لماذا تغير الموقف الإسرائيلي تجاه غزة؟

لماذا تغير الموقف الإسرائيلي تجاه غزة؟

ربما يكون بنيامين نتنياهو بصدد تغيير رأيه بشأن الحرب مع غزة. وإذا فعل، فسيكون ذلك بسبب الكارثة البيئية والصحية التي يواجهها القطاع، والتي تهدد بعبور الحدود.
*   *   *
قد يعكس وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بين إسرائيل وحماس في الأسبوع الماضي، في أعقاب توغل عسكري إسرائيلي وإطلاق الصواريخ الانتقامي من غزة، وعياً متزايداً داخل إسرائيل بأن الحرب ليست في مصلحة البلد. وفي القلب من هذا الموقف، ثمة الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة، والتي تهدد بالتسرب عبر الحدود.
على مدى أشهر، حذرت الأمم المتحدة وغيرها من الجماعات الإنسانية من أن غزة -بمشاكلها المتداخلة من الفقر والبطالة وسوء التغذية والمياه الملوثة والأمراض- ستكون “غير قابلة للعيش فيها” بحلول العام 2020. كما حذرت الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة “أنقذوا الأطفال” ومجموعات أخرى، من أن استمرار القصف الإسرائيلي والحصار الاقتصادي قد يؤديان إلى حالة من الانهيار في غزة، والتي لن تكون إسرائيل محصنة ضدها.
وليست هذه التحذيرات جديدة. لكن الفرق الآن هو أن الناس في مركز السلطة في إسرائيل أصبحوا يستمعون على ما يبدو. وتلقي استقالة وزير الدفاع الإسرائيلي المتشدد، أفيغدور ليبرمان، الذي وصف اتفاق وقف إطلاق النار بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه “استسلام للإرهاب”، ضوءاً على هذا الاتجاه. وكان ليبرمان قد أصر على وجوب أن “تضرب (الحكومة الإسرائيلية) حماس بشدة”. وفي حين أن دعواته ربما لقيت الاستجابة في السابق، فقد تم تجاهلها هذه المرة. بل إن نتنياهو عمد في الأسابيع الأخيرة التي سبقت توقيع وقف إطلاق النار إلى تخفيف الحصار الاقتصادي الإسرائيلي المضروب على غزة. وتشير كلتا الخطوتين إلى تكوّن فهم بأن إطلاق حرب رابعة ربما لن يكون هو الحل للتعامل مع قطاع غزة المدمر.
في قلب الأزمة الإنسانية في غزة، واقع المياه الملوثة وما يترتب عليها من ارتفاع في انتشار الأمراض والأوبئة، خاصة بين الأطفال. ويُبلغ الأطباء والمسؤولون الصحيون في مستشفيات ومخيمات غزة عن ارتفاعات محلقة في معدلات الإصابة بأمراض المعدة والأمعاء، والسالمونيلا، وحمى التيفوئيد، وأمراض الكلى، والتقزم عند الأطفال، وحتى عن مرض يدعى متلازمة الطفل الأزرق، “شفاه مزرقة، وبشرة مزرقة، ووجه مزرق” عند الأطفال الرضع، كما يقول محمد أبو سامية، مدير قسم طب الأطفال في مستشفى الرنتيسي بغزة. وأضاف أبو سامية أنه يشاهد أيضاً ارتفاعاً في مرض الهزال، الذي ينجم عن سوء التغذية الحاد عند الرضع والأطفال الصغار. كما أكدت دراسات مستقلة حدوث طفرات في فقر الدم ووفيات الرضع والتقزم. وربطت دراسة أجرتها مؤسسة “راند” بين نوعية المياه السيئة وبين ارتفاع معدل وفيات الأطفال في غزة.
السبب الرئيسي لانتشار العديد من هذه الأمراض هو طبقة المياه الجوفية في غزة، التي تلوثت بثبات على مدى عقود من جراء استخدام مبيدات الآفات الزراعية، وتسرب مياه الصرف الصحي، وتغلغل مياه البحر المالحة نتيجة الإفراط في ضخ المياه. وقد أصبح 97 في المائة من آبار مياه الشرب في غزة غير صالحة للاستهلاك البشري بالكامل. ونظراً لأن مياه الآبار مالحة للغاية، فإن ثلثي سكان غزة يعتمدون على شبكة غير منظمة من شاحنات صهاريج المياه الخاصة، والتي تقوم هي نفسها بإيصال مياه مصابة ببكتيريا الإشريكية القولونية التي تصيب الأمعاء الغليظة. وفي غضون ذلك، بلغ مستوى التلوث في خزانات المياه على السطح، وفقاً لاختبارات هيئة المياه الفلسطينية، 70 بالمائة. ويمكن أن تؤدي بكتيريا الإشريكية القولونية إلى إسهال شديد، والذي يؤدي بدوره إلى تقزم الأطفال. ويقول غريغور فون ميديزا من منظمة اليونيسف: “ما يعنيه ذلك أيضاً هو التسبب بعائق لنمو الدماغ. سيكون لديكَ في الواقع تأثير ملموس على معدل ذكاء هؤلاء الأطفال أثناء نموهم”.
ومما يجعل الأمور السيئة أكثر سوءاً أن هناك ما يقدر بنحو 29 مليون غالون من مياه الصرف الصحي الخام أو المعالجة بشكل سيئ، والتي تصب في البحر الأبيض المتوسط كل يوم. وقد تسبب التلوث في إغلاق شواطئ غزة وأدى إلى وفاة الطفل محمد السايس، البالغ من العمر 5 سنوات، الذي ابتلع مياه البحر الملوثة بالمياه العادمة، ثم توفي بعد ذلك بمرض في الدماغ. وكانت هذه أول وفاة موثقة في غزة بسبب مياه الصرف الصحي. ومع تشغيل محطة الطاقة الكهربائية في غزة لفترة تقل عن أربع ساعات في اليوم -فيما يرجع جزئياً إلى الحصار الاقتصادي الذي تفرضه إسرائيل، والذي تسبب في نقص الوقود اللازم لتشغيل المحطة- فقد تم إغلاق محطة معالجة مياه الصرف الصحي في غزة تقريباً.
يقول جيرشون باسكن، مؤسس “إسرائيل فلسطين: مبادرات إقليمية إبداعية”، وهي مؤسسة أبحاث في القدس: “الأمراض والأوبئة في تصاعد. ومن المهم أن نتذكر من وجهة النظر الإسرائيلية أن هذه الأمراض الفيروسية والبكتيرية تقوم بعبور الحدود”. وهناك بعض الإسرائيليين الذين يستمعون إلى إنذاره. ووفقاً لجدعون برومبرغ، مدير منظمة “السلام البيئي للشرق الأوسط”، التي مقرها في تل أبيب، فقد أدى التلوث حتى إلى “إغلاق محطة تحلية مياه عسقلان، التي توفر 15 % من مياه الشرب في إسرائيل”. وبعد كل شيء، “تملك إسرائيل نظام القبة الحديدة الذي يمكن أن يُسقط الصواريخ. ولكن لا شيء يوقف مياه المجاري”.
وهكذا، قد تكون الكارثة البيئية والصحية المتصاعدة هي الشيء الذي سيغير في النهاية سياسة إسرائيل تجاه غزة.
لا شك في أن انتقاد الجماعات ذات الميول اليسارية لآثار الحصار الإسرائيلي على صحة سكان غزة مهم بالتأكيد. لكن التضامن المؤيد للفلسطينيين لم يعد هو المحفز الوحيد. ففي كانون الثاني (يناير)، أثار تقرير لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي تساؤلات حول استبعاد بعض المواد “ذات الاستخدام المزدوج” من الدخول إلى غزة، وهو ما تبرره إسرائيل على أساس أن بالوسع تحويل بعض هذه المواد للاستخدام العسكري. وأعلن التقرير أن “القيود الشديدة المفروضة على الوصول والحركة التي تفرضها إسرائيل ومصر قد أعاقت عمليات الإصلاح وإعادة البناء لما بعد الصراع”. ويشكل وصف إسرائيل للمواد ذات الاستخدام المزدوج “23 مادة أساسية” تستخدم في قطاع المياه والصرف الصحي والنظافة في غزة، “مثل المضخات ومعدات الحفر والمواد الكيميائية اللازمة لتنقية المياه”.
وهناك شيء أكثر كشفاً أيضاً: في هذا العام، صادقت وحدة من جيش الدفاع الإسرائيلي على خطة جاءت من السلطة الفلسطينية، وممثلي الأمم المتحدة، ومانحين دوليين، لمعالجة أزمة المياه والصرف الصحي من خلال إنشاء سلسلة من محطات التحلية والمعالجة. وحذرت الوثيقة غير المنشورة، التي صدرت عن منسق أنشطة الحكومة في الجيش الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية، والتي تحمل عنوان “الاستجابة الطارئة لغزة”، من أن “السكان المدنيين في قطاع غزة يعانون من أزمة كبيرة”، ودعا إلى “استجابة إنسانية فورية”. (مع ذلك، كان الغائب بشكل خاص هو أي ضمان يرافق ذلك بأن الجيش الإسرائيلي لن يستهدف المنشآت الجديدة، وهو مصدر قلق بالغ بين الغزيين، بالنظر إلى أن إسرائيل قصفت البنية التحتية الحيوية للمياه والطاقة في الماضي).
في الشهر الماضي أيضاً، بدأت إسرائيل أيضاً بالسماح بزيادة شحنات الوقود لمحطة توليد الكهرباء في غزة، مما أدى إلى مضاعفة زمن إمداد التيار الكهربائي إلى نحو ثماني ساعات في اليوم. وفي الوقت نفسه، غضت إسرائيل الطرف عن تسليم 15 مليون دولار من الأموال القادمة من قطر إلى غزة لدفع مرتبات موظفي القطاع العام في القطاع.
الآن، بعد عقد من الحروب وسقوط آلاف الضحايا -الغالبية العظمى منهم من سكان غزة- يبدو أن المسؤولين الإسرائيليين أصبحوا يأخذون على محمل الجد التحذيرات الخطيرة القادمة من الأمم المتحدة وغيرها من الجماعات الإنسانية. وقال نتنياهو لصحيفة “هآرتس” بعد فترة وجيزة من إعلان وقف إطلاق النار الأخير: “إننا نعمل على منع حدوث أزمة إنسانية، وهذا هو سبب استعدادنا لقبول جهود الأمم المتحدة وجهود الوساطة المصرية للوصول إلى الهدوء وإصلاح وضع الكهرباء (في القطاع)”.
هذا التغيير في السياسة الإسرائيلية، مهما كان مؤقتاً، يستجيب لتحذير قديم من سكان غزة. وقال عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في غزة: “إذا كنت تريد حقاً تغيير حياة الناس في غزة، فعليك حل مشكلة المياه أولاً. وبخلاف ذلك، سوف ترى انهياراً كبيراً في كل شيء؛ بخلاف ذلك، لن تكون غزة مكاناً صالحاً للعيش”.