في حومة الحديث عن البدائل في فلسطين، وفي نقاشاتِ وحراكاتِ الوضع الراهن، تتجلى أزمة اليسار الفلسطيني ودوره المحدود في رسم وصياغة السياسات الفلسطينية. فاليسار الفلسطيني بات عاجزاً لا يقوى على التأثير في مسار صناعة القرار، ولا في بناء البدائل بالرغم من الأصواتِ المرتفعةِ التي تصدر من حينٍ إلى آخر على لسان عددٍ من أقطابه، وكان آخرها ما حدث في اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو الاجتماع الذي جاء ليضع الخطوات العملية لتنفيذ قرارات المجلس المركزي الفلسطيني بعد المواقف الأميركية الأخيرة، خصوصاً منها اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة للدولة العبرية، ونيتها نقل سفارتها إليها من تل أبيب، كذلك الموقف من وكالة الأونروا والسعي الأميركي لتفكيكها وإنهاء وظيفتها.
عملياً، ضاع اليسار الفلسطيني، وتَحَشرَجَ صوته، عندما بات خارج الزمان والمكان، وخارج المعادلة، مع انعدام وزنه وتراجع حضوره وتأثيره في المعادلة الداخلية الفلسطينية منذ سنواتٍ ليست بالقليلة، بالرغم من التأصيل التاريخي لوجود الحالة اليسارية الفلسطينية تحت عناوين مختلفة من القوى والفصائل وعلى رأسها الجبهة الشعبية وحزب الشعب وجبهة النضال الشعبي وجبهة التحرير الفلسطينية….الخ.
في كل تلك الحراكات والنقاشات التي تسود الحالة الفلسطينية في شأن الواقع السياسي، يعيش اليسار الفلسطيني في الحقبة الراهنة، مُحاولاً تأكيد حضوره ببيانات إعلامية، لفظية، من دون أن يكون صوته مسموعاً أو مُعتبراً من قبل الطرفين الرئيسيين في المعادلة الداخلية الفلسطينية: حركة فتح وحركة حماس.
الحال التي وصل إليها اليسار الآن، من حيث تواضع الحضور والفعالية والتأثير- مع استثناء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بحدودٍ معينة- لم تَكُن صاعقة في سماءٍ صافية، بل كانت منتوجاً منطقياً وطبيعياً في ظل عجز فصائل وقوى اليسار عن توحيد أدوارها وتطوير وتجديد ذاتها وبرامجها وأدواتها، واستمرارها في المراوحة في المكان، من دون الإقدام على خطوات شجاعة من خلال إعادة النظر بالكثير من المُسلّمات التي قامت عليها سياسات اليسار بجانبيها التنظيمي والعملي، وقصور ممارساتها بعد تسعينيات القرن الماضي، وهي الممارسات التي جَعَلَت منها فصائل «طاردة للكفاءات وأصحاب المهارات»، فدفعت- من حيث تدري أو لا تدري- بالأعداد الكبيرة من مُنتسبها وأعضائها ومناصريها لمغادرة صفوفها، وبالتالي إلى إضعاف دورها وتأثيرها وتقوقعها، بعد أن كانت تلك القوى والفصائل، قوى مُقررة بوزنها وحضورها خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبعد أن تركت بصمات مهمة في العمل الوطني الفلسطيني إبان تلك المرحلة المذكورة، لا يُمكن تجاهلها أو نسيانها.
وبالطبع، وعند الحديث عن البدائل في فلسطين، أن حجم التأثير الخارجي في تقرير هذا الأمر، قد يكون كبيراً على الأرجح، وقد يكون حاسماً، لكنه يُمكن له أن يَصغُرَ وأن يتواضع بتأثيراته، حال توافرت مساحة جيدة من عمق التفاهم بين مُختلف الفرقاء من الفلسطينيين، وبين أطراف المعادلة الفتحاوية، وعندما يَجد الجميع أن أدوارهم محفوظة ومصانة، بما في ذلك فصائل اليسار المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والتي ضاعت في تلك اللُجة، وباتت تتغنى بتاريخها وأدوارها السابقة، لكنها لا تجد لها الآن موضعاً في زحام التسابق بين حركتي «فتح» و»حماس».
لا أحد في فلسطين، يَملِكُ عصاً سحرية، فحجم التعقيدات السياسية في المنطقة وعموم الإقليم، تفوق قدرات الشعب الفلسطيني، ومُتعددة العناوين، وأكبر من كل الفصائل والقوى، لكن المُهم في كل الأمر أن تتوفر لدى الفلسطينيين عموماً حالة توافقية- توحيدية، تلغي وتنهي الانقسام، وتقوم على المشاركة السياسية الحقيقية، والمؤسسة الجماعية. كما في توحيد جهود فصائل اليسار الفلسطيني، ووقف حالات التخاصم والصراعات والمكايدات السياسية بين فصائله، وهنا تنبع أهمية عقد مجلس وطني فلسطيني توحيدي (البرلمان الفلسطيني الموحد للداخل والشتات)، في سياق إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية ودخول حركتي حماس والجهاد الإسلامي لعضويتها وفق أوزانها على الأرض، وعبر صندوق الاقتراع.
علي بدوان
صحيفة الحياة اللندنية