أذاعت وسائل إعلام النظام السوري خبر قصف أحياء يسيطر عليها النظام بغاز كيميائي مما أدى لسقوط عدد كبير من المصابين، واتهمت المعارضة السورية بالأمر، قائلة إن القصف جاء من المناطق المنزوعة السلاح في إدلب، وهو أمر سخرت منه المعارضة واعتبرته مسرحيّة سخيفة من تأليف الكرملين وحكام دمشق.
يأتي الأمر بعد تطورين ملحوظين، تمثّل الأول بسقوط ناشطين مدنيين شهيرين في محافظة إدلب وتصاعد الغضب ضمن اتجاهات المعارضة السورية عموما من دور ممكن لـ«جبهة النصرة» في الاغتيال، فالناشطان كانا من المنتقدين لممارسات «الجبهة» وانتهاكاتها، والثاني، هو اتخاذ منظمة حظر استخدام السلاح الكيميائي التابعة للأمم المتحدة قرارا بتسمية القائمين باستخدام هذا السلاح بعد اعتراض شديد من روسيا ومجموعة من الدول الحليفة أو المتعاطفة معها.
ليس هناك صعوبة في فهم رغبة النظام في استغلال موضوع مقتل الناشطين المدنيين (الذي ما كان هو نفسه ليتردد في قتلهما طبعا) للتمهيد لدخول قوات الرئيس السوري بشار الأسد إلى إدلب «لحفظ النظام» و«محاربة الإرهابيين»، ولا في ربطه أيضاً بالرغبة في قلب الطاولة على المنظومة الدولية فيما يخص استخدام السلاح الكيميائي بادعاء أن «المعارضة السورية» هي التي استخدمته هذه المرة.
يلخّص الحدث الملابسات المعقدة التي تربط بين النظام السوري وروسيا والمنظومة الدولية في خصوص استخدام السلاح الكيميائي، والمصلحة المشتركة لدمشق وموسكو في إخفاء التشابهات الفاضحة بينهما في هذا الموضوع، فكلاهما يستخدم هذا السلاح للقضاء على الخصوم وللانتقام والترهيب، وفيما يقوم نظام الأسد باستخدام الكيميائي ضمن الجغرافيا السورية وضد السوريين فحسب، فإن موسكو لديها شبكة تجسس كبرى عالمية فإنها تستخدم الغاز الكيميائي ضد خصومها من الجواسيس المنشقين أو المعارضين في الخارج، كما استخدمته على أراضيها خلال أزمة رهائن مسرح موسكو عام 2002 مما أدى لمقتل 39 مهاجما و129 من الرهائن عبر ضخ غاز كيميائي في فتحات التهوية في المبنى قبل اقتحامه.
وكما حاول النظام السوري فرض استخدام سلاح الإبادة الجماعية هذا منذ بدء الثورة السورية عام 2011 ومن دون توقف، واعتماد حماية حليفه الروسي في مجلس الأمن لحمايته من أي قرارات تعاقبه على انتهاكاته، فإن موسكو أيضاً لا تني تكرر استخدام هذا السلاح بطريقة فاضحة تترك أثرا ولسان حالها يقول إن الروس أقوياء ومرهوبون ويمكنهم أن يعاقبوا المنشقين عنهم في أي مكان.
يذكّر هذا طبعاً بالأفلام والروايات البوليسية التي تكشف ميل القتلة إلى ترك «بصمتهم» الخاصة للافتخار بعمليتهم، وهو أمر مشابه لما يفعله حكام موسكو ودمشق ولسان حالهم يقول إنهم قادرون أيضا على ترك توقيعهم على جثث القتلى لأنهم لا يأبهون بالقوانين الأممية أو المحلية.
ما يثير الأسى أن سلوك حكام دمشق وموسكو على فظاظته ووضوح مقاصده يتحول إلى مثال يحتذى في العلاقات الدولية وتقوم أطراف كثيرة بتبني جوهره، فجريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي حملت بدورها «بصمة كيميائية»، وكذلك عملية اغتيال الأخ غير الشقيق للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون بغاز الأعصاب التي جرت في مطار كوالالمبور في ماليزيا عام 2017، ورغم أن هذه «البصمة» لم يتم اعتمادها من قبل دول أخرى بعد لكن منطق الانتقام والإرهاب والإجرام بحق شعوب وجماعات بأكملها وخصوم سياسيين ينتشر في أرجاء المعمورة، على يد أنظمة متسلطة وشمولية كما هو الحال في ميانمار ضد الروهينجا، والصين ضد المسلمين، وربما نشهد قريبا حصول ذلك بأيدي اتجاهات اليمين المتطرف والشعبوي في أنظمة ديمقراطية.