التي تمثل قيدا على طموحات اليابان للصعود العالمي، بما تفرضه من قيود على تحركات اليابان في القارة الآسيوية، لكونها تمثل تهديدا لأمنها القومي، ومن بينها التوترات المتزايدة في منطقة بحر الصين الجنوبي، واستمرار أزمة شبه الجزيرة الكورية دون تسوية، علاوة على أزمة تايوان، وتنامي التعاون الأمني والعسكري بين الصين وروسيا، وغيرها من التحديات المرتبطة بالأمن البحري في المنطقة.

اليابان تعاني من وجود العديد من التحديات والعقبات الكبرى التي تواجهها في ظل مساعيها الدؤوبة نحو الصعود العالمي

ويربط البعض نجاح اليابان في مواجهة التحدي الذي تمثله لها كل من الصين وكوريا الشمالية وروسيا، وما يمثله ذلك من معضلة كبرى لطموحها بالتحول إلى قوة كبرى، بامتلاك القوة النووية. إذ تمثل القدرات النووية للصين تهديدا متزايدا، كما تمتلك كوريا الشمالية ترسانة متزايدة من الأسلحة النووية، وتبدي نبرة عالية من العداء والتحدي تجاه جيرانها، فضلا عن أن “المظلة النووية” الأميركية التي أتاحت لليابان سنوات عديدة من السلام والازدهار تحت الحماية العسكرية لواشنطن تتآكل بشكل متزايد، وربما لا يمكن إصلاحها.

وتواجه اليابان العديد من التحديات الداخلية العميقة التي ربما تحد من طموحها للتحول إلى قوة كبرى في عالم اليوم، ومن بينها انخفاض عدد السكان، وتزايد فجوة التفاوت بين المواطنين اليابانيين، وعزوف الناخبين عن المشاركة السياسية.

وبالإضافة إلى وجود أكبر عدد من السكان المعمرين في العالم، والتراجع السريع في عدد المواليد، والدين العام الهائل، والكوارث الطبيعية المدمرة بشكل متزايد، والتي يغذيها تغير المناخ، بجانب انخفاض الأجور، وتفاقم عدم المساواة في الدخل، وجميعها تمثل تحديات عميقة الجذور. وهو الأمر الذي يتطلب “ضرورة النظر إلى هذه التحديات باعتبارها دعوة إلى الاستيقاظ لتسريع الإصلاحات الاقتصادية المهملة”، حسبما ترى الصحافة اليابانية.

وتمتلك اليابان العديد من إمكانات ومقومات القوة الشاملة التي تضعها في مصاف القوى الكبرى المُؤثرة في النظام الدولي الراهن، ولاسيما في ضوء الرؤى والأفكار الدبلوماسية التي طرحها رئيس وزرائها الحالي فوميو كيشيدا، والتي ترتب على تنفيذها أن أصبحت اليابان إحدى القوى الدولية ذات التأثير والمكانة المهمة على المستويين الإقليمي والعالمي.

ومع ذلك، فإن استمرار تأثير وصعود اليابان على المسرح العالمي يرتبط بمدى قدرتها على التعامل مع القيود والتحديات الخارجية والداخلية العديدة، التي قد تعوقها عن تنفيذ طموحاتها في تبوّء المكانة والدور المناسب لها، وعلى رأس هذه التحديات الصعود الصيني، وعدم الاستقرار الأمني في آسيا، فضلا عن تراجع الاقتصاد الياباني، والذي يُعد إصلاحه أحد العوامل الرئيسية التي ستحدد المكانة المستقبلية لليابان في عالم اليوم.

العرب