سقطت «القبة الحديد» التي كانت تظــــلل لبنان طوال السنوات الست الماضية. بات في قلب الصراع الإقليمي. بل في الصف الأمامي تتنازعه مشاريع إقليمية ودولية يخوض أصحابها مواجهات بالوكالة أو مباشرة في معظم الخريطة العربية. أُعيد زجـــه في خط المواجهة. فيما يكثر الحديث عن حرب واسعة يتجاوز مسرحها البلد الصغير إلى سورية والعراق. لعلها تعيد تحريك عجلة الديبلوماسية التي تعاني استعصاء ومآزق عدة، على وقع المدافع والصواريخ. بين ليلة وضحاها وجد لبنان نفســــه بلا غطاء، على رغم ما يبديه سياسيّوه من حرص على الوحدة والأمن والاستقرار. بات على خط النار كأنه مقبل على حرب كبرى. فهنا حدوده مع إسرائيل من جهة، وهناك كيفما نظر تبدو إيران في كل مكان، من جنوبه إلى خارج حدوده شمالاً وشرقاً من الجولان إلى العراق حيث تتزاحم قوى كبرى وأقوام من شتى المذاهب والطوائف. ما يثير المخاوف من اندلاع هذه الحرب سيل من التصريحات والتهديدات، هذا الاهتمام الدولي الواسع بالتداعيات التي خلفتها استقالة سعد الحريري من رئاسة الوزراء. فيما كانت بيروت تستعد للتعامل مع العقوبات التي فرضها الكونغرس الأميركي وبعض الدول الخليجية على «حزب الله»، في إطار استراتيجية لمواجهة الجمهورية الإسلامية. الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عبّر عن قلقه إزاء التوترات المتصاعدة. وحذر من «صراع جديد في المنطقة»، لأنه «يمكن أن يسبب تبعات مدمرة». ووزير الخارجية الأميركي ريكس تليرسون حذر كل الجهات داخل لبنان وخارجه من استخدام هذا البلد «ساحة لصراعاتهم بالوكالة».
المخاطر تثقل على لبنان وأهل المنطقة كلها، في ضوء تعثر كل المساعي الدولية الناشطة هنا وهناك، من ليبيا إلى العراق. والحروب الأهلية لم تحط رحالها بعد. أما أن تنزلق دول المشرق عموماً إلى مواجهة واسعة تنطلق من لبنان أو من الجولان، أو من كردستان وغيرها، فاحتمال وارد إذا أخطأ بعض الأطراف في حساباته، أو إذا وقع محظور بالمصادفة أدى إلى إشعال الشرارة الأولى. حتى الآن لا يبدو أن الوكلاء المحليين تعبوا. وحتى الآن لم تتوافر ظروف دولية لا بد منها لإعطاء ضوء أخضر لمثل هذه المغامرة الكبيرة. هناك جدال مستمر بين الديبلوماسية والجنرالات لم يرس على قرار بالذهاب إلى حرب حاسمة. في إسرائيل، تتحدث دوائر إعلامية عن ميل لدى ساستها، خصوصاً رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه أفيغدور ليبرمان، لانتهاز الفرصة من أجل تحقيق جملة أهداف يتعلق بعضها بالوضع السياسي الداخلي الذي يربك أقطاب اليمين الإسرائيلي، وكذلك بالاستعدادات الأميركية لإعادة إطلاق العملية السلمية مع الفلسطينيين. ويتعلق بعضها الآخر بالرغبة في الثأر من «حزب الله» والحؤول دون ترسيخ إيران أقدامها في سورية. لكن النخبة العسكرية لا تميل إلى مثل هذا الخيار. وترى أن قرار وقف النار بعد حرب تموز 2006 علق المواجهة بين الطرفين بحراسة دولية توفرها قوات أممية من أكثر من عشرين دولة، ولا حاجة إلى إسقاط القرار 1701.
بل إن القيادة العسكرية في إسرائيل تحرك غاراتها منذ اندلاع الأزمة في سورية على مخازن أسلحة أو قوافل إيرانية تنقل عتاداً إلى «حزب الله». ولا تلقى هذه الغارات أي ردود تذكر. ولا تخفي إيران انزعاجها الشديد من هذا التفاهم بين موسكو وتل أبيب، والذي يتيح بموجبه لإسرائيل مواصلة عملياتها في المسرح السوري. ولا تملك سوى الإصرار على الدفع بميليشياتها نحو حدود الجولان المحتل لعلها تسقط وعد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو نظيره الإسرائيلي بتوسيع المنطقة العازلة لإبعاد هذه الميليشيات عن حدود الجولان المحتل. ومن نافل القول إن الدولة العبرية جنت وتجني مكاسب لم تحلم بها جرّاء تدمير الجيوش العربية وتعميم الحروب الأهلية في المنطقة. ولا يمكنها في ظل وجود روسيا في بلاد الشام أن تغامر بحرب قد تستفزها. خصوصاً أن موسكو لا تزال تراهن على تفاهم مع إدارة الرئيس دونالد ترامب ينتهي برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بعد ضمها شبه جزيرة القرم. وهي الآن تحاول أن تستغل موقفها من أزمة كوريا الشمالية والمأزق الذي تواجهه واشنطن حيال هذه الأزمة، من أجل المقايضة أيضاً. ولا شك في أن البيت الأبيض يعوّل بل يشدد على تفاهم مع موسكو وبكين أولاً من أجل تسوية الأزمة مع بيونغ يانغ.
أبعد من ذلك، لا يسمح الكرملين بضرب حليفه الإيراني وميليشياته التي عوّل عليها كثيراً في الميدان السوري. ولا يزال يحتاج إليها لترسيخ مشروعه في بلاد الشام والمنطقة… إلا إذا غالت طهران أو المتشددون فيها وذهبوا بعيداً في تقويض مساعيه للتسوية السياسية ووقف الحرب في سورية. وليس سراً أن الرئيس بوتين الذي أبرم اتفاقات نفطية خلال زيارته طهران أول الشهر الجاري بنحو ثلاثين مليار دولار، يدرك أن هذه الاتفاقات لا تنعكس بالضرورة تفاهماً تاماً في الشؤون أو القضايا السياسية. ويضيره بالتأكيد أن يسمع مستشار المرشد الأعلى علي أكبر ولايتي وهو يتوعد خلال زيارته قوات إيرانية وميليشيات موالية في حلب بتحرير المناطق الشرقية من سورية وغربها، في إشارة أولى إلى الرقة التي حررتها «قوات سورية الديموقراطية» بدعم من قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. ويكرر الطرفان الروسي والأميركي أنهما متمسكان بالتنسيق لئلا يقع صدام بين الأطراف التي يدعمها كل منهما، وفي إشارة ثانية إلى إدلب التي يشملها اتفاق «خفض التوتر»، وهو اتفاق قضى بانتشار قوات للنظام وحلفائه شرق المحافظة جنوب حلب، فيما تنتشر قوات تركية في المدينة وأريافها. وتواصل هذه القوات فرض الهدوء في هذه المنطقة بالتنسيق مع موسكو التي تغض الطرف عن الترتيبات التي تقوم بها أنقرة لتذويب عناصر «جبهة النصرة». كأن المسؤول الإيراني يعبر صراحة عن اعتراض بلاده على قيام هذه المناطق، تماماً مثل النظام في دمشق. ويقود هذا التوجّه ببساطة إلى إعاقة الرئيس بوتين الذي يستعجل ترسيخ الهدنة في سورية، عبر مساري آستانة وسوتشي وغيرهما. ويتمسك بمناطق خفض التوتر والمصالحات التي أبرمها قادته العسكريون مع فصائل محلية في مناطق عدة. فما يستعجله فعلاً هو فرض رؤيته للتسوية السياسية تمهيداً لخفض مستوى انخراطه العسكري. فهو يخشى الغرق في المستنقع، لإدراكه أن الحرب في سورية لن يخرج فيها طرف منتصر وآخر مهزوم.
وإذا كانت الجمهورية الإسلامية تعاند وتعارض هذه الرؤية وتخشى في المحصلة أن يقوم تفاهم بين موسكو وواشنطن تكون فيه الخاسر الأكبر، فإن الكرملين ينتظر بفارغ الصبر مثل هذا التفاهم مع إدارة ترامب مستخدماً «إنجازاته» على الأرض السورية. وقد سعى ولا يزال يسعى إلى توسيع دائرة اتفاقاته مع دول إقليمية، من تركيا إلى السعودية ومصر لتبقى له وليس لطهران اليد الطولى. وهو يعرف تعقيدات أي حرب على إدلب وحدود تركيا، مثلما يعرف صعوبة المواجهة مع «قوات سورية الديموقراطية» التي تملك أكثر من سبعين ألف مقاتل أشرفت قوات أميركية على تدريبهم وتسليحهم وأبلوا بلاء حسناً في محاربة «داعش».
ويترقب الروس بحذر ما سترسو عليه سياسة إدارة ترامب في سورية والعراق أيضاً. وهم يدركون أن الولايات المتحدة قادرة على أداء دور معرقل لمشروع التسوية الروسية لأزمة سورية. بل يمكنها بعد انخراطها في ربط الأزمات من بيروت إلى بغداد، أن تعيق كل ما تسعى الجمهورية الإسلامية إلى ترسيخه. لقد حققت هذه مزيداً من المكاسب وسعت إلى ملء الفراغ بعد سقوط الموصل. ثم بعد سقوط مشروع الاستفتاء في كردستان وما انتهى إليه الوضع في كركوك والمناطق المتنازع عليها. وإذا كانت هذه التطورات عززت شهية الإيرانيين نحو مزيد من الهيمنة والسيطرة، فإنها في المقابل فاقمت مخاوف أميركا وتركيا أيضاً من تحول كردستان كلها «محمية إيرانية». وتملك واشنطن وحلفاؤها التقليديون في المنطقة الكثير من الأوراق، ويمكنهم أن يقلبوا الطاولة بوجه الجميع. لذلك تخشى طهران أن تصل موسكو إلى مرحلة لا تعود فيها بحاجة إلى مساعدتها الميدانية في سورية، خصوصاً إذا تقدمت نحو تفاهم مع إدارة ترامب يخفف أعباءها العسكرية في بلاد الشام. بالطبع لا يرغب الكرملين في ضرب الجمهورية الإسلامية. ولا حتى الولايات المتحدة مستعدة لحرب واسعة معها. كل ما تصبو إليه الدولتان الكبيرتان هو دفعها إلى داخل حدودها. وفي هذا مصلحة لروسيا بلا شك. فطهران تنافسها في أفغانستان وآسيا الوسطى والقوقاز وأمكنة أخرى أيضاً.
الحرب الواسعة في المنطقة لها حسابات أكثر تعقيداً من حرب الوكلاء. وقد تبدو بعيدة ما لم تتوافر لها شروط وظروف تنجم عن عجز مطلق للديبلوماسية. قد تصير حاجة لا مفر منها إذا حل التفاهم بين الدول الكبرى وعاندت الدول الساعية إلى الهيمنة على المنطقة العربية. مثل هذا التفاهم يفتح الطريق إلى عمل عسكري كبير في الإقليم.
جورج سمعان
صحيفة الحياة اللندنية