كان من المفترض أن تبشر الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة التي جرت هذا الشهر بقدوم فصل جديد يمضي فيه البلد قدما إلى معالجة الفساد المستشري، وعدم الاستقرار العنيف، والاستقطاب الاجتماعي والسياسي. وباعتبارها الأولى التي تجري منذ إلحاق الهزيمة بما تدعى “خلافة” مجموعة “داعش” في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، كانت هذه الانتخابات تاريخية بالعديد من الطرق، وشهدت تنافس 7.000 مرشح على 239 مقعداً في البرلمان.
لا ينبغي التقليل من شأن انتخابات تعقد في بلد واجه كافة أنواع العنف والفوضى التي شهدها العراق. ومع ذلك، فإن العراق لن يتحول بعدها إلى فصل جديد، على الأقل بالطريقة التي توقعتها الولايات المتحدة. فقد أنتجت الانتخابات كاسبا في شكل الحركة الصدرية المعادية تاريخيا للولايات المتحدة، وإضعافا حادا لرئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي يوصف في بعض دوائر واشنطن بأنه “رجل أميركا في بغداد”. وبالإضافة إلى ذلك، ساعدت الانتخابات في تقوية “قوات الحشد الشعبي” (بقيادة مجموعات الميليشيا العراقية القوية المتحالفة مع إيران)، وهو ما يرجح أن يشجع المطالبات بانسحاب أميركي من العراق.
ظروف سيئة
على الرغم من هوس الإعلام والآمال الكبيرة المحيطة بفرصه، فقد فشل العبادي في إلهام بداية جديدة –تخفف التوترات العرقية والدينية، وتفضي في النهاية إلى تشكيل الإجماع الوطني الذي تمس حاجة العراق إليه. وفي وقت كتابة هذه السطور، كان العبادي يأمل، في أفضل الأحوال، في أن يأتي في المرتبة الثالثة. ويمكن القول بأن هذه كانت أيضا أسوأ انتخابات حتى هذا التاريخ بسبب إقبال الناخبين بنسبة 44.5 % (وهي الأدنى منذ العام 2003)، وربما يكون هذا قد عمل فعليا على تدمير الشرعية الديمقراطية التي تمتعت بها الطبقة السياسية العراقية منذ العام 2003. وتبقى نسبة إقبال الناخبين مهمة بشكل خاص. ففي غياب حكم القانون –وفي وجه المؤسسات الفاسدة والضعيفة- تكون العملية الانتخابية في العراق حاسمة في تحديد قدرة المواطن على المساءلة. والتصويت هو من بين الوسائل القليلة التي ما يزال الجمهور يملكها تحت تصرفه للمساءلة.
لا ينبغي أن يأتي أي من هذا كمفاجأة. ويمكن أن توفر الانتخابات الفرصة لتأسيس بداية جديدة للعلاقات بين المجتمعات، وبين الأعضاء المتنافسين من الطبقة السياسية، وبين المواطن والدولة. لكنها ليست دواء لكل دواء: ما يزال العراق غارقاً في الفساد المستشري، والانقسامات العرقية/ الطائفية، وطائفة من الميليشيات المتباينة التي عززت الآن قبضتهاعلى البلد في أعقاب الانتخابات الأخيرة. كما أن مؤسسات البلد ضعيفة أو مختلة وظيفيا. وهذه ليست المقومات التي تجعل بلدا خارجا من رماد الحرب أقوى وأكثر وحدة.
كانت الآمال التي علِّقت على إمكانية أن يقود العبادي العراق في اتجاه تلك النتيجة في أعقاب الحملة العسكرية ضد “داعش”، في غير محلها وغير منتجة. كانت الحرب ضد “داعش” هي الصراع الأكثر دموية ووحشية، والذي يخوضه العراق منذ الحرب الإيرانية-العراقية في الثمانينيات –ولكن، وعلى النقيض من تلك الحرب، كان هذا صراعاً تكشف على خلفية أكثر من عقد من الانقسامات والصراعات العرقية-الطائفية. وبالإضافة إلى ذلك، كان هذا صراعاً داخلياً بين العراقيين، لأن “داعش” كان بشكل عام منظمة إرهابية محلية، وقد أضعف ذلك من تأثير فكرة الالتفاف حول العلَم التي عادة ما تتيحها الحروب بشكل عام.
كما استعرت صراعات أخرى على مدى السنوات الثلاث الماضية، في ظل الحرب على “داعش”. وشملت الصدامات بين إربيل وبغداد (قبل أشهر قليلة فقط من الانتخابات، بطلب من العبادي وبموافقة الولايات المتحدة)، والفظاعات الطائفية التي ارتكبتها المليشيات الشيعية ضد العرب السنة. وكان يعتقد أنه تم كسب العرب السنة في العراق للقبول بالنظام السياسي الذي يهيمن عليه الشيعة، لكن نسبة الإقبال الضعيفة في انتخابات هذا الشهر، وعدم قدرة العبادي على أن يصبح رئيس وزراء عابر للطوائف بالطريقة التي اقترحتها الروايات الخارجية، يظهران أن السنة كانوا في واقع الأمر أكثر ألماً وإنهاكاً من المتوقع. وبعبارات أخرى، لا تعكس الظروف في زمن الحرب بدقة حالة العلاقات بين المجتمعات، ناهيك عن تقديم بيئة مواتية للمصالحة.
مع ذلك، آذنت الانتخابات العراقية الأخيرة بفصل جديد للحركة الصدرية المنتصرة، التي يقودها رجل الدين مقتدى الصدر، إلى جانب الملايين من مؤيديه المعوزين ومن أبناء الطبقة الدنيا الشيعية في العراق، من الذين فقدوا الإيمان في طبقة سياسية هيمنت، وسلبت، وأساءت إدارة الدولة العراقية ومواردها منذ العام 2003.
يُعرَف مقتدى الصدر وحركته بالعديد من الأشياء. كان والده، محمد صادق، آية الله المعروف، قد أنشأ التيار الصدري في التسعينيات ليصبح اليوم أكبر وأقوى حركة اجتماعية-سياسية في العراق. وقد تحدت الحركة النظام البعثي، وقدمت الكثير من الغوث والخدمات للطبقة الدنيا الشيعية خلال فترة تميزت بالفقر الهائل، عندما كان العراق مفلساً وتحت العقوبات الدولية.
مع ذلك، سوف يكون مقتدى معروفاً لدى الكثير من الأميركيين والأوروبيين كقائد لميليشيا جيش المهدي التي حاربت القوى الغربية بعد سقوط نظام حزب البعث في العام 2003، وتلطخت يداها بدماء الأميركان والبريطانيين. وقد قاوم الصدريون بقوة -وما يزالون يقاومون- وجود أميركا ونفوذها في العراق والمنطقة. ولعب جيش المهدي دوراً مركزياً في إثارة الصراع الطائفي المدمر في العراق، وحارب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والقوات العراقية، وانخرط في أنشطة إجرامية.
قلب انتصار مقتدى الصدر سياسة أميركا في العراق رأساً على عقب. وتواجه واشنطن الآن أزمة سياسية حادة في بلد استثمرت فيه دماء وثروات كبيرة. وكان سياسة الولايات المتحدة منذ بدء الحرب على “داعش” قبل ثلاث سنوات تتركز بشكل كبير حول مكافحة الإرهاب وهزيمة “داعش”. وسياسيا، راهنت الولايات المتحدة على رئيس الوزراء العبادي لاحتواء الجماعات المتحالفة مع إيران وضمان أن لا يتحول العراق أكثر نحو المدار الإيراني، بل وغضت الطرف عن هجومه العسكري ضد حلفاء أميركا منذ أمد طويل، الأكراد، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
كان بإمكان الولايات المتحدة صياغة استراتيجية سياسية قائمة على تحسين علاقاتها مع الأكراد، والعرب السنة، والفصائل الشيعية المتحالفة مع الغرب. وبدلاً من ذلك، راهنت بقوة على سياسي في شخص العبادي الذي جاء إلى المنصب من دون قاعدة شعبية (أو حتى قاعدة في داخل حزبه الخاص)، وعلى أساس افتراضات معيبة بعمق بأنه يستطيع أن يكسب العراقيين فقط إذا ادعى أن النصر ضد “داعش” كان من صنعه هو، وأن تتعزز أرصدته القومية كرجل قوي عن طريق التحرك بقوة ضد الأكراد. وسوف يكون سوء الحسابات هذا محلا للندم في الفترة القادمة، بينما تحاول الولايات المتحدة إقناع الأكراد بدعم ولاية أخرى للعبادي كرئيس للوزراء، وهو ما سيكون –نتيجة لهجوم كركوك- بمثابة انتحار سياسي للقيادة الكردية.
كما أن مقتدى الصدر معروف أيضاً بقوميته العراقية ومواقفه المناهضة لإيران، ومقاومة النفوذ الإيراني كما فعل والده في التسعينيات. لكنه أيضاً معادٍ لأميركا بشدة. وكانت حركته سبباً في نشوء العديد من المجموعات الشيعية التي ارتكبت فظاعات ضد الأميركيين، والتي تهيمن اليوم على العراق –وكذلك على الخطوط الأمامية للحرب السورية، حيث حاربت ضد القوات الأميركية. وكانت هذه المجموعات محورية في تأمين بقاء نظام الأسد وكذلك في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة.
وحتى تصبح الأمور أسوأ، أبلت المنظمة الرئيسية التي أملت واشنطن في احتوائها خلال ولاية للعبادي كرئيس للوزراء بلاء حسناً، معززة حضورها في المشهد السياسي العراقي: قوات الحشد الشعبي، التي تتكون من نحو 100.000 مقاتل أغلبهم من الشيعة، وتقودها أقوى الميليشيات العراقية الشيعية المتحالفة مع إيران. وفي حين أن انتصار الصدر يعقد الأمور على إيران، فإن الظهور القوي لقوات الحشد الشعبي يعني أن القادة في طهران سوف ينامون قريري العين.
هكذا كانت الحماقة المتمثلة في دعم العبادي على حساب أصدقاء أميركا وحلفائها بينما أدت إيران أداء طيبا خلال فترة ولاية العبادي، حيث ضمنت مأسسة قوات الحشد الشعبي ووصولها إلى موارد كبيرة في الحكومة. وسوف تكون واثقة الآن من التعامل مع أول الشؤون: تحقيق انسحاب أميركي.
ما الذي يمكن أن تفعله واشنطن؟
هل تستطيع الولايات المتحدة التعافي من هذا الوضع؟ نعم، وإنما سيترتب عليها أن تنهي بشكل جدي لعبتها سياسيا. وعلى الصعيد العسكري، لدى الولايات المتحدة قصة نجاح بعد أن خلصت العراق مما تدعى “الخلافة”. ومن ناحية أخرى، كانت سياسة الولايات المتحدة في العراق سيئة للغاية وغير متساوقة وبلا شكل: ما هي مبادئ واشنطن التوجيهية لضمان أن يتحرك العراق قُدماً على أساس بعض الشروط التي حددتها واشنطن نفسها على الأقل؟
الآن، أكثر من أي وقت مضى، وبينما تصبح العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران أكثر توتراً، لم يعد بإمكان واشنطن أن تتحمل كلفة الاستمرار في ترك المشهد السياسي في العراق يسير كما هو حاله. يستمر العراق في أن يكون مسرحاً يجري عليه عرض الخصومات الدولية والإقليمية، والتي لا يحددها تزايد النفوذ الإيراني في العراق فحسب (وهو فناء خلفي وقناة حاسمين لالتزامات إيران في سورية) وإنما أيضاً زحف روسيا الأخير. وما تزال الرهانات عالية ويمكن أن تكون للفشل في تبني سياسة شاملة وبانورامية تداعيات على جهود الولايات المتحدة لمنع عودة ظهور “داعش”.
تستطيع الولايات المتحدة أن تبدأ بعدم أخذ شركاء مثل الأكراد، والعرب السنة، والفصائل الشيعية المتحالفة مع أميركا، كأمر مسلم به بعد الآن. ويعني ذلك تبني منهج تدخلي بشراسة، حيث تحاول واشنطن موازنة جهود إيران العدوانية نفسها لتشكيل نتائج الانتخابات الأخيرة. وعلى وجه التحديد، تستطيع واشنطن أن تبني كتلة متحالفة مع الولايات المتحدة، والتي تدعمها، أولاً، مخاوف الأكراد والعرب السنة من إيران، وترددهم في ضم القوى مع خصوم العبادي المتحالفين مع إيران، مثل هادي العامري (الذي يقود قوات الحشد الشعبي)، ونوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق المثير للجدل. ثانياً، تستطيع واشنطن أن تدعم كتلة يدعمها اعتماد العبادي على الدعم الكردي وتاريخه المختلف عن كل من العامري والمالكي. وسوف يتطلب ذلك الضغط على العبادي لضمان تقديمه تنازلات للأكراد والعرب السنة، للإشارة إلى أن واشنطن لا تتخلى عن شركائها وأن الدعم المستمر سوف يكون متاحاً فقط في حال تبنى العبادي تنفيذ اتفاقيات التقاسم العادل والمنصف للسلطة، التي يحتاجها البلد ككل.
خلاصة القول هي أن تحالفا بين الصدر والعبادي لن يحقق المكاسب الضرورية، حيث تمتاز بغداد بأنها متقلبة للغاية، وغير قابلة للتنبؤ بتصرفاتها، ومجزأة بحيث لا تستطيع واشنطن الاستثمار في العبادي كما لو أن الأمور تعمل كالمعتاد. وفي حال تمكن العبادي من الفوز بولاية أخرى، فإنه سيعود وقد أضعفه وامتصه إلى حد كبير مقتدى الصدر المعادي بشدة لأميركا، وقوات الحشد الشعبي. ولن يتغير هذا في أي وقت قريب، ولن تعدو أي محاولة لرسمه بطريقة أخرى كونها مجرد أمنيات، إن لم يكن سوء حسابات ستكون له كلَف على الطريق بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها.
ترجمة الغد