على مدى أشهر، لم يتكلف الرئيس ترامب عناء إخفاء رغبته في تمزيق أحد أهم الإنجازات التي حققتها إدارة أوباما في مجال الأمن القومي: الاتفاق النووي مع إيران، المعروف رسمياً باسم خطة العمل الشاملة المشتركة.
هاجم السيد ترامب الاتفاق مراراً خلال حملة العام الماضي. وبمجرد أن أصبح في البيت الأبيض، تطلب القانون الأميركي أن يشهد الرئيس أمام الكونغرس كل 90 يوماً بأن إيران تمتثل لشروط الاتفاق. ولكن، لا تستطيع حتى علاقة السيد ترامب العدائية مع الحقيقة أن تلغي حقيقة أن إيران تمتثل -كما قررت مرة بعد المرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومجتمع الاستخبارات الأميركي، وأقرب حلفائنا الأوروبيين. وقد وجد السيد ترامب أن من المثير للجزع أن يشهد -وليس مرة واحدة، بل مرتين- بأن الصفقة التي وصفها بأنها “الأسوأ على الإطلاق”، وبأنها “مبعث حرج”، إنما تعمل في الحقيقة بشكل جيد.
ولذلك، فإن السؤال الوحيد المتبقي هو كيف يبرر السيد ترامب الانسحاب من الصفقة. والآن أصبحنا نعرف. ففي بيان بائس في البيت الأبيض يوم الجمعة، سرد السيد ترامب مجموعة طويلة من الأعمال الإيرانية، من أزمة الرهائن في العام 1979 وحتى اليوم، باعتبارها الأساس لضرورة حرمان الحكومة في طهران من الحصول على الأسلحة النووية. وقد جلب ذلك للرئيس معضلة منطقية، لأن هذا هو بالضبط ما ينجزه الاتفاق النووي، ولوقت جيد في المستقبل. وللتغلب على هذه المعضلة، كان السيد ترامب مراوغاً ومخادعاً بشأن الصفقة –جامعاً بين المعلومات الخاطئة والتحريفات والتشويهات- من أجل حياكة المعيار الوحيد غير الموضوعي مطلقاً لعدم الشهادة بالامتثال حسب قانون المراجعة كل 90 يوماً: التأكيد على أن الخطوات النووية التي تتخذها إيران فعلاً لتطبيق (خطة العمل الشاملة المشتركة) غير كافية لتبرير تعليق العقوبات.
بدأ السرد الكاذب للسيد ترامب بكذبة كبيرة: أن إدارة أوباما رفعت العقوبات “بالضبط قبل ما كان يمكن أن يكون الانهيار التام للنظام الإيراني” -وهو تأكيد دأب على تقديمه أصحاب الفكر المتمنِّي في واشنطن كل عام على مدى العقود الأربعة الماضية. بل على النقيض من ذلك، ففي حين نجحت العقوبات في الضغط على النظام بما يكفي لإعادته إلى طاولة المفاوضات، أصبح من الواضح أن هذه العقوبات لم تتمكن من كسره.
من المؤكد أن النظام الإيراني بالغ المقاومة والمرونة. فقد خاض حرباً استمرت ثمانية أعوام مع العراق لتكون نتيجتها التعادل، رغم فقدان مئات الآلاف من الأرواح؛ كما أنه نجا وظل على قيد الحياة بعد عقود من العزلة الدولية.
وفي الوقت نفسه، استثمرت طهران كبرياءها الوطني وحوالي 100 مليار دولار في برنامجها النووي. ولم يكن النظام على وشك التخلي عن تلك الاستثمارات، على الرغم من أن العقوبات الدولية التي بنتها إدارة أوباما بشق الأنفس كانت تكلفه نحو 150 مليار دولار. وفي واقع الأمر، فإن إيران كانت في وقت التفاوض على الاتفاق النووي على عتبة أن تصبح دولة نووية، مع القدرة على إنتاج ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع سلاح في غضون أسابيع. وقد عملت خطة العمل الشاملة المشتركة على دفع “وقت الاختراق” ذاك لأكثر من عام.
بعد ذلك، طرح السيد ترامب الإشاعة الزائفة القائلة بأن الصفقة النووية منحت إيران “أكثر من 100 مليار دولار يمكن أن تستخدمها حكومتها لتمويل الإرهاب”. ولا تهم حقيقة أن الأموال المعنية هي في الواقع نقود إيران -عائدات مبيعات النفط التي كانت قد جمدتها بلدان في جميع أنحاء العالم في حسابات مصرفية بناء على طلب الولايات المتحدة- أو حقيقة أنه تم تكريس كل هذه الأموال تقريباً لتلبية الاحتياجات المحلية غير الملباة، وسداد الديون ودعم العملة الإيرانية.
وفيما يتعلق بالالتزامات النووية الإيرانية بموجب الاتفاق، أكد السيد ترامب: “لقد حصلنا على عمليات تفتيش ضعيفة في مقابل ما لا يزيد على مجرد تأخير قصير الأجل ومؤقت في مسار إيران إلى امتلاك قنبلة”. وسوف تكون هذه أخباراً بالنسبة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تستفيد الآن من نظام التفتيش والرصد الأكثر تطفلاً وشفافية في تاريخها على الإطلاق. وتتراوح أحكامه الرئيسية بين 20 و25 عاماً، وبموجب البروتوكول الإضافي الذي تلتزم إيران باعتماده بموجب الاتفاق، فإن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تمتلك الحق في الوصول إلى المواقع الإيرانية المعلنة وغير المعلنة إلى الأبد، بما في ذلك المنشآت العسكرية الإيرانية.
وماذا عن ذلك التأخير “القصير الأجل” في سباق إيران إلى قنبلة؟ تجاهل السيد ترامب حقيقة أنه على الرغم من أن بعض القيود المفروضة على قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم ستختفي في غضون 10 أو 15 عاماً، فإن البلد ممنوع بشكل دائم بموجب معاهدة عدم الانتشار من حيازة سلاح نووي أو القيام بأي أعمال ونشاطات تتصل بالأسلحة. وإذا تحركت إيران في هذا الاتجاه بالرغم من ذلك، فسوف تكون لأي رئيس أميركي مستقبلي، بفضل نظام التفتيش، فرصة أكبر لرؤية ذلك وهو يحدث، ومجتمع دولي موحد لمواجهته –وهما شيئان ستخسرهما الولايات المتحدة إذا تراجعت عن الصفقة.
والآن، بعد أن رفض السيد ترامب الشهادة على امتثال إيران للاتفاق النووي، أصبح أمام الكونغرس 60 يوماً لاتخاذ قرار بشأن إعادة فرض العقوبات. وقد دعا السيد ترامب الكونغرس وحلفاء أميركا إلى استخدام هذا الوقت “لمعالجة العديد من العيوب الخطيرة في الصفقة”. وقال إنه في حال لم يحدث ذلك، فإنه “سيتم إنهاء الاتفاق”.
بكلمة “معالجة”، يعني السيد ترامب إصدار تشريع لفرض شروط جديدة على إيران خارج نطاق الاتفاق النووي، وتوسيع القيود المفروضة عليها إلى أجل غير مسمى. ومن شأن ذلك أن يضع الولايات المتحدة، وليس إيران، في موضع انتهاك الاتفاق، وأن يؤدي إلى عزل واشنطن، وليس طهران، في جميع أنحاء العالم. ومن شأن ذلك أن يسمح لإيران باستئناف مساعيها للحصول على أسلحة نووية أو التمسك بالاتفاق من أجل الحفاظ على فوائده الاقتصادية، مما يجبر الولايات المتحدة على فرض عقوبات على أقرب حلفائها بسبب ممارسة الأعمال التجارية مع طهران. كما أن من شأنه أن يوفر هدية للمتشددين الإيرانيين في صراعهم مع البراغماتية، حين يستطيعون الاحتجاج بـ”لقد قلنا لكم ذلك”. ومن شأنه أن يكبل، لا أن يطلق، قدرة السيد ترامب على إقناع الآخرين بالموافقة على استراتيجيته الأوسع للتصدي للعدوان الإيراني. وعلى نطاق أوسع، من شأنه أن يقوض مصداقية أميركا -وقدرتها على إبرام الاتفاقيات التي تجعل البلد أكثر أماناً في المستقبل.
يجب على الكونغرس أن يقاوم الإغراء -والضغط السياسي- الرامي إلى إعادة التفاوض من جانب واحد على الاتفاق الإيراني، وبالتالي قتله. وبدلاً من ذلك، قد يكون من المفيد عمل ما لم يقله خطاب ترامب: وضع استراتيجية شاملة حقيقية للتعامل مع سلوك إيران غير النووي، بما في ذلك بذل الجهود الدبلوماسية لإنهاء الصراعات في اليمن وسورية والعراق التي تستغلها إيران؛ وتعزيز التعاون الأمني مع دول الخليج وإسرائيل؛ والعمل على تنسيق أفضل مع حلفاء أميركا؛ وفرض عقوبات محددة ومستهدفة على إيران، والتي لا تنتهك بنود الاتفاق النووي. وخلافا لقرار السيد ترامب بعدم المصادقة على امتثال إيران، فإن ذلك سيكون إسهاماً حقيقياً في صيانة أمن أميركا.
أنتوني جيه. بلينكن
صحيفة الغد