يطرأ على مسامعنا بين حين واخر وخصوصا عندما يفارق الانسان موطنه وأهله وناسه عبارة يرددها بعض المغتربين الميسورين:” ان المال في الغربة وطن ” رغم اني كنت اتحفظ دائما على هذه العبارة كونها تناقض الواقع بكل تفاصيله ومدلولاته ، بدليل ان الانسان الغني يستطيع ان يشتري اغلى ساعة في الكون، لكنه لا يستطيع ان يشتري معها الوقت، ويستطيع ان يحصل بماله على منصب، ولكن لا يستطيع ان يأخذ معه الاحترام، ويستطيع ان يمتلك اثمن سرير نوم في العالم، ولكن لا يستطيع ان يحصل معه على النوم ، فما بالكم بالوطن ” الأم الكبيرة ” التي نحمل اسمها أينما رحلنا او ارتحلنا!!!
عقد ونيف من سنوات القهر العجاف ، شاب فيها الوليد لشدة الحزن والاسى وكرب الأيام ، وانحنت فيها ظهور الفتيان وتهاوت فيها قدرات البشر ، لم يمر شعب بحجم الويلات والنكبات وسعير الحرب والة القتل والدمار وسياسة التهجير والنزوح وألم الفاقة والعوز الذي عاناه شعب العراق الذي كان يوماً يمد يد العون والخير والإنسانية لجياع الأرض ، لما يعرفه العالم عنه بانه بلد السواد .
اليوم يندب العراقيون حظهم العاثر، فقد ضيع الساسة الجدد هيبة وطنهم وكرامة رجالهم وعفة نسائهم ، فلم يعد لهم وطن يحميهم ولا دار تأويهم ولا ارض تقبل وطأ اقدامهم فيها ولا اسلام يوحد فرقتهم ولا دين يحرم دمهم ولا نزيه يحفظ أموالهم واعراضهم ، فقد اصبحوا غرباء في موطن اجدادهم ودخلاء في بيوت ابائهم ، اما الغرباء فقد اصبحوا اهل الدار واستوطنوها جهارا نهارا ، بعد ان سخرها لهم عملاؤهم وزبانيتهم ليجعلوها مستباحة لاسيادهم .
في بلاد اوروبا يصبح اللصوص زعماء في النوادي الليلية وبيوت الهوى وفي أمريكا يصبحون زعماء للفساد والاعمال القذرة ولكن في وطني العراق يصبحون زعماء للبلاد فيتحكمون برقاب العباد ، اليوم هؤلاء الساسة الذين يتزعموننا حولوا بلدنا الى سوق للقتل والبيع والهجرة والنزوح والاقصاء والحرمان، وكل ذلك بالمجان فما بالكم بسوق يفتح بكل هذه الأصناف وبضاعته بالمجانّ!
أصبحت معاناة أبناء الوطن تجارة رائجة ورابحة بين مكاتب السياسيين المتعطشين للدماء والثراء ، هؤلاء المجرمون اوصلوا المواطن الى حالة من هيستيريا الأفعال التي يصعب على كل انسان ان يتجاوز محنها وهمومها ما جعلت عيونهم خالية من الدموع لكثرة ذرفها على وطنهم ومساكنهم التي خلت من رائحة الاهل ولم تتسع اليوم الا لرائحة البارود ، بعدما كانت عامرة تفوح من جدرانها رائحة الهيل والمسك والعنبر ، أبناء الوطن باتوا فقراء ومساكين ومهجرين بعد ان كانوا يتسابقون على الغريب ويملؤون جيوبه بالمال .
أي وطن هذا الذي لا يسمح لابنائه الذين اجبرتهم قساوة الإرهاب الممنهج على يد قادة تركوهم فريسة تنهش أجسادهم وحوش الصحراء ولم يبق امامهم سوى جسر عائم يفصل عاصمة بلادهم عنهم ليمنحهم طوق النجاة ، فبخس البخلاء بالكرماء ولم يجدوا غير ورقة كتب عليها ” لا تدخلوها الا بكفلاء ” حتى اضحينا مواطنين بلا وطن .
بقلم: إسماعيل الجنابي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية