تسببت الصور القادمة من إسبانيا في نهاية الأسبوع الماضي بالصدمة للعالم -والكثير من الأسبان أيضاً. نعم، كان رئيس الوزراء، ماريانو راخوي، قد حذر بطريقة لا لبس فيها من أنه لن يسمح بمرور استفتاء كاتالونيا على الاستقلال. ولكن، وعلى الرغم من تصاعد التوترات قبل تصويت يوم الأحد، فإن القليلين توقعوا أن يروا سفكا للدماء، ناهيك عن حدوثه على هذا النطاق الكبير.
بحلول الوقت الذي انتهى فيه اليوم الفوضوي، كان ما لا يقل عن 840 شخصاً قد أصيبوا في اشتباكات دراماتيكية مع قوات الأمن الوطني المدججة بأدوات مكافحة أعمال الشغب. وقد تمكنت قوات الشرطة الوطنية والحرس المدني، المسلحة بالهراوات والدروع، من مصادرة الملايين من بطاقات الاقتراع وإبعاد الناس عن مراكز الاقتراع بالقوة. غير أن التصويت استمر. وضم الكتالونيون الذين تسيل منهم الدماء قواهم للوقوف ضد التكتيكات القاسية التي استخدمتها الحكومة المركزية، مطالبين بحق التصويت والعيش بعيداً عن وحشية الدولة.
إذا كان راخوي قد أراد منع كاتالونيا من مغادرة إسبانيا، فإنه ما كان ليستخدم تكتيكات يمكن أن تكون أكثر إنتاجاً للنتائج العكسية. ويمكن أن يفترض المرء بأمان أن عددا غير قليل من الكتالونيين الذين كانوا مترددين حول البقاء في إسبانيا، أصبحوا يعتقدون بعد الفوضى أن كاتالونيا يجب أن تسير في طريقها المنفصل عن بلد لا يسمح لها حتى بأن تتحسس نبضها الخاص حول الاستقلال.
ينبغي لبقية أوروبا، وبقية العالم أيضا، أن يشكروا إسبانيا على تقديم هذا الدرس المذهل عن كيفية سوء التعامل مع الحركات الانفصالية. ففي لحظة تشهد صعودا للاتجاهات القومية، عندما تتسبب سياسة الهوية وعدد كبير من التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية -وليس أقلها صعود الديماغوجية- في توليد قوى طرد مركزي، تقدم الإجراءات الهازمة للذات التي عرضتها الحكومة الإسبانية حكاية تحذيرية حية.
في السنوات القليلة الماضية، تضافرت عاصفة كاملة من القوى المختلفة لإعطاء حيوية جديدة للحركات القومية، التي سعى البعض منها إلى كسر الروابط الإقليمية مع الحكومات الوطنية. وكانت الأزمة المالية العالمية، ووصول أعداد كبيرة من اللاجئين، وتهديد الإرهاب، وازدياد التوترات الإثنية، عوامل تحفز الدافع نحو تدوير العربات القومية. وفي بعض الحالات، أصبحت أطروحات مثيري القلاقل والنعرات من الشعبويين أعلى صوتا. وطفت المظالم ومواطن الشكوى المشروعة إلى السطح. وكما أشار زيمو بويغ، رئيس منطقة فالنسيا الإسبانية، فإن هناك قدرا معينا من “كراهية الأجانب منخفضة الكثافة” و”التجاوزات الوفيرة من الديماغوجية” الآخذة في الانتشار.
تشعر مناطق مثل كاتالونيا، التي تعد محركا رئيسيا للاقتصاد الإسباني، بأنها تتعرض للاستغلال من الحكومة الوطنية. وللكتالونيين لغتهم الخاصة، ولهم تاريخهم الخاص. كما أن لديهم أيضاً تاريخ مشترك مع أسبانيا، وقدر كبير من الحكم الذاتي.
صحيح أنه تم الإعلان عن أن الاستفتاء غير قانوني، وأن الدستور الإسباني للعام 1978 يقول إن وحدة إسبانيا “سرمدية” لا تنفصم. ومن حق إسبانيا أن تقلق بشأن ما سيحدث إذا ما انفصلت كاتالونيا. فهي مكون حيوي للاقتصاد الوطني -و، نعم، للهوية الإسبانية أيضا. ويمكن أن تشجع مغادرة كاتالونيا الحركات الانفصالية الأخرى وأن تعرض خطر تفكيك الأمة.
ولم تكن لدى راخوي خيارات كبيرة، لكنه اختار الأسوأ من بينها بكل وضوح. ويراقب جيران إسبانيا ما يجري فيها عن كثب -كما ينبغي أن يفعلوا. فهناك في أوروبا الغربية وحدها حركات استقلالية تتطلع بتوق إلى انفصالها الخاص عن حكوماتها المركزية. وهي تراقب عن كثب أيضا.
في إقليم الباسك الإسباني، يشكل مصير كاتالونيا موطن اهتمام كبير. ولكن هناك عدداً لا حصر له من الآخرين الذين يتابعون الأحداث بحذر. من جزر فارو الدنماركية إلى فلاندرز المستقلة في بلجيكا، ومن كورسيكا الفرنسية إلى بادانيا الغنية في إيطاليا، تقوم المجموعات والمناطق في جميع أنحاء أوروبا بتقييم ما يجمعها وما يفصلها عن البلدان التي تنتمي إليها. فبعد كل شيء، تظل الدولة القومية اختراعا حديثا نسبيا. وكل مكان له تاريخه الخاص.
هذا عن مجرد أوروبا الغربية وحدها. لكن قوى الطرد المركزي التي تهدد بتفكيك وبلقنة البلدان القائمة تظهر بطريقة أكثر وضوحاً في أجزاء أخرى من العالم. فقد أجرى الأكراد في العراق استفتاءهم الخاص. (وبشكل لا يصدق، مر استفتاؤهم بطريقة أكثر سلمية من كاتالونيا، وكان قد أُعلِن أيضا عن أنه غير قانوني). وتتوق بلوشستان إلى التحرر من باكستان، وفي جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي السابق، ثمة عدد لا يحصى من المناطق التي تحلم بإقامة دولها الخاصة.
(ثمة حركات قومية منخفضة الكثافة توجد أيضاً في الولايات المتحدة، ولا ينبغي أن تفوِّت أميركا الدروس التي تعرضها إسبانيا).
إن الاختبار النهائي للنضج السياسي هو حل الصراعات من دون عنف. وقد فشلت إسبانيا في الاختبار. ومن المفارقات أن استطلاعات الرأي قبل الاستفتاء وعمليات التصويت السابقة أظهرت أن معظم الكتالونيين لا يحبذون الاستقلال. وأظهر استطلاع للرأى أجري في تموز (يوليو) أن 41 فى المائة فقط هم الذي يؤيدون ذلك، بينما اعترض عليه 49 فى المائة. لكن معظمهم أيدوا حقهم في التصويت على هذه المسألة.
يجب على إسبانيا أن تسلط الضوء على الطرق التي تستفيد بها كاتالونيا من كونها جزءاً من إسبانيا -وما يزال يتعين عليها أن تفعل ذلك. كما يجب عليها أن تناقش سبل معالجة مظالم المنطقة.
كشف الاستفتاء الكتالوني عن ميل الأغلبية الساحقة المتوقع نحو التصويت بـ”نعم” من أجل الاستقلال. لكن نسبة المشاركة في التصويت كانت أقل بكثير من 50 في المئة، وبالتالي، فإن معظم الكتالونيين لم يعطوا دعمهم.
ومن جانبه، قال الرئيس الإقليمي الكتالوني، كارليس بويغديمونت، إنه لا يبحث عن مخرج صادم، وهو يدعو الآن إلى الوساطة الدولية. ويبدو أنه يعطي بذلك لمدريد فرصة لتصحيح خطئها. ويجب على العالم أن يراقب ويتعلم من خطأ إسبانيا الخطير.
فريدا غيتيس
صحيفة الغد