من بين المعضلات الأمنية العديدة التي أثارها قرار الرئيس ترامب بالانسحاب المبكر من سوريا هو كيفية التعامل مع المواطنين الغربيين الذين قُبض عليهم هناك يقاتلون في صفوف “الدولة الإسلامية”. ولا يزال المئات من هؤلاء الجهاديين محتجزين من قبل “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الأكراد في الجانب الشمالي الشرقي للبلاد، ومن غير الواضح إلى متى يمكن أن يستمر ترتيب الاحتجاز هذا بعد مغادرة الجزء الأكبر من القوات الأمريكية.
وتساهم تصريحات الرئيس الأخيرة في تعقيد المسألة على نحو أكبر. فبعد أن زعم مرارًا وبشكل مغلوط أن استعادة الأراضي التي كان تنظيم “الدولة الإسلامية” يسيطر عليها تعادل هزيمة التنظيم الكاملة، غرّد في 16 شباط/فبراير قائلًا إنه على الدول الأوروبية أن تعيد وتحاكم المقاتلين في صفوف “الدولة الإسلامية” الذين يُقدّر عددهم بنحو 800 فرد وتحتجزهم “قوات سوريا الديمقراطية”. وأضاف أن “البديل ليس جيدًا إذ سنكون مرغمين بموجبه على إطلاق سراحهم”. ولا شكّ في أن أجهزة الأمن الأوروبية تدرك تمامًا التهديد الذي قد يطرحه هذا الأمر ولم يفعل الرئيس سوى تأجيج هذه المخاوف حين غرّد “لا ترغب الولايات المتحدة في أن تتفرج بينما…يغزو هؤلاء المقاتلون أوروبا، وهو المكان الذي من المتوقع أن يتوجهوا إليه…حان الوقت أن يتحرك الآخرون”. غير أن محاكمة مقاتلي “الدولة الإسلامية” في أوطانهم تطرح مزيجًا من التحديات القانونية والإصلاحية والاستخباراتية، ولا تقدّم في الوقت نفسه رهانًا أكيدًا على أن العائدين سيحجمون عن تنفيذ أي أعمال إرهابية على المستوى المحلي.
العقبات أمام العودة إلى الوطن
لا تزال العديد من الآليات العملية الضرورية لإعادة المجاهدين الغربيين بأمان إلى أوطانهم قيد الدرس إلى حدّ كبير، على غرار إيجاد أدلة مقبولة كافية لمحاكمتهم وإعادة دمج الأفراد المتطرفين للغاية والعنيفين أحيانًا من جديد في المجتمع ما إن يمضوا مدة عقوبتهم. وغالبًا ما تصدر الحكومات الأوروبية أحكامًا بالسجن لفترات قصيرة أو تُسقط حتى التهم بحق المواطنين الذين سافروا إلى الخارج من أجل القتال بالنيابة عن منظمات مصنفة على أنها إرهابية. على سبيل المثال، تم إعفاء جميلة هنري، وهي مجاهدة بريطانية أمضت ستة أشهر مع “الدولة الإسلامية” في “عاصمة” التنظيم السابقة في الرقة في سوريا، من عقوبة الحبس عند عودتها إلى بلادها قبل عدة سنوات. وتشير تقارير أخرى إلى أن بريطانيا لم تحاكم سوى واحد من أصل عشرة عائدين من سوريا لغاية الآن.
كما أن الضغوطات غير الضرورية لإعادة المشتبه بهم بسرعة إلى أوطانهم تلقي ثقلًا إضافيًا على الأجهزة الأمنية وسط تقييمها ما إذا كان عليها تعقّب العائدين، وكيفية فعل ذلك، ما إن يخرجوا من السجن. وكان انتهى المطاف بعدد من الأفراد المقيّمين على أنهم يشكلون “خطورةً منخفضة” في تنفيذ هجمات إرهابية، أشهرها عملية إطلاق النار على مجلة “شارلي إيبدو” في كانون الثاني/يناير 2015، التي ارتكبها فرنسيون التقوا لأول مرة كأفراد في جماعة أرسلت مسلمين محليين لمحارية قوات التحالف في العراق. ويمكن لمعضلات إصدار الأحكام والمراقبة أن تبرز في أماكن قريبة من الوطن الأم أكثر مما قد يدركه صناع السياسة الأمريكيون – فعلى سبيل المثال، أطلقت كندا مؤخرًا سراح الجهادي كيفن عمر محمد رغم أنه يُعتبر “تهديدًا كبيرًا للسلامة العامة” بعد انضمامه إلى أحد فصائل تنظيم “القاعدة” في سوريا.
ونظرًا إلى هذه التحديات، تتوخى العديد من الدول الحذر إزاء السماح لأفراد من “الدولة الإسلامية” بالعودة إلى ديارهم. فخلال الأسبوع الماضي وحده، أعلنت كل من هولندا وسويسرا أنهما لا ترغبان في إعادة مثل هؤلاء المواطنين، في حين تخبطت بريطانيا بالمشكلة القانونية الدقيقة المتمثلة بتجريدهم من جنسيتهم. وبعد ثلاثة أيام على تغريدة الرئيس حول العودة إلى الوطن، سحبت الحكومة البريطانية جنسية شميمة بيغوم، التي كانت قد بايعت “الدولة الإسلامية” في سوريا وأعلنت أنها لا تندم على قرارها هذا. وزعمت لندن خطأً أنها تحمل جنسيةً ثانية وهي البنغلادشية، حيث في الواقع لديها إرث عائلي فحسب هناك – ما تسبب بوضع حرج لدولة أخرى قد لا تملك القدرة على التعامل مع قضايا مماثلة. وبرزت هذه الديناميكية نفسها بين أستراليا وفيجي في ما يتعلق بجنسية نيل براكاش، العائد من سوريا. ولسخرية القدر، يبدو أن الرئيس ترامب يفهم جيدًا معضلة العودة إلى الوطن حين يواجهها بشكل مباشر – ففي تغريدة نشرها في 20 شباط/فبراير، أمر وزارة الخارجية بعدم السماح لهدى مثنى بالعودة إلى الولايات المتحدة بعد انضمامها إلى “الدولة الإسلامية” في سوريا.
الحلول المحتملة – والطرقات المسدودة
تدرس دول الغرب مجموعةً من المقاربات لمعالجة هذه المشاكل، رغم أنها تتطلب جميعها وقتًا كافيًا لتطبيقها. على سبيل المثال، أقرّت بعض الحكومات الأوروبية أن عتباتها المرتفعة التي وضعتها من أجل توافر أدلة للمحاكمة قد تصعّب اتخاذ خطوات بحق العائدين، لا سيما حين لا يُعتبر انضمامهم إلى جماعة محددة جريمةً خطيرة في مثل هذا الاختصاص القضائي. وعليه، قد تحذو بعض الدول قريبًا مثال أستراليا من خلال اعتبار السفر إلى بعض أقسام المناطق الأجنبية التي تشهد حروبًا غير قانوني (مثلًا الرقة)، ما يسمح للسلطات بمحاكمة العائدين لمجرد ذهابهم إلى هذه المناطق التي يُعرف أنها خاضعة لسيطرة مجموعات إرهابية. وتنظر دول أخرى في إجراء تغييرات قانونية من أجل جعل المزيد من الأدلة مقبولةً في المحكمة – على سبيل المثال وبحسب ما يتردد، يقترح مستند جديد صادر عن الحكومة الإسبانية السماح للمدعين العامين باستخدام عينات الحمض النووي والمستندات وغيرها من المواد التي تمّ الحصول عليها من الجيوش الأجنبية، ما قد يساعدهم على توجيه التهم إلى العائدين في أعمال إرهابية محددة بدلًا من الاكتفاء بتهمة الانضمام إلى “الدولة الإسلامية”.
وكحل بديل، في حال أثبتت بعض الدول أنها غير راغبة كليًا في استعادة مواطنيها، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية النظر في إقامة ما يشبه “محاكمات نورمبرغ للجهاديين”، آخذةً في الحسبان شهادة سكان محليين والأدلة الجنائية عبر الإنترنت استنادًا إلى تاريخ كل جهادي في ترويج “الدولة الإسلامية” في طريقه إلى أو سفره ضمن الأراضي السابقة للتنظيم. أو، في حال أبدت هذه الدول رغبةً في استرداد مواطنيها، يمكن للنظام القضائي في الولايات المتحدة المساعدة في محاكمات محتملة، مشابهة لقضايا كل من المواطن البريطاني أبو حمزة المصري والكويتي سليمان أبو غيث والبلجيكي نزار طرابلسي.
لكن الولايات المتحدة تواجه عقبات خاصة بها لجهة جمع ما يكفي من الأدلة من ساحات المعارك الإقليمية من أجل محاكمة العائدين. وبالتالي، قد يكون من الأجدى تقديم مساومة لأفراد “الدولة الإسلامية” الأدنى مرتبةً مقابل مساعدتهم في محاكمة أفراد رفيعي المستوى متورطين في جرائم أكثر فظاعة. ومن شأن صفقات مماثلة أن تمثّل ميزة نافذة على نحو خاص للأفراد التواقين إلى العودة إلى ديارهم. ويمكن لعدد عملاء “مكتب التحقيقات الفدرالي” الكبير المنشور أساسًا في الخارج أن يساعد في بناء قضايا ضد هؤلاء الأهداف الأقل تعاونًا والأكثر قيمة.
كما تناقش إدارة ترامب فكرة إرسال بعض العائدين إلى معتقل غوانتانامو – غير أن وزارة العدل رفضت هذا الإجراء، في حين أيّده البيت الأبيض. لكن التاريخ الحديث يشير إلى أن رمي المشتبه بهم في سجون غوانتانامو قد يسفر عن محاكمات بطيئة مع نتائج غير متكافئة. فدرب السجن العسكري لا يبدو منطقيًا كثيرًا حتى عندما يفكر المرء في أن المحاكم المدنية داخل الولايات المتحدة لديها سجل حافل وقوي للغاية في ملاحقة إرهابيين مشتبه بهم بنجاح، من دون بروز مشاكل التصورات الناتجة المرتبطة بمزاعم التعذيب الماضية في غوانتانامو.
وما يثير الاهتمام هو أن جدالات مماثلة انتشرت في الدول العربية قبل ثلاثة عقود بعد الجهاد المناهض للسوفييت في أفغانستان. وكان السياق القانوني والاجتماعي والجيوسياسي مختلفًا جدًا عما يواجهه المسؤولون الغربيون اليوم، لكن نمط الحكومات التي تتخذ مقاربات مختلفة إزاء الجهاديين العائدين لا يزال سائدًا، لذا من المفيد النظر إلى النتائج.
على سبيل المثال، تهاونت السعودية واليمن نسبيًا إزاء السماح لمواطنيها بالعودة، في حين شنت الجزائر ومصر حملة قمع شرسة بحق الأفراد الذين قاتلوا في أفغانستان. لكن الدول الأربع جميعها تعرضت لاحقًا لأعمال شغب وإرهاب نفذها جهاديون – لكن الفارق الرئيسي هو أن الجزائر ومصر واجهت الأمر في وقت أبكر (بين مطلع وأواخر تسعينيات القرن الماضي)، في حين واجهته السعودية واليمن في أوقات مختلفة هذا القرن. وتتمثل نتيجة أخرى في أن المقاتلين الأجانب الذين عجزوا عن العودة إلى ديارهم توجهوا إلى أماكن أخرى: إلى المجتمعات الأوروبية حيث ساعد بعضهم على احتضان الحركات الراديكالية المتواجدة في يومنا هذا أو إلى ساحات معركة أخرى على غرار البوسنة والشيشان. ولا تزال عواقب ذلك التدفق من وإلى أفغانستان بارزة اليوم – وهو إدراك منبه نظرًا إلى أن تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا كان أكبر بكثير.
الخاتمة
إن التحديات التي يطرحها أفراد “الدولة الإسلامية” المحتجزون معقّدة وحساسة من حيث الوقت على السواء. ولسوء الحظ، ساهم تعامل الرئيس مع هذه المسألة – بدءًا بانسحاب بلاده المبكر من سوريا وصولًا إلى إصراره على أن تعيد الدول الأوروبية الشريكة مواطنيها إلى بلادهم حتى وسط إحجام واشنطن عن القيام بالمثل – في مفاقمة التوترات عبر الأطلسي في وقت تشتد فيه الحاجة بشكل كبير إلى التعاون. وطرح في هذا السياق مسؤول أوروبي السؤال التالي في محادثة خاصة: “ألا تدرك إدارة ترامب أن أفعالها في سوريا تقوّض أمننا القومي؟ نحن لا يفصلنا محيط عن سوريا، وهذه المشكلة تحدث في جوارنا”.
من أجل رأب هذا الصدع، على الإدارة أن تساعد السلطات الأوروبية على استحداث أنظمة قانونية جديدة أو وسائل بديلة للمحاكمة، مع التفكير في الوقت نفسه في الدروس المستخلصة من التدفقات السابقة للجهاديين وسياسات الاحتجاز غير الفعالة. غير أنه في حال عدم التوصل إلى حل عملي، وتمّ سحب الغطاء الأمني الأمريكي في شمال شرق سوريا إلى حدّ كبير وسط بقاء المئات من المقاتلين في قبضة “قوات سوريا الديمقراطية”، عندها قد يتخذ تنظيم “الدولة الإسلامية” خطوة بنفسه من أجل تغيير الوضع القائم – ولا سيما، إخراجهم من السجون ومحاولة تأجيج عودته وتمرده، تمامًا كما فعل بين 2012 و2013. وبموجب هذا السيناريو، لا يجب أن تقلق أجهزة الأمن الأوروبية من المؤامرات الإرهابية المحلية والعائدين الخطيرين فحسب، بل أيضًا من احتمال استئناف هجمات إرهابية واسعة النطاق ومنسّقة خارجيًا كتلك المرتبكة بين الأعوام 2004-2005 و2014-2016.