أوروبا بلاد الأقليات أيضا. فلا يكاد يخلو بلد في القارة العجوز من أقلية دينية أو عرقية أو لغوية، والدساتير التي ارتضتها تلك الدول لبلادها جعلت المساواة في المواطنة مادة أساسية، لا يكاد دستور يخلو منها. لكن القانون على الورق شيء والممارسة على أرض الواقع شيء آخر. لقد ظل التمييز ضد الأقليات متواصلا عبر القرون. وما حدث لليهود والغجر والمسلمين غيض من فيض. وما أن انتهت الحرب الباردة التي كانت سيفا مشرعا يخيف دول أوروبا، حتى بدأ العقد الاجتماعي الداخلي يتصدع من كل جانب. ولا أعتقد أنه توقف عند انفراط عقد الاتحاد السوفييتي أو يوغسلافيا أو تشيكوسلوفاكيا أو جورجيا أو أذربيجان أو أوكرانيا، بل يكاد يجرف سكوتلندا وإيرلندا وبلجيكا واسبانيا.
لقد بذلت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة جهدا كبيرا لتفتيت بلادنا إلى مكوناتها العرقية والدينية، لكن بيوتهم من زجاج هم الآخرون. ولو أن تلك الدول تمر في ضائقات اقتصادية وتوترات داخلية لتناثر عقدها وانفرط حبلها واحتمت كل أقلية بمنطقتها الجغرافية، وأغلقت أبوابها أمام ظلم الأكثرية. والنموذج الأقرب إلى هذا التوجه هو اسبانيا، وما حدث فيها مؤخرا بعد الاستفتاء الذي جرى في كاتالونيا، وهو ما سأسلط عليه الضوء في هذا المقال.
اسبانيا والجروح القديمة
اسبانيا اسم جميل عند العديد من الشعوب العربية بسبب مواقفها المؤيدة تاريخيا للحقوق الفلسطينية وتأخر اعترافها بإسرائيل لغاية عام 1986 وبعد أن اعترفت بعض الدول العربية أولا بذلك الكيان المسخ. كما أن قلوبنا ما زالت ترق وعيوننا تدمع عندما نتذكر الأندلس والحضارة العظيمة التي أقامها أجدادنا هناك، وما لحق بالمسلمين من تنكيل وقتل وحرق عبر محاكم التفتيش، بعد انهيار آخر ممالك العرب في غرناطة. لقد أوجعنا اعتذار اسبانيا لليهود السفرديم، الذين أيضا وقعوا ضحايا لحرب الاسترداد، بسبب علاقتهم وانصهارهم مع المسلمين. فبينما عرضت اسبانيا على اليهود الذين طردوا من هناك حق استرداد الجنسية الاسبانية، إلا أنها لم تعط الحق نفسه للمسلمين، الذين تعرضوا لأضعاف ما لحق باليهود، وبعضهم في المغرب ما زال يحتفظ بمفاتيح بيوتهم في الأندلس، يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد.
لكن الجرح الأكبر الذي ما زال ينزف دما في علاقات أمتنا مع اسبانيا هو احتلال المدينتين المغربيتين سبتة ومليلية وشريط من الريف المغربي والجزر الجعفرية غير المأهولة. ومع أن الحكومة المغربية لا تبذل جهدا لاستعادتهما لأسباب لا أريد الخوض فيها الآن، ولا تتذكرهما إلا في الكلمة السنوية التي يلقيها وزير خارجية المغرب في الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر من كل عام، إلا أن وجدان الشعب العربي الأصيل في المغرب، لم ولن ينسى مدينتيه العزيزتين اللتين احتلتا ظلما وقهرا منذ القرن السادس عشر. والنفاق الاسباني يتمثل في مطالبتها بريطانيا بإعادة جبل طارق إلى سيادتها، واعتباره أرضا محتلة، بينما لا تستعمل المعيار نفسه على المدينتين المغربيتين، بل ودفعت العديد من الإسبان للتوطن فيهما لتغيير التركيبة الديموغرافية.
اسبانيا تتكون من عدة ملل ونحل. وقد قامت حركة انفصالية مسلحة عام 1959 (تعرف باسم إيتا) في إقليم الباسك في الشمال على حدود فرنسا، ويزيد سكانه عن المليونين، لكنها عجزت عن تحقيقه بعد تصنيفها حركة إرهابية من جهة، ومنح الإقليم حكما ذاتيا موسعا جدا منذ عام 1978 لامتصاص نقمة السكان على التمييز المتجذر ضدهم، من جهة أخرى. وقد أوقفت «إيتا» نشاطها المسلح تماما عام 2011 وحلت نفسها عام 2018. لقد حاول الإقليم أن يتمرد مرة أخرى عام 2003 على الحكم الذاتي، إلا أن الحكومة المركزية نشرت فيه رجال الأمن والشرطة بشكل كثيف يعتبر الأعلى نسبة إلى السكان في كل أوروبا الغربية.
كاتالونيا ومحاولة الانفصال
كاتالونيا أغنى إقليم في اسبانيا، وبرشلونة ثاني أكبر مدن اسبانيا وسادس مدينة أوروبية يسكنه نحو ثمانية ملايين. وقد أقر الدستور أن كاتالونيا جنسية منفردة وليست اسبانية، ومنحت الحكم الذاتي في عهد فرانكو عام 1932 ثم تمت مراجعته وتوسيعه عام 1979 وعام 2006. لكن رغبة الإقليم بالانفصال قديمة، ولم تختف أبدا منذ قيام أول محاولة جادة عام 1921، لكنني سأركز على ما حدث من تطورات بعد استفتاء الاستقلال الأخير عام 2017. لقد تابعت الحملة الإعلامية الكبرى حول الاستفتاء الذي جرى في الإقليم في الأول من أكتوبر 2017 حول استقلال الإقليم عن اسبانيا. وقد حصل مؤيدو الانفصال على نسبة 92% من الأصوات. قام رئيس الإقليم، كارليس بوجيمونت، بعد يومين من الاستفتاء بالإعلان عن نيته التقدم نحو الانفصال والاستقلال التام. وبالفعل قام البرلمان الكاتالوني بإعلان استقلال كاتالونيا وانفصالها عن اسبانيا يوم 27 أكتوبر 2017 حيث صوت 72 نائبا لصالح الاستقلال من بين 135 عضوا، أي أكثر من النصف.
اسبانيا، من جهتها، رفضت الاستفتاء بقوة واعتبرته إجراءً غير قانوني وانتهاكا للدستور، ونشرت الحرس الوطني في كافة المدن الكاتالونية واستخدمت القوة المفرطة ضد المشاركين في الاستفتاء وأغلقت العديد من المراكز. واعتقلت العديد من الناشطين، وأصدرت مخالفات وأوامر بالاعتقال لأكثر من 700 ناشط بسبب المشاركة في الاستفتاء، أو المساهمة في تنظيم مراكز الاقتراع، أو إحضار المواطنين للمشاركة. وقامت الحكومة بحل البرلمان الكاتالوني واعتقال عدد كبير من القيادات وأودعهتم السجن، بتهمة التمرد التي تصل عقوبتها من 15 إلى 30 سنة سجن. أما الرئيس بوجيمونت فقد فر إلى بلجيكا ومعه خمسة من قيادات الاستقلال وما زالوا في المنفى.
المحاكمة
لقد أثارت محاكة قيادات الإقليم الـ 12 التي بدأت يوم 12 فبراير اهتماما عالميا، باعتبارها اختبارا للديمقراطية المنقوصة، كما قالت لي الصحافية الكاتالونية الناشطة إريكا كاساخونا، التي تعيش في المنفى البلجيكي أيضا، والتي شرحت لي بشيء من التفصيل عن المظالم والتمييز اللذين يعاني منهما الشعب الكاتالوني. «الدستور المركزي لا يوجد فيه ما يخول رئيس المحكمة الدستورية حل برلمان كاتالونيا»، قالت. لقد تحولت حركة استقلال الإقليم الآن إلى حقيقة ثابتة. الحركة التي بدأت عام 1921 تحولت منذ عام 2010 إلى حركة جماهيرية عارمة، وأصبحت قضية دولية بامتياز، ولم تعد اسبانيا قادرة على طمس هذه الحركة التي تستقر في قلوب الملايين من سكان كاتالونيا، التي تعتبر سلة الخبز لكل اسبانيا. «نحن لا نحتاج اسبانيا، بل العكس هو الصحيح»، لقد استغل النظام المأزوم اقتصاديا وسياسيا في مدريد استفتاء الاستقلال في كاتالونيا ليصدر أزماته للخارج، كما شرحت لي إريكا.
القمع يولد الغضب والاستعداد للتمرد، وتضييق حرية التعبير وحرية التجمع وصفات لمزيد من التحرك الجماهيري
إن الذي يجري في كاتالونيا ومحاولة الحكومة الاسبانية إلصاق تهمة التمرد بالمتهمين، التي تعتبر جريمة كبرى قد تصل عقوبتها إلى 30 عاما في السجن، لن تضعف حركة الاستقلال، بل ستزيدها حدة وانتشارا. فالقمع يولد الغضب والاستعداد للتمرد، وخنق الحريات وتضييق حرية التعبير وحرية التجمع، وصفات لمزيد من التحرك الجماهيري. فلا شيء يحرك الأقليات إلا الشعور بالغبن والظلم والتهميش والاضطهاد. السر في البقاء أو الانفصال يتلخص في العدل أو الظلم. فكلما كان الظلم والقهر والاضطهاد وكتم الأفواه والتعذيب والفساد والاستئثار والتهميش، هي الصفات العامة لنظام الحكم، بدأت عوامل التمرد والانتفاضة والثورة تتجمع بانتظار اللحظة الحاسمة، والعكس صحيح، فكلما ساد العدل وتحققت المساواة وثبتت سيادة القانون وتساوى الناس في الحقوق والواجبات، وفتحت الفرص المتكافئة أمام الجميع ووجدت الأقليات فرصة لها للتعبير عن ثقافتها، واستندت إلى قانون يحميها وأتيحت لها فرص التقدم والإبداع والإنتاج، من دون خوف من اضطهاد أو تهميش أو مصادرة، تعزز الانتماء للوطن وانتفت الأسباب التي تدعو الجماعات العرقية أو الدينية للتمرد والعصيان وحمل السلاح ضد نظام الحكم. فهل يتعلم حكام العرب هذا الدرس السهل؟
القدس العربي