في 17 تموز/يوليو 2018 الفائت، بلغَ آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى لإيران، 79 عاماً. وقد انتشرت الشائعات بأنه يعاني من السرطان منذ أكثر من عقد من الزّمن، وفي عام 2014 نشرت وكالة الأنباء التابعة للدّولة صوراً له وهو معافًى من جراحة البروستاتا. ورغم أنّ توقّعات خامنئي لا تزال حذرة، فإنّ الحكومة الإيرانية تتعامل بوضوح مع خلافته على وجه الاستعجال. ففي كانون الأول/ ديسمبر 2015، تطرّق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الرئيس السابق، إلى الموضوع المحرّم عادةً عندما أقرّ علناً بأن مجلساً داخل مجلس خبراء القيادة، وهو الهيئة التي تختار المرشد الأعلى، كان يقوم بالفعل بفحص الخلفاء المحتملين. وفي مارس الماضي، وبعد انتخاب أعضاء جدد للمجلس لولاية مدتها ثماني سنوات، دعا خامنئي نفسه إلى أن احتماليّة أنّهم سيتوجّب عليهم أن يختاروا بديله ليست باحتماليّة “منخفضة”. المرشد الأعلى هو أقوى شخص في إيران، ولديه سلطة مطلقة على كافّة أرجاء الدولة. وبعد ثلاثون عاما من حكم إيران، نتساءل في هذا السياق: كيف أصبح المرشد الأعلى خامئني الحاكم المطلق في إيران؟
كانت نهاية الثمانينيات -بعد وفاة الخميني- من القرن الماضي هي المرة الأولى لوقوف “علي خامنئي” متحدثا أمام مجلس خبراء القيادة، في محاولة يائسة لإقناعهم بالعدول عن اختياره قائلا: “يجب أن نبكي دما على مجتمع إسلامي يختار أمثالي لقيادته”. وربما يتذكر خامنئي لوهلة كلماته ويتساءل اليوم هل كان صادقا حقا؟ ليمضي التصويت على غير رغبته، في ظاهر الأمر على الأقل، بدعم من صديقه آنذاك “علي أكبر هامشي رفسنجاني”، الذي يرفض اختيار لجنة لتولي إدارة البلاد وقتها، ويصر على اختيار مرشد أعلى جديد، لتتم تسمية “خامنئي” في نهاية المطاف كمرشد مؤقت لمدة عام لحين إجراء استفتاء على تعديل الدستور يتعلق بالصفات الواجب توافرها فيمن يتم ترشيحه لمنصب المرشد الأعلى.
اعتبر المراقبون خامنئي مجرّد واحد من مجموعة بدائل محتملة -وليس البديل الأرجح حتّى. وافتقرَ خامنئي، وهو رجل دين يبلغ من العمر 50 عاماً آنذاك، يفتقر إلى مكانة الخميني الشاهقة. بيد أنّ رفسنجاني، أحد المقرّبين إلى الخميني، قد أخبر المجلسَ اجتماع عقد في 4 حزيران/ يونيو 1989، بعد وفاة الخميني بيومٍ، إنّ الخميني اعتبر خامنئي مؤهلاً لهذا المنصب. وانتخبت المجموعة خامنئي بأغلبيّة 60 صوتاً مقابل 14 صوتاً.
وقد تعهّد خامنئي بالحفاظ على الاستقرار بوصفه المرشد الأعلى، قائلاً في خطاب ألقاه في العام الذي تولى فيه الحكم “أؤكد لكم أنّ إيران تواصل سيرها على طريق الثورة الإسلاميّة، ولن تنحرف عن مبادئ الثورة”. غير أنّه، في الواقع، سرعان اشترعَ في إحداث تغييرات كبيرة في النظام السياسيّ الإيرانيّ. ونظراً إلى مكانة خامنئي الدينيّة المتوسّطة -فلم يكن خامنئي سوى آية الله وليس آية الله العظمى، أو مرجعاً-، فإنّ انتخابه قد انتهك، تقنيّاً، الدستور الإيرانيّ. لذلك سُرعان ما استفت المؤسسة السياسيّة على مجموعة من التنقيحات الدستوريّة التي قد صدّقَ عليها الخميني بالفعل في محاولةٍ للحدّ من التوترات المتعصّبة بعد وفاته. ولم يقتصر الأمر على تخفيض المؤهلات الدينيّة المطلوبة للمرشد الأعلى؛ إذ إنّهم زادوا أيضاً من سلطة المنصب.
وفي وقت لاحق غيَّر خامنئي “الزاهد” الدستور بما يسمح له بالاستمرار في منصبه للأبد، وحتى علاقته مع رفيق دربه “رفسنجاني” لم تدم على حالها. في البدء كان كلا الرجلين ينتميان في ظاهر الأمر إلى معسكر اليمينيين الرأسماليين في النظام الإيراني، من سعوا لاكتساب النفوذ على حساب اليساريين بعد وفاة الخميني. وبالنسبة لخامنئي كانت تلك إحدى تصريفات قدر لم يحسب له من قبل، أما بالنسبة لرفسنجاني فقد كان خامنئي شخصا ضعيفا نسبيا لم يكن ليعوقه في صياغة مشروعه الجديد للدولة، وهو مشروع رغب رفسنجاني في تنفيذه من خلال مقعد الرئاسة لبناء اقتصاد يقوم على القطاع الخاص مع دولة أكثر انفتاحا على العالم الخارجي، رغم اتفاق الرجلين على أهمية الحفاظ على دولة يحكمها رجال الدين.
تمّ تقسيم الجمهوريّة الإسلاميّة في ظلّ الخميني. فعلى اليسار كان هناك أولئك الذين يسعون للحفاظ على سيطرة الدولة على الاقتصاد وفرض سياسات ثقافيّة معتدلة. أمّا على اليمين، فكان هناك أولئك الذين عبّروا عن عدم رضاهم عن تدخّل الحكومة في الاقتصاد، ولكنهم فضّلوا السياسة المحليّة المستوحاة من الشريعة. وقد جمَّعَ الخمينيُّ النظام معاً في الجزء الأعلى مع دعم من المؤسسة الدينيّة -وهم وسطاء السلطة الأصليّة الكامنة خلف الثورة-، مع إعطاء النفوذ لكل جانب في الآن نفسه. إنّ الحسّ المشترك بالنضال خلال الحرب الإيرانيّة العراقيّة، إلى جانب التأثير الشخصي الهائل للخميني والكاريزما الخاصّة به، حافظ على هذه التوترات من الانكسار خلال فترة حكمه. ولكن كانت هناك تحت السطح انقسامات عميقة.
ومع انتهاء الحرب وموت الخميني، دخلَ الاقتتال الفصائليّ والحزبيّ في مرحلة جديدة، وبدأ خامنئي في تعزيز سلطته تدريجيّاً. وخلال فترة ولاية رفسنجاني الأولى من 1989 إلى 1993 كرئيس، تعايش الرجلان سلميّاً، مع تدعيم خامنئي الحذر لخطط رفسنجاني لما بعد الحرب من أجل اللبرلة الاقتصاديّة والتوحيد الإقليميّ، والتسامح حيال جهوده لتعزيز اللبرلة الثقافيّة. سوى أنّ معارضة الأجندة الليبراليّة لرفسنجاني بدأت تتصاعد بين حلفائه المتشدّدين، الذين فازوا في عام 1992 بأغلبّية في البرلمان. وبعد عامين، عارض خامنئي علناً ضدّ رفسنجاني بشأن الميزانيّة، وانتقده بسبب الأزمة الاقتصاديّة المتنامية في البلاد والفساد المنتشر. وتراجع رفسنجاني عن أجندته اللبرلة الثقافيّة وسكّنَ من روع المحافظين من خلال منحهم المزيد من المقاعد في حكومته وزيادة فرص الحصول على الامتيازات الاقتصاديّة. وهكذا، ستستمرّ المنافسة بين خامنئي ورفسنجاني حتى وفاة الأخير، قبلها في هذا العام، مع بزوغ خامنئي على رأس القمة بصورة متكررة.
وكانت المشكلة الثانية لخامنئي هي اكتساب السلطة داخل المؤسّسة الدينية. وحظي خامنئي بدعمها شبهِ الإجماعيّ عندما أصبح المرشد الأعلى، وفي عام 1994، أعلنت جمعية معلمي قم الثانوية، وهي مؤسسة دينّية وسياسيّة مهمّة، خامنئي باعتباره مرجعاً. بيد أنّ عدداً من العلماء شكّكوا بقوة في مؤهلات خامنئي اللاهوتيّة. ولمواجهة ضعفه المُدرَك، شرع خامنئي في رحلة دامت عشرات السنين لبناء دعم دينيّ. وفرضَ البيروقراطيّة المُسيطر عليها من قبل الدولة على قمة الهيكل الدينيّ في قمّ التي جردت آيات الله من استقلالهم الماليّ الذي كانوا يعتزّون به ذات مرّة ووضعَهم تحت سيطرته الضمنيّة. وكافأ مؤيديه بمواقف سياسيّة وامتيازات ماليّة حرمَ منها منتقديه. وتمكّن خامنئي، بهذه السيرورة، من إخضاع مجلس الخبراء، وهي الهيئة الوحيدة التي لها السلطة الدستوريّة لمراقبته.
كما قلّص خامنئي أيضاً، على مدار السنين، بشكل مطّرد من دور الحكومة المنتخبة في إيران، فقد وجد الرؤساء الإيرانيون منذ عهد محمد خاتمي، أن قوتهم تتضاءل في ولايتهم الثانية تجاه المرشد علي خامنئي، ويصبح الرئيس غير ذي أهمية سياسية في صنع القرار. ووضع روحاني اليوم سيئ جداً، فهو في حملته عام 2013 وعد بالاعتدال وبتحسينات اقتصادية كبيرة واستثمارات أجنبية غربية. بعد ذلك تفاوض ووقع على الاتفاقية النووية المتعددة الأطراف؛ لكن هذه الاتفاقية تعرضت لانتقادات شديدة من قبل الصقور في إيران، باعتبارها خطوة غير ضرورية وخطيرة، وتؤدي إلى إقامة علاقات أوثق مع الغرب. ومنع المحافظون روحاني من التفاوض مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، بشأن قضايا غير البرنامج النووي، مثل السياسة الإقليمية الإيرانية، وبرنامج الصواريخ الباليستية، أو إعادة إقامة علاقات دبلوماسية.
لكن ضعف روحاني لا يشكل تهديداً للنظام الإيراني، الذي يعتمد بشكل متزايد على الأجهزة الأمنية بدلاً من شرعيته الشعبية، لضمان بقائه، ثم إنه من مصلحة خامنئي والأجهزة الأمنية أن يكون الرئيس ضعيفاً، ولا يحظى بشعبية، إذ لا يعود بإمكانه تهديد سلطة خامنئي.
حينما صعد خامنئي إلى منصب المرشد الأعلى لم يكن رجل الدين الخمسيني يفتقر إلى المؤهلات العلمية اللازمة لتولي المنصب -حيث لم يكن بلغ رتبة الاجتهاد الديني “المرجعية”- فحسب، ولكن الأهم هو افتقاره إلى الكاريزما اللازمة للحفاظ على مكانته في هرم قيادي متعدد الأقطاب صممه الخميني بقالب يناسب قدراته الاستثنائية. فعلى اليسار وُجد أولئك الذين سعوا للحفاظ على سيطرة الدولة على الاقتصاد مع سياسات اجتماعية أكثر اعتدالا، أمّا على اليمين فكان هناك الرأسماليون اليمينيون -ومنهم خامنئي نفسه ورفيقه رفسنجاني- الذين دعوا إلى عدم تدخل الحكومة في الاقتصاد، ولكنهم رغبوا في فرض تدابير اجتماعية صارمة مستوحاة من الشريعة، ومن خلف الجناحين كانت هناك طبقة العسكريين التي حرص الخميني على إبقاء مسافة بينها وبين النظام السياسي برمته، ومن أمام الجميع وقفت طبقة الحكم الرئيسية ووسطاء السلطة المتمثلة في رجال الدين المتقدمين. لم يمكث خامنئي طويلا قبل أن يشرع في حزمة تغييرات مست جوهر التراتبية الإدارية للنظام السياسي الإيراني لضمان ترسيخ سلطته، بدأها بتعديلات دستورية لم تخفض فقط من المؤهلات العلمية المطلوبة لتولي منصب المرشد الأعلى، ولكنها زادت في نفس الوقت من صلاحياته، معززة سلطة المرشد على الأفرع التشريعية والتنفيذية والقضائية للنظام من خلال استحداث هيئة جديدة للحكم بين السلطات -سيطر عليها خامنئي- تحت اسم “مجمع تشخيص مصلحة النظام”.
من خلال هذه الطريقة، نجح خامنئي في إخضاع وتطويق “مجلس الخبراء”، وهو الجهة الوحيدة المخولة بالرقابة على المرشد في النظام السياسي الإيراني. وفي نفس الوقت، بدأ المرشد في عملية امتصاص تدريجي لصلاحيات الحكومة المنتخبة، مستبدلا إياها بهياكل ظِل -تخضع لإشرافه مباشرة- شملت مجلسا استشاريا للعلاقات الخارجية وجهاز استخبارات موازيا، كما زرع الآلاف من ممثليه في الوزارات والجامعات والهيئات الدينية وحتى القوات المسلحة، مشكّلا هيكلا بيروقراطيا خاصا قلّص بشكل فعلي من الأدوار الموكلة للحكومة، وقلّص المسافة بين الجيش والنظام السياسي، غير أن التغيير الأكبر الذي أحدثه خامنئي في نمط الحكم الإيراني القائم وقتها تمثل في تحالفه الضمني مع الحرس الثوري، مساعدا الكيان القوي على ترسيخ أقدامه في النظام السياسي، للمفارقة، بدعم من رفسنجاني نفسه.
ولترسيخ حكمه في ايران، أقام خامئني علاقة قويّة مع فيلق الحرس الثوريّ الإسلاميّ، وهو القوّة العسكرية الموازية بجوار الجيش النظاميّ، والموالي للمرشد الأعلى، والذي هو مُكلَّف بحماية أمن إيران وطابعها الإسلاميّ. كما إنّ نهجه كان ماليّاً إلى حدّ كبير. فعلى مدى العقدين الماضيين، لمّا سلكت إيران على نحو متقطع سبيل اللبرلة الاقتصاديّة، ساعد خامنئي الشركات التابعة لشركات الحرس الثوريّ الإيرانيّ المملوكة من جانب الدّولة في الشّراء بأقلّ الأسعار الموجودة في السّوق، ووجّه التعاقدات الحكوميّة الرابحة إلى سبيلها. على إثر ذلك، غدا الحرسُ الثوريّ الإيرانيّ قوّة تجارية لها مليارات الدولارات تضمّ مئات الشركات. وتوظّف هذه الشركات مئات الآلاف من الإيرانيين بشكل مباشر، ويعتمد الملايين بصورة غير مباشرة عليها في معاشهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يسيطر الحرس الثوريّ على شركة ختام الأنبياء للإنشاءات، والتي تعدّ أكبر شركة هندسيّة في إيران ويعمل بها أكثر من 160،000 شخص. ولمّا نمت القوّة الاقتصاديّة للحرس الثوريّ، كان له استعداد لتأكيد نفسه سياسيّاً. وجاءت اللحظة الحاسمة في عام 1999، حينما خرجَ آلاف الطلاب إلى الشوارع احتجاجاً على إغلاق صحيفة إصلاحيّة. حيث كتبَ أربعة وعشرون قائداً من قيادة الحرس الثوريّ رسالةً غاضبة إلى الرئيس محمد خاتمي، وانتقدوه لعدم وقف التظاهرات، وناشدوه ضمنيّاً بالاستقالة. فكتبوا “لقد بلغ صبرنا منتاه”، “ولا نعتقد أنه من الممكن التسامح مع أيّ شيء آخر إذا لم يتمّ التصدي لذلك”. وكانت هذه هي المرّة الأولى التي يتدخّل فيها الحرس الثوريّ بصورة مباشرة في السياسة، وقد حيّدت هذه الحركة الأجندة الإصلاحيّة لخاتمي. ونجحت الدّولة العميقة لإيران في إحداث انقلاب ناعم ضدّ حكومتها.
ومنذ ذاك أُضعف الإصلاحيّون وصاروا في الخلف مع تنامي الدولة العميقة. واستمرّ هذا التوجّه في رئاسة محمود أحمدي نجاد، الذي تولى مهام منصبه في عام 2005. كما كان هناك المزيد من المكاتب الحكومية والمقاعد البرلمانية التي غدت يعقدها أعضاء الحرس الثوريّ، وأيضاً سيطرت المنظمات المرتبطة بالحرس الثوريّ على معظم الكيانات التي خُصْخِصَت مؤخرا في ذلك الوقت. ثم حلّت الانتخابات الرئاسيّة المثيرة للنّزاع في عام 2009. فبعدما اندلعت احتجاجات الحركة الخضراء، أشرف الحرس الثوريّ على نهج القمع؛ ممّا زاد من قوّة سلطته.إنّ ما يعتني به المسؤولون في الدولة العميقة بصورة كبيرة الآن هو الدفاع عن مؤسساتهم ضد ما أسموه “حرباً ناعمة” بقيادة الغرب. ومع تفاجئهم على حين غرّة بالتظاهرات في عام 2009، فإنّهم يرون أنفسهم باعتبارهم حرّاساً دائمين ضدّ الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيّون لتقويض إيران. وبينما تستعدّ الدولة العميقة لخلافة خامنئي، فإنّها ستفتّش عن مرشح يمكن أن يساعدها على مواصلة هذا الصّراع.
وما استقالة محمد جواد ظريف من منصبه إلا تأكيد على أن تدار من قبل خامئني والحرس الثوري، ولم يُخف الوزير سبب الاستقالة، بل صرّح لموقع “انتخاب” الإلكتروني، المحسوب على الإصلاحيين: “بعد انتشار صور لقاءات اليوم (لقاءات الأسد)، ليست لجواد ظريف مصداقية كوزير خارجية في العالم”، وأوضح، في تصريح آخر: “استقالتي جاءت للدفاع عن مكانة الوزارة ودورها الحيوي في تعزيز الأمن القومي للبلاد”.يمكن القول إن ظريف فضح النظام الإيراني، والآلية التي يعمل بها، وخرج، عمدا، عن القواعد المتبعة في الدولة، بسبب شعور بجرح في الكرامة، نتيجة عدم دعوته إلى حضور الاجتماع مع الأسد، وهذا يعني، بشكل صريح، أن انخراط إيران في الشأن السوري لا يقع ضمن نطاق عمل وزارة الخارجية، وينسحب الأمر ذاته على الملفات الأخرى التي تتدخل إيران فيها بقوة، مثل لبنان والعراق واليمن.
يعرف العالم أن وزارة الخارجية والوزير ليسا من الدائرة الضيقة التي تقرّر شؤون السياسة الخارجية، ويُدرك العالم أن الوزير والوزارة ينفذان سياساتٍ تضعها دائرة أخرى، تقع تحت سلطة المرشد الأعلى، علي خامنئي، ويعرف العالم أيضا أن مقام الرئيس والرئاسة ذو سلطة شكلية، حين يتعلق الأمر بالمسائل الاستراتيجية، ولكن الجديد أن شاهداً من أهله جاء ليبصم على هذه الحقائق، ويقول بصراحةٍ إن مؤسسات الدولة مهمشة ولا دور لها، ومن يحكم البلد هو المرشد وجهاز حرس الثورة. ولذلك، اقتصر الاجتماع الفعلي بين الأسد والمرشد على جهاز الأمن القومي، وضم الاجتماع الثاني بين روحاني والأسد قاسم سليماني.
توقيت الاستقالة وسياقها يعكسان وضعاً داخلياً لا يحمل إجماعاً حول سورية، كما تصوّره آلة الدعاية الإيرانية. ويبدو أن الخلافات في وجهات النظر وصلت إلى نقطة حرجة، جاءت الاستقالة كي تقدمها في صورة علنية. ومن هنا، لن تقف تداعيات هذه الاستقالة عند هذا الحد، وهي مرشّحةٌ للتفاعل في المدى المنظور.
حين خرجت التظاهرات الاحتجاجية في المدن الإيرانية في أكثر من مناسبة، خلال العامين الماضيين، كان المتظاهرون يرفعون شعاراتٍ تندّد بالتدخل الإيراني في سورية، وعكست الشعارات حالةً من الاحتقان في الشارع، وصار واضحاً أن هناك قطاعات إيرانية ترفض المغامرات الخارجية التي تكلف البلد الكثير، فعلاوةً على تبديد الثروة، للدفاع عن نظام فاسد ومجرم، ولا مستقبل له، في سورية، فإنها وضعت إيران في عزلةٍ دوليةٍ، ودفع المواطن الإيراني من قوته اليومي بسبب الحصار، وهو يدرك أن التدخلات التي تقوم بها المؤسسة العسكرية في بلدانٍ أخرى لن تكون ذات نفع للشعب الإيراني، وهو غير معنيٍّ بها، ولا تهمّه مسألة هيمنة إيران على أربعة بلدان عربية.
ليست استقالة ظريف سوى نقطة البداية في صراع داخلي، وصل إلى قمة الحكم، وما كان لوزير الخارجية أن يرفع صوته عالياً، لو لم يكن واثقاً من أن هناك تياراً عريضاً يقف وراءه. وانعكس ذلك من خلال رفض الرئيس حسن روحاني الاستقالة، وتوقيع 135 نائباً وثيقةً يطالبون فيها الوزير بالعودة عن الاستقالة. وهذا يعني أن هذا الجناح سجل هدفاً في مرمى الاتجاه الآخر الذي يمثله قاسم سليماني، بوصفه مهندس المغامرات العسكرية الخارجية التي يقف وراءها المرشد الأعلى. وقد لا تُحسم المواجهة بين عشيةٍ وضحاها، ولكنها باتت مفتوحةً في وقتٍ تعيش إيران حصاراً اقتصادياً خانقاً، ويمكن لها أن تتطوّر، وتأخذ أبعاداً أوسع تبعاً لآثار الحصار.يتبيّن يوماً بعد آخر أن تدخلات إيران الخارجية في المنطقة العربية ستكون وبالاً على إيران نفسها، وأن نصيبها من الأضرار ليس أقلّ من البلدان التي دفعت الثمن غالياً.
اللافت في الحياة السياسية الإيرانية اليوم، بعد مرور أربعة عقود على الثورة أن الحراك عادة ما يتم نتيجة الالتفاف حول شخصيات ممثلة للاتجاهات السياسية، فالمحافظون متمترسون بالمنظمات والتشكيلات القريبة من الولي الفقيه مثل الحرس الثوري والباسيج والحرس القديم لنظام الولي الفقيه في المؤسسات الدستورية، بينما التيار الاصلاحي ينتج عادة من التفاف حراك الشباب والطلبة حول شخصيات اصلاحية مثل الرئيس محمد خاتمي ومير حسين موسوي ومهدي كروبي، كما حصل فيما عرف بالانتفاضة الخضراء عام 2009 في التظاهرات التي خرجت رافضة نتائج الانتخابات الرئاسية، وقد تحول رموز التيار الإصلاحي إلى رموز ونماذج إصلاحية التف حولها الشباب لتشكيل حركتهم الإصلاحية التي أجهضت. ولم تزل جولات الصراع بين الاصلاحيين والمحافظين مستمرة حتى الآن، في ظل الولاية الثانية لرئيس الجمهورية الإصلاحي حسن روحاني، التي يبدو انها باتت تمثل المعلم الرئيس للاسلام الشيعي في ايران.
تجلى هذا التناقض بين النظرتين على مستويات عدة من النقاش السياسي الإيراني، حتى فيما تعلق بالسياسة الخارجية، ففي أعقاب التوصل إلى الاتفاق النووي مع الدول الكبرى، صورت وسائل الإعلام المقربة من الحرس الثوري وزير الخارجية محمد جواد ظريف على أنه ليس ثوريا حقيقيا، وهي نفس الاتهامات التي طالت وزير النفط بيجن زنكنة الذي وصل إلى منصبه على حساب رستم قاسمي المقرب من الحرس، مشيرة إلى أنه بينما كان ظريف يدرس في جامعة دنفر، كان قادة الحرس الثوري واقفين في الخنادق يقاتلون ضد نظام صدام حسين. غير أن الجنرالات يدركون جيدا حاجتهم إلى التكنوقراط من أجل إدارة الدولة والعلاقات مع العالم الخارجي، ما يضع سقفا مرنا دائما لمعركة الشد والجذب الدائرة بين الطرفين، ويبقى السجال مستمرا. وعلى الرغم من التوسع الهائل لنفوذ الحرس الثوري فإن الأبجديات التأسيسية التي تضع مساحة بين الجيش والعمل السياسي -التي حرص خامنئي على عدم تحطيمها بالكلية- تجعل الحرس مجبرا على الاستعانة بالتكنوقراط من أجل العمل، كما أنه سيكون دائما بحاجة إلى الغطاء اللاهوتي الذي يمنحه له رجال الدين وعلى رأسهم خامنئي.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية