هتفت الجماهير البرازيلية بحماس بالغ «ميلو Milo» أو «الأسطورة» عندما ذكر رئيسهم الجديد جير بولسونارو، فى خطابه الحماسى، أن بلاده لن تعرف أبدا اللون الأحمر «اللهم إلا إذا كانت هناك حاجة لبذل الدماء لكى يبقى العلم أخضر وأصفر»، وهى ألوان الأصالة فى علم البرازيل. لم يكن يوم بداية العام الجديد عاديا، فلم يكن الحال أن رئيسا جديدا قد جرى تنصيبه، وإنما فيما بدا من خطابه أن الزمان قد دارت دورته دورة كاملة، عندما أعلن، فى صراحة ووضوح لا شك فيه ولا لبس، أنه سوف يخلص البرازيل من الاشتراكية، والمثالية السياسية (وهو التعبير الذى يفضله المحافظون عن الليبرالية)، والأيديولوجيات التى تدافع عن قطاع الطرق (هؤلاء الذين يحصلون على دخل بدون عمل حقيقى ويسلبون نصيب غيرهم من العاملين والناجحين). كانت الكلمات ملتهبة، والجماهير متحمسة، وأكثر من ذلك متفائلة بمستقبل الدولة، فطبقا لاستطلاعات الرأى العام فإن نسبة المتفائلين ارتفعت من ٢٣٪ إلى ٦٥٪، واستند هؤلاء إلى وعود الرئيس بأنه سوف يقاوم الفساد والجريمة وخيبة الأمل الاقتصادية. ولأن الكلام يصدقه العمل فقد اختار الرئيس «باولو جيدويس» المتخرج فى جامعة شيكاغو (حيث مدرسة الليبرالية الاقتصادية الجديدة) «قيصرا» للاقتصاد، و«سيرجيو مورو» وزيرا للعدل لكى يكون سيفا باترا للعدالة لكى ينفذ برنامج الرئيس فى مقاومة الفساد والجريمة، وهو الرجل الذى قام من قبل بإدانة الرئيسة السابقة للدولة ديلما روسيف، ومعها أبوها الروحى رئيس الجمهورية الأسبق أيقونة اليسار البرازيلى وحزب العمال لولا دى سيلفا، المتهمان بالفساد، وإهدار المال العام فى استضافة البرازيل للدورة الأوليمبية.
لمن يتابعون البرازيل فإن أحوالها انقلبت رأسا على عقب، وهذه المرة من اليسار إلى اليمين، وبحماس شعبى كبير، على الأقل حتى لحظة تولى الرئيس الثامن والثلاثين للبرازيل. لم يكن فى الأمر مفاجأة كبيرة، فرغم أن بولسنارو لم يكن جديدا على السياسة البرازيلية، وأنه كان عضوا فى مجلس النواب لسنوات طويلة، إلا أن آراءه المنافية للمرأة والمثليين والسود كانت تعتبر خروجا عن السياق العام للنخبة السياسية البرازيلية التى تأرجحت بين الليبرالية والاشتراكية منذ دخلت إلى العصر الديمقراطى عام ١٩٨٥ بعد سنوات من الاستقلال (١٨٢٢) وإعلان الجمهورية (١٨٨٩) وسنوات طويلة من الحكم السلطوى والانقلابات، ورغم تعدد النظم والتوجهات فإن البرازيل باتت معروفة، بالإضافة إلى كرة القدم وموسيقى السامبا، بأنها واحدة من أسوأ دول العالم توزيعا للثروة مهما كان الحكم رأسماليا أو اشتراكيا، وعندما حاول دى سيلفا سد الفجوة عن طريق رفع الحد الأدنى للأجور فى مرات متتابعة، كانت نتيجته حالة مزمنة من التضخم لم تبتلع فقط الزيادة، وإنما معها كم هائل من الصبر الذى نجم عنه انتقال الثورة من الهتاف للرئيس كاردوسو، ومن بعده دى سيلفا، ثم روسيف على اليسار إلى بولسونارو على أقصى اليمين. انتقل من كان على هامش السياسة إلى قلبها، تماما كما جرى من قبل فى بولندا والمجر وإيطاليا، والولايات المتحدة الأمريكية، فلم تكن صدفة أن دونالد ترامب كان أول المهنئين للرئيس البرازيلى الذى لم يترك فرصة إلا وانتهزها معلنا الولاء الكامل لسكان البيت الأبيض، ومتبعا لسيرته فى نقل السفارة البرازيلية من تل أبيب إلى القدس.
التجربة البرازيلية هكذا تدخل منعطفا جديدا، لم يعد فى الحقيقة جديد على التجربة العالمية عند نهاية العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين. فالبرازيل كدولة، رغم كل شىء، تظل من الدول ذات القدر فى الاقتصاد العالمى بناتج محلى إجمالى قدره ٣.٥ تريليون دولار مقوما بالقدرة الشرائية للدولار، وبالقيمة الإسمية ١.٩ تريليون دولار. وهى عضو بارز ودولة مؤثرة فى إقليم أمريكا الجنوبية، بل إنها عضو معتبر فى مجموعة «البريسك» التى تضمها مع الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا. هى مجتمع متعدد الأعراق، ومتنوع الأديان، ورغم استعمارها من البرتغال عام ١٥٠٠ (تقريبا قبل ١٧ عاما من الغزو العثمانى لمصر)، فإنها استقلت فى وقت مبكر فى مطلع القرن التاسع عشر (كما جرى فى مصر مع تولى محمد على فى ١٨٠٥). وبشكل ما فإن البرازيل قامت وتمحورت تاريخيا وجغرافيا حول حوض نهر الأمازون (يقابل نهر النيل فى مصر) ومع ذلك فإن المفارقة تبقى قائمة بين تقلبات الدولة، والشعب، والسياسة، بين اليمين واليسار. لا كانت كرة القدم كافية، ولا موسيقى السامبا، ولا إسقاط الرئيس تلو الآخر، كافية لكى تستقر البرازيل على حال. القضية فى البرازيل لم تكن الرئيس، وإنما ماذا يريد الشعب حقا؟!.
عبدالمنعم السعيد
المصري اليوم