عندما ساعدت التكنولوجيا على قيام الثورة الصناعية، ظهر المجتمع الصناعي. وساعد الإنتاج الضخم للسيارات على ظهور ثقافة التنقل والسفر والعطلات. وساعد اختراع الراديو على ظهور ثقافة المستمعين، وموسيقى الجاز والفرق الموسيقية. وبعدما تم اختراع جهاز التلفزيون، ظهرت هوليوود وإم تي في ونشرات الأخبار والبرامج الواقعية.
أما ظهور الإنترنت، فخلق ثقافة تتغير بوتيرة متسارعة أخشى أن أذكر لها أمثلة هنا تكون قد أصبحت قديمة بمجرد أن تقع عيناك على هذا المقال. ومثلما نقول إن التكنولوجيا نشأت من نسيج ثقافتنا، يمكننا القول أيضا إن التكنولوجيا أيضا ساعدت في تشكيل نسيج ثقافتنا. وإذا اتبعنا هذا الموضوع إلى آخره، نجد أن التكنولوجيا تخلق نفسها، مما ساعد على ظهور أفلام مثل “ذا ترميناتور” أو “أفينجرز: إيج أوف ألترون وورك”. الحقيقة هنا أغرب من الخيال.
كيف يحدث ذلك؟
تغيرت الطريقة التي بُنيت عليها الثقافة كثيرا نظرا للتطورات التكنولوجية المتسارعة. ومن الأمثلة التي تسهل فيها رؤية هذا التغيير، هو طريقة تربية الأطفال. فمن خلال السماح للطفل باستخدام أجهزة الكمبيوتر أو الهواتف الذكية، فأغلب الآباء باتوا يسمحون بذلك للطفل اليوم بأن يكون معزولا في عالمه الخاص.
ولم يعد هناك وقت مخصص للأسرة كما كان الحال عليه في السابق، وأصبح الناس أقل اتصالا ببعضهم البعض. وكنتيجة لذلك لم تعد “العائلة” هي الوحدة الهيكلية البارزة في ثقافتنا، لكن بدلا من ذلك أصبح “الفرد” هو الوحدة الهيكلية التي تشكل ثقافتنا في الوقت الحالي.
ويقول باحثون إن هناك عدة عوامل رئيسية استطاعت التكنولوجيا من خلالها أن تترك آثارها على كل جانب من جوانب الحياة، وهي المواءمة والعولمة وإمكانية وسرعة الوصول إلى المعلومات.
ففي السنوات الثلاثين الماضية أصبح من السهل على المريض أن يُشفى من أغلب الأمراض مهما بلغت صعوبتها، وأصبح من السهل أيضا السفر حول العالم، إلى جانب التواصل مع العشرات من الناس من جميع أنحاء العالم.
حتى رجال الأعمال المليونيرات والمليارديرات لم يعودوا مرتبطين بجنسياتهم كما كانوا يفعلون في السابق، لكنهم الآن يعتبرون أنفسهم مواطنين عالميين. فقد سمحت لهم التكنولوجيا بالعيش في الأماكن التي يحبونها والعمل مع الناس من بيئات مختلفة حول العالم.
ويمكن لأي شخص لديه هاتف ذكي اليوم أن يحصل على تطبيق متخصص في أي موضوع ليتعلمه وربما يصبح خبيرا، أكثر من الخبراء الأصليين في هذا المجال. لذلك يمكن القول إن التكنولوجيا غيرت طريقة تصورنا للعالم من حولنا، وبالتالي الطريقة التي نعيش بها، والتي هي ثقافتنا.
ولأن علماء التكنولوجيا والمؤرخين عادة ما يدخلون في نقاشات حول كيف أن التكنولوجيا تخلق الثقافة، يظهر هنا دائما الاتجاه نحو التنظير الأكاديمي، بعيدا عن ملامسة حياة الناس الذين يثبتون المعنى الحقيقي لتأثير التكنولوجيا من خلال استخدامهم اليومي لها. فعلى سبيل المثال، كانت حركة التشييد في السابق ليست في حاجة إلى أن تضع في الاعتبار عند تخطيط المدن وشوارعها وأحيائها السكنية، مرور السيارات التي لم تكن قد وجدت بعد.
لكن بمجرد اختراع السيارة، وتحولها إلى إحدى الأدوات الأساسية لتسيير الحياة اليومية للبشر، حدثت قفزة في تخطيط الضواحي والأحياء، وظهر الأسفلت كمرحلة متقدمة في “ثقافة” تمهيد الطرق للمارة.
ويقول تشارلي غيلكاي، وهو باحث في تطبيق التكنولوجيا لتغيير ثقافة قطاع الأعمال، “أعتقد أن تلك القفزات الكبيرة التي تحدثها التكنولوجيا تقلل من شخصنة المناقشة بالنسبة لنا، لأن تلك القفزات هي عبارة عن سلسلة طويلة من التغيرات الاجتماعية الكبيرة التي نتفاعل معها لأنها فرضت علينا، بدلا من أن نعزز منها ونشارك في خلقها مع الآخرين”.
لنستعرض بعض الأحداث اليومية التي تواجهنا:
* في كل مرة تظهر فيها إشعارات على هاتفك أو جهاز الكمبيوتر الخاص بك، نجد أن التكنولوجيا تؤثر على الثقافة.
*في كل مرة كنت تجلس فيها مع أصدقائك تتحدثون وأنت مشغول في نفس الوقت بمراقبة هاتفك، نجد أن التكنولوجيا تؤثر على الثقافة.
*في كل مرة يمكنك شراء منتج معين على الإنترنت بدلا من الذهاب إلى متجر الحي، نجد أن التكنولوجيا تؤثر على الثقافة.
*في كل مرة تقوم فيها أنت أو أبناؤك بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي من أجل إجراء محادثة مع أصدقائك، بدلا من الذهاب لزيارتهم في منزلهم، نجد أن التكنولوجيا تؤثر على الثقافة.
*في كل مرة يتواصل فيها زميلك في العمل أو فريق العمل بأكمله بواسطة البريد الإلكتروني، لدرجة أنهم جميعا لا يستطيعون كنتيجة لذلك أن يفكروا بشكل جيد، نجد أن التكنولوجيا تؤثر على الثقافة.
*في كل مرة تذهب إلى أي مكان جديد استنادا لتقييمه على تطبيق “يلب” فقط، نجد أن التكنولوجيا تؤثر على الثقافة.
*في كل مرة نجلس فيها ليلا لمشاهدة ما نختاره من برامج ترفيهية بدلا من الاكتفاء بما يجبرنا التلفزيون على مشاهدته، نجد أن التكنولوجيا تؤثر على الثقافة. وبذلك تستطيع التكنولوجيا أن تؤثر على المئات من التفاصيل الصغيرة في حياتنا اليومية، وبالتالي على سلوكنا الفردي والجماعي، إضافة إلى التغييرات الثقافية التي يشير إليها علماء التكنولوجيا والمؤرخون.
ويتضح من كل الأمثلة السابقة أن سلوك الشخص قادر على أن يغير سلوك المجموعة، نظرا لمدى السرعة التي تتشكل بها تلك المعايير التي تؤثر علينا تدريجيا كما لو كان الناس قد أصبحوا مغيبين أو مبرمجين.
ورغم ذلك، مازال كثيرون يتملكهم التفاؤل تجاه وتيرة التغيير المتسارعة من حولنا، لأن تلك القواعد الجديدة يمكن أيضا أن تتسبب في تغيير اجتماعي عميق، كالقدرة على الاتصال بجميع أنحاء العالم، وظهور الاقتصادات الجديدة، ومساعدات الحكومات على تحسين أدائها.
ولم يتوقف تأثير التكنولوجيا على تغيير ثقافة الناس اليومية فقط، بل اخترقت التكنولوجيا صناعة الثقافة أيضا. وصناعة الثقافة متمركزة في عقل الأمة، أو طبقة النخبة المسؤولة عن الإنتاج الثقافي في أي مجتمع ما.
وفي السابق كانت الكلمة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها تشكيل وعي المجتمع، إذا ما توفرت لها القدرة على الانتشار، من خلال الطباعة ثم بناء شبكة واسعة للتوزيع. واليوم لم تختف الكلمة ولم يتراجع تأثيرها، لكنها لم تعد هي المحرك الوحيد لتحديد ملامح الثقافة في المجتمع، وثقافة “البوب كلتشر”.
وكان للإنترنت أكبر تأثير لتحديد هذه الثقافة. وتظهر كل يوم فرق موسيقية يذيع صيتها على مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر موقع يوتيوب لتحمل مقاطع الفيديو. وتحول المدونون، الذين كانت أسماؤهم بالكاد معروفة لدى قطاع ضيق من المهتمين بما يكتبون عنه، إلى كتاب كبار تطاردهم دور النشر لتوقيع عقود كتب جديدة، إلى جانب الكثير من الطموحين الذين يعرضون مواهبهم ويحطمون أرقاما قياسية في عدد المشاهدات يوميا. وفي هذا العالم الرقمي، يبدو أن عدد الجمهور والمتابعين لا نهاية له لكل فكرة جديدة تظهر فجأة، كما أصبحت فكرة التحول إلى “نجم” متاحة للجميع، وقابلة للتحقق.
وتقول سيرينا كوتشينسي، الكاتبة المتخصصة في تأثير مواقع التواصل على حركة المجتمع، إن “التحدي الذي يواجه كل العاملين في مجالات الابتكار والتفكير هو كيف يتم استغلال كل هذه الطاقة المتجددة وتحويلها إلى شيء واقعي؟”.
وأضافت “التكنولوجيا تقدم فرصة لتحسين تفاعل الجمهور ولخلق خدمة عملاء أكثر جودة، كما تستطيع توليد الابتكارات بشكل أسرع، لكنها ستتمكن بالفعل من تحويل المزاج العام في المجتمع إذا ما استطاعت تغيير وسائل إنتاج الثقافة واستهلاكها، وعندما نصبح جميعا مستعدين للتعايش بأريحية مع الحقائق الجديدة وأساليب العمل التي تخلقها التكنولوجيا من أجلنا”. فقد كانت التكنولوجيا في العالم العربي هي حجر الزاوية الذي ساعد على اندلاع سلسلة من الثورات المتتابعة، في ما بات يعرف بـ”ثورات الربيع العربي”.
صحيفة العرب اللندنية