يصعب إغفال كتاب وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري بعنوان: «كل يوم جديد إضافة»، وأكثر ما يحفز على مقاربته هو كشف مؤلفه في الإعلام عن الكثير من اللقاءات السرية التي عقدها مع مسؤولين إيرانيين خلال الأشهر الماضية، أي غداة تخلي واشنطن عن الاتفاق النووي وفرضها مجدداً عقوبات على طهران.
ما يهمنا في هذا السياق هو ما كشفه كيري عن النصيحة التي أسداها إلى الإيرانيين ومفادها التحلي بالصبر، لأن واشنطن ستشهد تطوراً قد يغيّر سياستها الراهنة. إذا دلنا قول كيري على شيء فهو يدل على حقيقة تقلب سياسة واشنطن الخارجية، ويدفعنا إلى قراءة المواقف الأميركية وتحولاتها لا سيما فيما يختص بشؤون الشرق الأوسط. وعليه، السؤال الذي نحن بصدد مناقشته هو كيف يمكننا من وجهة نظر عربية تخطي الضبابية التي تسود علاقتنا مع الولايات المتحدة عبر حسن قراءة سياساتها بعيداً عن موروثات الفكر الخشبي وعن التقلبات الأميركية الآنية والظرفية والعائدة إلى تغيّر الإدارات والتحولات المجتمعية؟
بشكل أكثر وضوحاً، كيف يمكننا ألا ننسى سياسة إدارة أوباما التي قامت على الانسحاب من بؤر الصراع الإقليمية والقيادة من الخلف، وتعاملت مع الملف الإيراني من منطق الانخراط والتسوية، وفي الوقت عينه ألا نزهو ونستكين إلى سياسة إدارة ترمب التي ارتكزت على استعادة الولايات المتحدة لدورها الدولي واعتماد التشدد مع إيران؟
ينبغي بداية إنعاش الذاكرة لنرى كيف أن السياسة الأميركية، على تعدد إداراتها، عملت عن قصد أو غير قصد على تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة. فمنذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979. بقيت السياسة الأميركية لعقود تتعامل مع الملف الإيراني من منظور إدارة الصراع وليس مواجهته، وإن كانت هذه الإدارة اتسمت غالباً بطابع التصعيد والضغط. وبعدها، تعامت واشنطن عن سياسة تصدير الثورة الخمينية والتي أسفرت عن خلق أذرع لطهران في عمق العالم العربي شكلت، كما الحالة اللبنانية، دولة ضمن الدولة. وجاءت حرب العراق 2003، لتسمح بدخول حلفاء إيران من المعارضة العراقية إلى بغداد مظفرين، وإمساك طهران بزمام القرار العراقي. وراهناً، تغاضت واشنطن عن الانغماس الإيراني في الحرب السورية، ليتوّج كل هذا المسار أخيراً بالاتفاق النووي، وهو من أهم دوافع تراخي واشنطن وتراجعها عن أفعال ومواقف، لو حصلت واتخذت لغيّرت مسار الحرب السورية، ومنعت وقوع أهوال وتثبيت وقائع لم يعد بالإمكان عكسها أو إصلاحها.
هذا المسار المتسامح مع إيران سبق إدارة أوباما، ويجيز لنا القول إن سياسته تجاه طهران لم تكن عرضية ولا ذاتية مرتبطة بشخصيته فحسب، بل عكست وما زالت مناخاً عاماً في الولايات المتحدة، لا سيما في أوساط الحزب الديمقراطي ولدى شريحة لا يستهان بها من الجمهوريين المصنفين بالليبراليين. وإذ كان هذا التوجه يرفض آيديولوجيا استخدام القوة في الخارج، عدا ما يسمى حرب الضرورة حصراً لدرء خطر مباشر ضد المصالح الأميركية، فإنه يلتقي وإن عرضياً مع طروحات طاغية لدى إدارة ترمب. لا شكّ أن ترمب يعد نموذجاً فريداً في تاريخ الرؤساء الأميركيين وهو الآتي من خارج النادي السياسي التقليدي، وليس له تاريخ قيادي يمكننا القياس عليه. ومع ذلك، تقوم عقيدته على مبدأ واحد وهو مبدأ «أميركا أولاً»، ليس بمعنى الهيمنة الأميركية أو قيادة أميركا للعالم، بل بمعنى العمل وفق المصالح الأميركية، وتالياً عدم إقحامها في نزاعات لا مصلحة لها مباشرة بها إلى حد يلامس العزلة، وذلك تحت مظلة قومية أميركية ضيقة بمدلولاتها الأميركية العرقية البيضاء. فهو بذلك يختلف عن الجمهوريين الجدد الذين يؤمنون بنشر القوة العسكرية لأميركا حول العالم، وفرض قيمها على الشعوب والمجتمعات الأخرى. ومن هنا تلاقيه مع عقيدة أوباما، ولو لأسباب مختلفة، واستطراداً، إمكانية تعديل سياسة التشدد حيال إيران إذا اقتضت مصلحة أميركا ذلك. ناهيك عن المشاكل الداخلية التي تحاصره وتهدد بقاءه في البيت الأبيض.
إلى هذا، يبرز دور اللوبي الإيراني في واشنطن والذي نشط كثيراً إبان ولاية أوباما، مخففاً من «شيطنة إيران» ومعظماً خطر المد الأصولي السني، ولاعباً على انقسام الحكم في إيران بين إصلاحيين ومتشددين. أدى ذلك إلى الانزلاق وراء وجوه الإصلاحيين المبتسمة، فيما صبّت نتائج الانفتاح في صالح المتشددين، فتنامت التدخلات الإيرانية في دول الإقليم بعد إبرام الاتفاق النووي ورفع العقوبات.
أمام هذا الواقع تبقى المهمة الأكثر صعوبة أمامنا هي إقناع العقل الغربي بعامة، والأميركي خاصة، بضرورة التمييز بين إيران الدولة والوطن وإيران الثورة. إن إيران المشكو منها والمزعزعة للاستقرار هي إيران الثورة التي اعتمدت تصدير الثورة بمحمولاتها المذهبية والعرقية في سياسة تقوم على ركائز ثلاث:
– استعمال البيئات المحلية في الدول المستهدفة وتجييشها للعمل وفق السياسة والأهداف الإيرانية، وعندها تصبح سياسات البيئة المحلية هي سياسات محلية وطنية وليست إيرانية.
– الترويج لنظرية الهجوم الوقائي أي نقل المعركة إلى أرض الخصم، وحجتها أنها مهددة وتستبق الحروب لدرء الأخطار المحدقة بها.
– العداء لإسرائيل لكسب أكبر شريحة ممكنة من الاجتماع السني العربي بخاصة، ورفع شعارات يسارية النكهة ضد الغرب والعولمة والرأسمالية.
وفي السياق نفسه، على الأطراف التي تعاني من ممارسات إيران الثورجية أن تظهّر مواقفها للأميركيين من الحزبيين والمستقلين، وتؤكد أنها لا تسعى لاقتلاع إيران من المنطقة بل لعلاقات طبيعية معها دون أن يتدخل طرف بشؤون الطرف الآخر.
إن التشخيص مهم إنما غير كافٍ، والأهم هو أن تضع القوى الكبرى المعنية في الشرق الأوسط استراتيجية للخروج من الأزمات والنزاعات القائمة عبر تسويات مستدامة يكون لأميركا دور حاسم في صياغتها وتطبيقها، ودون ذلك، ستستمر المنطقة في الدوران في حلقة مفرغة قوامها تسويات قسرية أو ناقصة بأحسن الأحوال، تحمل بذور نزاعات وحروب جديدة أشد تدميراً. إن الدور الأميركي مهم ليس لسحر أو افتتان بالأميركيين، إنما للحاجة إلى من يستطيع إعادة التوازن إلى المنطقة عبر عودة الأطراف المتنازعة في الإقليم أو خارجه إلى أحجامها الطبيعية دون انتفاخ أو ضمور، وعندها تستقيم كل المفاوضات وتسلك السبيل الصحيح لحل النزاعات. وإلا يصح الزعم الرائج في واشنطن أن الشرق الأوسط فقد أهميته الاستراتيجية ومن الصعب استعادتها ولا سبيل لإنقاذه من الصراعات الناشبة فيه.
ما يهمنا في هذا السياق هو ما كشفه كيري عن النصيحة التي أسداها إلى الإيرانيين ومفادها التحلي بالصبر، لأن واشنطن ستشهد تطوراً قد يغيّر سياستها الراهنة. إذا دلنا قول كيري على شيء فهو يدل على حقيقة تقلب سياسة واشنطن الخارجية، ويدفعنا إلى قراءة المواقف الأميركية وتحولاتها لا سيما فيما يختص بشؤون الشرق الأوسط. وعليه، السؤال الذي نحن بصدد مناقشته هو كيف يمكننا من وجهة نظر عربية تخطي الضبابية التي تسود علاقتنا مع الولايات المتحدة عبر حسن قراءة سياساتها بعيداً عن موروثات الفكر الخشبي وعن التقلبات الأميركية الآنية والظرفية والعائدة إلى تغيّر الإدارات والتحولات المجتمعية؟
بشكل أكثر وضوحاً، كيف يمكننا ألا ننسى سياسة إدارة أوباما التي قامت على الانسحاب من بؤر الصراع الإقليمية والقيادة من الخلف، وتعاملت مع الملف الإيراني من منطق الانخراط والتسوية، وفي الوقت عينه ألا نزهو ونستكين إلى سياسة إدارة ترمب التي ارتكزت على استعادة الولايات المتحدة لدورها الدولي واعتماد التشدد مع إيران؟
ينبغي بداية إنعاش الذاكرة لنرى كيف أن السياسة الأميركية، على تعدد إداراتها، عملت عن قصد أو غير قصد على تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة. فمنذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979. بقيت السياسة الأميركية لعقود تتعامل مع الملف الإيراني من منظور إدارة الصراع وليس مواجهته، وإن كانت هذه الإدارة اتسمت غالباً بطابع التصعيد والضغط. وبعدها، تعامت واشنطن عن سياسة تصدير الثورة الخمينية والتي أسفرت عن خلق أذرع لطهران في عمق العالم العربي شكلت، كما الحالة اللبنانية، دولة ضمن الدولة. وجاءت حرب العراق 2003، لتسمح بدخول حلفاء إيران من المعارضة العراقية إلى بغداد مظفرين، وإمساك طهران بزمام القرار العراقي. وراهناً، تغاضت واشنطن عن الانغماس الإيراني في الحرب السورية، ليتوّج كل هذا المسار أخيراً بالاتفاق النووي، وهو من أهم دوافع تراخي واشنطن وتراجعها عن أفعال ومواقف، لو حصلت واتخذت لغيّرت مسار الحرب السورية، ومنعت وقوع أهوال وتثبيت وقائع لم يعد بالإمكان عكسها أو إصلاحها.
هذا المسار المتسامح مع إيران سبق إدارة أوباما، ويجيز لنا القول إن سياسته تجاه طهران لم تكن عرضية ولا ذاتية مرتبطة بشخصيته فحسب، بل عكست وما زالت مناخاً عاماً في الولايات المتحدة، لا سيما في أوساط الحزب الديمقراطي ولدى شريحة لا يستهان بها من الجمهوريين المصنفين بالليبراليين. وإذ كان هذا التوجه يرفض آيديولوجيا استخدام القوة في الخارج، عدا ما يسمى حرب الضرورة حصراً لدرء خطر مباشر ضد المصالح الأميركية، فإنه يلتقي وإن عرضياً مع طروحات طاغية لدى إدارة ترمب. لا شكّ أن ترمب يعد نموذجاً فريداً في تاريخ الرؤساء الأميركيين وهو الآتي من خارج النادي السياسي التقليدي، وليس له تاريخ قيادي يمكننا القياس عليه. ومع ذلك، تقوم عقيدته على مبدأ واحد وهو مبدأ «أميركا أولاً»، ليس بمعنى الهيمنة الأميركية أو قيادة أميركا للعالم، بل بمعنى العمل وفق المصالح الأميركية، وتالياً عدم إقحامها في نزاعات لا مصلحة لها مباشرة بها إلى حد يلامس العزلة، وذلك تحت مظلة قومية أميركية ضيقة بمدلولاتها الأميركية العرقية البيضاء. فهو بذلك يختلف عن الجمهوريين الجدد الذين يؤمنون بنشر القوة العسكرية لأميركا حول العالم، وفرض قيمها على الشعوب والمجتمعات الأخرى. ومن هنا تلاقيه مع عقيدة أوباما، ولو لأسباب مختلفة، واستطراداً، إمكانية تعديل سياسة التشدد حيال إيران إذا اقتضت مصلحة أميركا ذلك. ناهيك عن المشاكل الداخلية التي تحاصره وتهدد بقاءه في البيت الأبيض.
إلى هذا، يبرز دور اللوبي الإيراني في واشنطن والذي نشط كثيراً إبان ولاية أوباما، مخففاً من «شيطنة إيران» ومعظماً خطر المد الأصولي السني، ولاعباً على انقسام الحكم في إيران بين إصلاحيين ومتشددين. أدى ذلك إلى الانزلاق وراء وجوه الإصلاحيين المبتسمة، فيما صبّت نتائج الانفتاح في صالح المتشددين، فتنامت التدخلات الإيرانية في دول الإقليم بعد إبرام الاتفاق النووي ورفع العقوبات.
أمام هذا الواقع تبقى المهمة الأكثر صعوبة أمامنا هي إقناع العقل الغربي بعامة، والأميركي خاصة، بضرورة التمييز بين إيران الدولة والوطن وإيران الثورة. إن إيران المشكو منها والمزعزعة للاستقرار هي إيران الثورة التي اعتمدت تصدير الثورة بمحمولاتها المذهبية والعرقية في سياسة تقوم على ركائز ثلاث:
– استعمال البيئات المحلية في الدول المستهدفة وتجييشها للعمل وفق السياسة والأهداف الإيرانية، وعندها تصبح سياسات البيئة المحلية هي سياسات محلية وطنية وليست إيرانية.
– الترويج لنظرية الهجوم الوقائي أي نقل المعركة إلى أرض الخصم، وحجتها أنها مهددة وتستبق الحروب لدرء الأخطار المحدقة بها.
– العداء لإسرائيل لكسب أكبر شريحة ممكنة من الاجتماع السني العربي بخاصة، ورفع شعارات يسارية النكهة ضد الغرب والعولمة والرأسمالية.
وفي السياق نفسه، على الأطراف التي تعاني من ممارسات إيران الثورجية أن تظهّر مواقفها للأميركيين من الحزبيين والمستقلين، وتؤكد أنها لا تسعى لاقتلاع إيران من المنطقة بل لعلاقات طبيعية معها دون أن يتدخل طرف بشؤون الطرف الآخر.
إن التشخيص مهم إنما غير كافٍ، والأهم هو أن تضع القوى الكبرى المعنية في الشرق الأوسط استراتيجية للخروج من الأزمات والنزاعات القائمة عبر تسويات مستدامة يكون لأميركا دور حاسم في صياغتها وتطبيقها، ودون ذلك، ستستمر المنطقة في الدوران في حلقة مفرغة قوامها تسويات قسرية أو ناقصة بأحسن الأحوال، تحمل بذور نزاعات وحروب جديدة أشد تدميراً. إن الدور الأميركي مهم ليس لسحر أو افتتان بالأميركيين، إنما للحاجة إلى من يستطيع إعادة التوازن إلى المنطقة عبر عودة الأطراف المتنازعة في الإقليم أو خارجه إلى أحجامها الطبيعية دون انتفاخ أو ضمور، وعندها تستقيم كل المفاوضات وتسلك السبيل الصحيح لحل النزاعات. وإلا يصح الزعم الرائج في واشنطن أن الشرق الأوسط فقد أهميته الاستراتيجية ومن الصعب استعادتها ولا سبيل لإنقاذه من الصراعات الناشبة فيه.
سامي منسي
الشرق الاوسط